الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- فى جهوده هذه كان القرآن الكريم أبرز الشواهد التى قدمها.
- لم يكن الحديث النبوى من شواهده فى الإعراب.
- المعنى عنده مقدم عن الإعراب.
- كان ينسب القول إلى صاحبه، ولم يلجأ إلى قول مجهول ولا الروايات المتناقضة.
- دفاعه عن الرسم القرآنى- فى المشكلات الإعرابية- كان ردا للقراءات الشاذة التى خالفت هذا الرسم، ودفعا للروايات الموضوعة للتشكيك فيه.
ثالثا: الاستعانة بعلوم البلاغة:
كتب ابن عاشور فى المقدمة العاشرة من المقدمات التى تصدرت تفسيره تحت عنوان" فى إعجاز القرآن" ما يزيد عن ثمانى عشر صفحة تدور حول هذا الإعجاز وموقف المفسرين منه، وجهود البلغاء السابقين، وما استخلصه هو من آراء ونظرات، ويصعب على الدارس لهذه المقدمة أن يختار منها فقرات يمثل بها اتجاه ابن عاشور وطريقة تناوله للإعجاز القرآنى، ويصعب على الدارس بعد اختياره هذا أن يترك فقرات أو يهمل ذكرها، فالمقدمة كلها بحث متكامل وبناء قائم ونتائج منسجمة مع مقدماتها، ولا يجنى القارئ ثمار ذلك كله إلا بعد قراءة متأنية ومحاولات متكررة مستمرة فى الدرس والفهم.
وقد يشفع للدارس بعد اختياره لفقرات من هذه المقدمة أياما كانت صعوبة الاختيار أن ذكر أمثلة من تفسير الآيات الذى قام به ابن عاشور لبيان هذا الإعجاز فيه بعض ما يغنى ولو من بعيد.
قال بعد أن بين طبيعة الخوض فى وجوه الإعجاز القرآنى وتفوق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر له من خصائص حتى عجز السابقون واللاحقون منهم عن الإتيان بمثله، وكون القرآن المعجزة الكبرى للنبى صلى الله عليه وسلم، وكونه المعجزة الباقية والتى تحدى بها الرسول معانديه تحديا صريحا.
«وقد اختلف العلماء فى تعليل عجرهم عن ذلك، فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأن الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة، أو سلبهم الداعى، لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب، ويعرف هذا القول بالصرفة، كما فى المواقف للعضد، والمقاصد للتفتازانى، ولم ينسبوا هذا القول إلا إلى الأشعرى فيما حكاه أبو الفضل عياض فى الشفاء إلى النظّام والشريف المرتضى وأبى إسحاق الأسفرايين فيما حكاه عنهم عضد الدين فى المواقف، وهو قول ابن حزم، صرح به فى كتاب الفصل، وقد
عزاه صاحب المقاصد فى شرحه إلى كثير من المعتزلة» (1).
وابن عاشور يرفض مبدأ الصرفة هذا، إذ أن تقرير هذا المبدأ يعنى عدم جواز التحدى بالقرآن الكريم لكون إعجازه ليس من داخله، أو من خصائصه التى انفرد بها، وعجائبه التى تفوق بها عن سائر كلام البشر
…
ويقول:
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 103.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 104.
وذكر نصير الدين الطوسى" ت 672 هـ" إعجاز القرآن .. قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه، وقيل لصرفه
…
والكل محتمل". تجديد العقائد، ص 130، دراسة وتحقيق د. عباس محمد حسن سليمان، دار المعرفة الجامعية- الإسكندرية، 1996.
وانظر فخر الدين محمد بن عمر الرازى" 606 هـ" نهاية الإيجاز فى دراسة الإعجاز، ص 4، 5، نسخة مخطوطة بتحقيق الدكتور محمد مصطفى هدارة، حيث ذهب الرازى مؤكدا أن وجه إعجازه يكمن فى فصاحته"
ويرى ابن عاشور ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات أولها بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربى البليغ من حصول كيفيات فى نظمه، مفيدة معانى دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة، وثانيها: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف فى نظم الكلام مما لم يكن معهودا فى أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة، وثالثها: ما أودع فيه من المعانى الحكمية والإشارات إلى الحقائق العلمية والعقلية بما لم تبلغ إليه عقول البشر فى عصر نزول القرآن وفى عصور بعده متفاوتة.
ومما قدمه ابن عاشور من تلك الوجوه التى جاءت فى القرآن الكريم وما فيه من ألوان الخطاب المعجز وأفانين البلاغة.
«وفيه التنبيه على محسن المطابقة كقوله فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (2).
والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 104.
(2)
سورة الحج: الآية 4.
وانظر الزركشى: البرهان، ج 3، ص 458
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ (1)، وقوله: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (2).
ولذلك فنحن نحاول تفصيل شىء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز، نرى من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها، وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جنى شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع، فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة، وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس، وقد جاء منه فى القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة فى الانتقال.
وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصى والقدر العلى فى باب البلاغة، وبه فاق امرؤ القيس ونبهت سمعته، وقد جاء فى القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً (3)، وقوله:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ (4)، وقوله: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (5)،
(1) سورة العنكبوت: الآية 43.
(2)
سورة إبراهيم: الآية 25.
(3)
سورة مريم: الآية 4.
وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 109.
وانظر د. أحمد المطلوب، معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، ج 2، ص 170، ط 1، المجمع العلمى العراقى، 1403 هـ- 1983 م.
(4)
سورة الإسراء: الآية 24.
(5)
سورة يس: الآية 37.
وقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي (1)، وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ (2) إلى غير ذلك من وجوه البديع. ورأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشبه، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس، وأحسنه ما وقع فى القرآن كقوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (3).
احتراس عن كراهة الطعام: وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى (4) احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحلة.
والحديث هنا عن بعض وجوه البلاغة مثل حسن المطابقة، والالتفات، والاستعارة، ومحاسن التشبيه، ومدى اهتمام العرب بهما، وامتياز امرئ القيس فيهما، وما جاء فى القرآن منهما على وجوه بديعة غير مسبوقة أسكتت الفصحاء.
ويمثل التقديم والتأخير وصياغتهما فى جمل القرآن عند ابن عاشور لونا من ألوان الإعجاز، ويأتى بمثل فى هذه المقدمة، ويفصل القول فيه:
«وإن للتقديم والتأخير فى وضع الجمل وأجزائها فى القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبّه على ما يلوح منها فى مواضعه إن شاء الله.
وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى:
(1) سورة هود: الآية 44.
(2)
سورة البقرة: الآية 138.
(3)
سورة محمد: الآية 15.
(4)
سورة محمد: الآية 15.
وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 109.
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً* لِلطَّاغِينَ مَآباً إلى قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً* حَدائِقَ وَأَعْناباً إلى قوله: وَكَأْساً دِهاقاً* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (1)، فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز فى قوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أنه الجنة لأن الجنة مكان فوز. ثم كان قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً ما يحتمل لضمير (فيها) من قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها أن يعود إلى وَكَأْساً دِهاقاً وتكون (فى) للظرفية المجازية أى الملابسة أو السببية أى لا يسمعون فى ملابسة شرب الكأس ما يعترى شاربيها فى الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى (مفازا) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون (فى) للظرفية الحقيقية أى لا يسمعون فى الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا.
وهذه المعانى لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مفازا).
ولم يؤخر (وكأسا دهاقا) ولم يعقب بجملة لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً
…
إلخ (2).
فالتقديم والتأخير فى هذه الآية قد أغنى عن كثير من الكلام اللذان لولاهما لطال، واحتاج الأمر إلى كثير من التفاصيل لبلوغ المعنى المقصود، وقد كان الإيجاز فن العرب الأول، والتمكن منه والقدرة عليه معيار أساسى من معايير التصرف فى الكلام على وجه بليغ (3).
(1) سورة النبأ: الآيات من 21 إلى 35.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 111.
(3)
«سأل معاوية بن أبى سفيان صحار بن عياش العبدى عن البلاغة، فأجاب صحّار: الإيجاز، فاستفسر عنه، فقال صحار: لا تبطئ ولا تخطئ» . الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب" ت 155 هـ"، البيان والتبيين، ج 1، ص 54، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
ويقول عن لهجات العرب ولسان قريش ومن حولها من القبائل، ومجىء القرآن بأصفى اللهجات العربية، وصراحة كلماته، ومناسبة كل كلمة لموقعها فى السياق والدلالة الذاتية الكامنة فيها بحيث لا تقوم مقامها كلمة أخرى.
«وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شىء تفاوتت فى مضماره جياد ألسنتهم، وكان المجلى فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة فى المقدمة السادسة، وهو مما فسر به حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقى الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (1).
ومما أعده فى هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات فى لغة العرب دلالة على المعانى المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد فى كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها فى حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة: لا فى حقائقها مثل إيثار كلمة" حرد" فى قوله تعالى: وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (2)، إذ كان جميع معانى الحرد صالحة للإرادة فى ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن فى الكلام، فإن اقتضى الحال تصرفا فى معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير فى القرآن مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي
(1) سورة القمر: الآية 17.
(2)
سورة القلم: الآية 25.
أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ (1) فجاء فعل" أتوا" مضمنا معنى مرّوا فعدى بحرف على؛ لأن الإتيان تعدى إلى اسم القرية والمقصود فيه الاعتبار بمآل أهلها، فإنه يقال أتى أرض بنى فلان، ومر على حى كذا، وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ، بل هى معدودة فى دقائقه ونفائسه التى تقل نظائرها فى كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها (2).
وعن نظم القرآن وجمعه بين الموعظة والتشريع (3) على خلاف ما جاء من أساليب العرب
…
يقول:
(1) سورة الفرقان: الآية 40.
(2)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 113.
(3)
ذكر الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ الرحمن: 1، 2.
(4)
سورة آل عمران: الآية 7.
(5)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 116.
وعن ألفاظ القرآن وائتلافها، ونظام فواصله الذى لم يعرفه العرب قبل نزوله، وتميزه عن فنون القول السابقة له، وانتشاره بين القبائل لخفته على الأسماع والقلوب والألسن وتأثيره الروحانى
…
يقول:
«وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها فى تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة فى الأسماع، وإن لم تكن متماثلة الحروف فى الأسجاع، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير فى القبائل، مع كون مادته ولحمته هى الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه، وذلك تأثير روحانى وليس بلفظى ولا معنوى.
وقد رأيت المحسنات فى البديع جاءت فى القرآن أكثر مما جاءت فى شعر العرب، وخاصة الجناس كقوله: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (1)، والطباق كقوله: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (2)، وقد ألف ابن أبى الإصبع كتابا فى بديع القرآن. وصار- لمجيئته نثرا- أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات، وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسحر وبالشعر أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (3).
(1) سورة الكهف: الآية 104.
(2)
سورة الحج: الآية 4.
(3)
سورة الطور: الآية 30.
وانظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 119.
وانظر د. صبحى الصالح، مباحث فى علوم القرآن، ص 340.
هذا بعض ما جاء فى هذه المقدمة.
وشأن المعجزة القرآنية ووجوه الإعجاز فيها تتعدد أسبابه ولا تنتهى عند حد، وأياما كان الكلام حولها، والدراسات التى قامت بشأنها، والجهود التى بذلها العلماء المتخصصون من أهل البلاغة كالباقلانى والرمانى وعبد القاهر وعياض والسكاكى والقزوينى وابن الأثير وغيرهم، أو من أهل التفسير كالزمخشرى والفخر الرازى والطبرسى والألوسي وغيرهم، ومحاولاتهم الاقتراب من كشف أسرار بدائع نظم القرآن وتراكيبه المميزة عن سائر الكلام، والحقائق التى تضمنها والشرائع التى اشتمل عليها، وتأثيره فى النفوس والقلوب والأسماع والأرواح.
كل ذلك وغيره يمكن اعتباره بحثا متجددا عن سر عظمة القرآن، حتى يمكن القول أن لكل عصر كشوفا تضاف إلى جهود السابقين، وتهدى من بعدهم لإضافة الجديد من
هذه الكشوفات.
ودليلنا على ذلك ما قدم به ابن عاشور المعجزة الخالدة فى مقدمته المذكورة، حيث تناول بعض وجوه الإعجاز فى الكتاب الكريم فى اللفظ والمعنى والصياغة والتركيب وألوان البديع
…
إلخ، ثم راح فى ثنايا كتابه يذكر أقوال السابقين من أهل البلاغة والتفسير يقبل بعضها ويناقش ويرفض بعضها الآخر، ويسجل ما غفل عنه هؤلاء، ويأتى بالجديد من وجوه الإعجاز الكامنة فى القرآن رافضا مبدأ الصرفة التى قال به بعض المعتزلة وعلى رأسهم النظام الاعتزالى. وبعض الأعلام الآخرين الذين سبق ذكرهم.
وقد قرأنا فى الباب الأول من هذه الدراسة بعض مصادر البلاغة فى التحرير والتنوير، وقد جاء ذكر أصحاب هذه المصادر على درجات متفاوتة، وأكثر الأقوال ذكرا فى هذا التفسير كانت للجاحظ والباقلانى وعبد القاهر
الجرجانى والزمخشرى، وكان للأخير نصيبا وافرا، يتعقب ابن عاشور أقواله، إن وافقه حينا فهو يعارضه فى أحايين كثيرة كأنه ينتظر منه الذلة الواحدة ليفتح عليه بابا من النقد الشديد والسخرية الخاطفة.
ومما ذكره من أقوال عبد القاهر ما جاء فى تفسير قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (سورة البقرة: الآية 32).
«قال الشيخ فى دلائل الإعجاز ومن شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه (أى أن نفع إثر كلام وتكون لمجرد اهتمام) أن تفنى غناء الفاء العاطفة (مثلا) وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا، فأنت ترى الكلام بها مقطوعا موصولا وأنشد قول بشار:
بكرا صاحبى قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح فى التبكير
وقول بعض العرب:
فغنها وهى لك الفداء
…
إن غناء الإبل الحداء
فإنهما استغنيا بذكر إن عن الفاء، وإن خلفا الأحمر لما سأل بشارا لماذا لم يقل" بكرا فالنجاح فى التكبير" أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال" فالنجاح" لصارت من كلام المولدين (أى أجابه جوابا أحاله فيه على الذوق) وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه، وقال الشيخ فى موضوع آخر ألا ترى أن الفرض من قوله" إن ذاك النجاح فى التكبير" أن يبين المعنى فى قوله لصاحبيه" بكرا" وأن يحتج لنفسه فى الأمر بالتكبير ويبين وجه الفائدة منه أه» (1).
ومفاد هذا الكلام الذى ذكره عبد القاهر أن" إن" إذا جاءت كذلك
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 414.
" إنك أنت العليم الحكيم" وهى واقعة إثر كلام سابق فإنها تغنى- على سبيل المثال- عن الفاء العاطفة، ومجيئها على هذا النحو بعد أمرا عجيبا حيث يكون الكلام بها مقطوعا" وموصولا فى آن واحد، وعلى ذلك جاء قول بشار السابق، وإجابته لخلف الأحمر توضيح وجه الذرة فى هذا الاستعمال العربى الخالص، وما ذكره عبد القاهر فى آخر الفقرة يقاس عليه قوله تعالى حكاية عن الملائكة" إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" فبيان وجه الفائدة من قولهم هذا على هذه الشاكلة هو إقرار بأن علمهم مما علّمهم الله ولا علم لهم سواه.
ومما عارضه من أقوال البلاغيين ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (سورة فاطر الآية 43).
«واعلم أن قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ قد جعل فى علم المعانى مثالا للكلام الجارى على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب.
وأول من رأيته مثّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزوينى فى الإيضاح وفى تلخيص المفتاح، وهو مما زاده على ما فى المفتاح ولم يمثل صاحب المفتاح للمساواة بشيء، ولم أدر من أين أخذه القزوينى، فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب فى كتابه.
وإذا قد صرّح صاحب المفتاح «إن المساواة هى متعارف الأوساط وأنه لا يحمد فى باب البلاغة ولا يذم» فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع فى الكلام البليغ بله المعجز، ومن العجيب إقرار العلامة التفتازاني كلام صاحب تلخيص المفتاح وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين: جملة إثبات للمقصود، وجملة نفيه عما سواه،
فالمساواة أن يقال: يحيق المكر السيئ بالماكرين دون غيرهم، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريقة الإيجاز.
وفيه أيضا حذف مضاف إذ التقدير: ولا يحيق ضر بالمكر السيئ إلا بأهله، على أن فى قوله" بأهله" إيجازا لأنه عوض عن أن يقال: بالذين تقلدوه، والوجه أن المساواة لم تقع فى القرآن وإنما مواقعها فى محادثات الناس التى لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة» (1).
ومعارضته هنا تتمثل فى جعل قوله تعالى فى علم المعانى مثالا للكلام الجارى على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب، وأول من مثّل بهذه الآية على المساواة هو الخطيب
…
، ويتساءل ابن عاشور من أين أخذه القزوينى على الرغم من عدم ذكر عبد القاهر له، وأما عن تعريف صاحب المفتاح للمساواة" وإنه لا يحمد ولا يذم" يقول
عن مضمونه ابن عاشور: لا يقع فى الكلام البليغ فا بالك لو كان معجزا، ومن ثم يتعجب عن موافقة التفتازاني على ذلك، وراح صاحب التحرير والتنوير ينفى أن تكون فى الآية مساواة فهى ذات قصر" لا- إلا" وهو من الإيجاز لأنه يقوم مقام جملتين" إثبات ونفى"، وفيها أيضا حذف مضاف" ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فضلا عما يعود إليه الضمير فى" بأهله".
وبلاغة القرآن تبعا لهذا لم تشمل المساواة، فمكانها فى المحادثات التى تقع بين الناس حيث لا تراعى فيها آداب اللغة.
وفى قوله تعالى:
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (سورة القلم: الآية 16).
(1) التحرير والتنوير، ج 22، ص 336.
«ذكر" والْخُرْطُومِ" أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل، وقد خلط أصحاب اللغة فى ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه.
وذكر الزمخشرى فى الأساس معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقى، وانبهم كلامه فى الكشاف إلا أن قوله فيه: وفى لفظ الخرطوم استخفاف وإهانة، تقتضى أن إطلاقه على أنف الإنسان مجاز مرسل. وجزم ابن عطية أن حقيقة الخرطوم مخطم السبع، أى أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإنسان هنا استعارة كإطلاق المشفر وهو شفة البعير على شفة الإنسان، فى قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
…
ولكن زنجى غليظ المشافر» (1)
وينتقد ابن عاشور هنا أصحاب اللغة لخلطهم فى ذكر معنى" الخرطوم" حتى لم تتبين الحقيقة أو المجاز من كلامهم، كما أنه يحمل على الزمخشرى أنه ذكر معانيه المجازية فقط، وما أورده من هذه المعانى كان مبهما، وقوله فى هذه المعانى ومنها معنى" الْخُرْطُومِ" فيه استخفاف وإهانة، ويدل فى نهاية الأمر أنه مجاز مرسل، وما جزم به ابن عطية أنه أنف مثل أنف الأسد، وعلى ذلك حين يطلق على أنف الإنسان هنا فهو استعارة كما يطلق المشفر" شفة البعير" على شفة الإنسان حين يسخر منه أو يذم، وذهب ابن عاشور فى تأييد ذلك بقول الفرزدق.
وذكر فى تفسير قوله تعالى:
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ* قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (سورة الشعراء: الآية 23، 24).
(1) التحرير والتنوير، ج 29، ص 77.
«وأشار صاحب الكشاف وصرح صاحب المفتاح بأن جواب موسى بما يبين حقيقة" رب العالمين" تضمن تنبيها على أن الاستدلال على إثبات الخالق الواحد يحصل بالنظر فى السماوات والأرض وما بينهما نظرا يؤدى إلى العلم بحقيقة الرب الواحد الممتاز عن حقائق المخلوقات.
ولهذا أتبع بيانه بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أى إن كنتم مستعدين للإيقان طالبين لمعرفة الحقائق غير مكابرين، وسمى العلم بذلك إيقانا لأن شأن اليقين بأن خالق السموات والأرض وما بينهما هو الإله لا يشاركه غيره» (1).
وهو هنا يؤيد- على غير عادته- ما قال به كل من صاحب الكشاف وصاحب المفتاح فيما ذكراه عن جواب موسى عليه السلام حين سأله فرعون عن" رب العالمين" وما جاء من معنى قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ.
وذكر فى قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (سورة النساء: الآية 46).
«قال الجاحظ فى كتاب البيان عند قول عوف بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود يصف أرض نصيبك" كثيرة العقارب قليلة الأقارب" يضعون (قليلا) فى موضع (ليس)، كقولهم: فلان قليل الحياء. ليس مرادهم أن هناك حياء وإن قل:" قلت، ومنه قول العرب: قلّ رجل يقول ذلك، يريدون أنه غير موجود.
(1) التحرير والتنوير، ج 19، ص 117، 118.
وقال صاحب الكشاف عند قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (1)، والمعنى تفى التذكير والقلة مستعمل فى معنى النفى"، وإنما استعملت العرب القلة عوضا عن النفى لضرب من الاحتراز والاقتصاد، فكأن المتكلم يخشى أن يتلقى عموم نفيه بالإنكار فيتنازل عنه إلى إثبات قليل وهو يريد النفى» (2).
وعلى الرغم مما يستعين به ابن عاشور من أقوال البلاغيين فيما لا يعارضهم فيه فليس هو ناقل فحسب، وإنما هو يستخلص رأيا يضيف شيئا، وقد لجأ هنا إلى قول
الجاحظ فى وضع العرب" قليلا" مكان" ليس" ويأتى هو بمثل آخر" قلّ رجل يقول ذلك" ويتناوله بالشرح، ثم يذكر قول صاحب الكشاف ويتناوله بالتعليق والتوضيح مبينا علة هذا الاستعمال، بينما وقف الجاحظ والزمخشرى عند ذكر السبب.
ومما تهكم به الزمخشرى فى الكشاف من تأويلات الروافض ينقل عنه ابن عاشور فى تفسير قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل: 68 - 69).
«ومن لطيف النوادر ما فى الكشاف، أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل فى الآية على وآله وعن بعضهم أنه قال عند المهدى: إنما النحل
(1) سورة النمل: الآية 62.
(2)
التحرير والتنوير، ج 5، ص 77.
بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بنى هاشم، فضحك المهدى وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم» (1).
واستقل ابن عاشور كثيرا فى بيان وجوه إعجاز القرآن سواء فى الحرف الواحد، أم اللفظة الواحدة، أم الجملة الواحدة، يبين موضع كل منهم ودوره فى مقصد الآية على طريقة العرب فى كلامهم المصفى الذى تراعى فيه آداب اللغة ومحاسنها وخلوصها من أى شوب متفوقا عليها متحديا لأصحابها، فيه ما فيه من حقائق وصفاء وتأثير ونقاء، ولم يطلق أحكامه دون تعريف أو تحديد، وإنما كان فى أحكامه هذه محددا للأسباب، كاشفا عن العلات، خبيرا يفسر- قدر طاقته- كتاب الله وإيحاءاته النبيلة.
ومن ذلك ما ذكره فى تفسير قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ .... (سورة البقرة:
الآية 255).
«وجملة" لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ" تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتصافه بالقيومية، لأن من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيومها وألا يهملها، ولذلك فصلت الجملة عن التى قبلها.
واللام للملك، والمواد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه لعموم ثبت أنه لا يشذ عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر،
(1) التحرير والتنوير، ج 14، ص 210.
ولكنه زاده توكيدا بتقديم المسند- أى لا غيره- لإفادة الرد على أصناف المشركين، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان، ومن مشركى العرب، لأن مجرد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفى فى الدلالة على إبطال العقائد الضالة، فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر، وهذه بلاغة معجزة» (1).
والحديث هنا عن دور الحرف واللفظة والجملة.
الحرف: اللام لام الملك.
اللفظة: السماوات والأرض، واسم الموصول" ما" وصلته.
الجملة: الله لا إله إلا هو، له ما فى السموات والأرض.
وتفصيل ذلك:
الحرف: قد عرفنا الغرض منه.
اللفظة: السماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات.
اسم الموصول" ما" وصلته
- دلالة العموم به حيث ترتب على هذه الدلالة عدم شذوذ موجود عن ملك الله تعالى ومن ثم حصول معنى الحصر.
- زيادة هذا الحصر بالتوكيد ويتمثل ذلك بتقديم المسند" أى لا غير" وما يفيده من الرد على أصناف المشركين المذكورين، وما أفادته الجملة من تعليم التوحيد بعمومها، وإبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر.
وجملة" له ما فى السموات وما فى الأرض" تحمل تقرير وتعليل وتوحى بالعلاقة الوثيقة بينها وبين الجملة السابقة" لا إله إلا هو" على الرغم من أنها مفصولة عنها.
(1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 20.
وابن عاشور هنا فى هذا المثال- فى حديثه عن الإعجاز القرآنى- يرصد وضع الحرف واللفظة والجملة دون أن يفصل طبيعة اللغة عن دلالتها، وتوظيف اللغة على هذا النحو توظيفا يكشف عن بعض أبعاد الآية حيث يلتئم المعنى اللغوى مع المعنى البلاغى دون استطراد أو تفريع.
ويتضح دور اللغة عنده كذلك فيما ذكره فى تفسير قوله تعالى:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ (سورة النساء: الآية 34).
«ومن بديع الإعجاز صوغ قوله بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فى قالب صحيح للمصدرية وللموصولية، فالمصدرية مشعرة بأن القيامية سببها تفضيل من الله وإنفاق، والموصولية مشعرة بأن سببها ما يعلمه الناس من فضل الرجال ومن إنفاقهم ليصلح الخطاب للفريقين، عالمهم وجاهلهم، كقول السموأل أو الحارثى:
مثلى إن جهلت الناس عنّا وعنهم
…
فليس سواء عالم وجهول
ولأن فى الإتيان ب (ما) مع الفعل على تقدير احتمال المصدرية جزالة لا توجد فى قولنا: بتفضيل الله وبالإنفاق، لأن العرب يرجحون الأفعال على الأسماء فى طرق التعبير» (1).
واللغة هنا هى التى تقوم ببيان وجه الإعجاز فى الآية، فقوله تعالى فيها صالح لخطاب الفريقين المذكورين.
الجاهل: الخطاب فيه بالمصدرية التى تشعر أن سبب قوامية الرجال على النساء هو تفضيل من الله تعالى، وبما ينفقون من أموال عليهن.
(1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 40، 41.
العالم: الخطاب فيه بالموصولية التى تشعر أن سبب التفضيل بما يعلمه الناس من فضل الرجال وإنفاقهم.
كما أن إتيان (ما) مع الفعل" بما فضّل الله" إذا كان هناك تقدير للمصدرية فيه جزالة لا توجد كما لو كان القول" تفضيل الله" وبالإنفاق حيث يرجح العرب الأفعال على الأسماء فى كلامهم.
ويتضح لنا مما سبق- سواء مما ذكره ابن عاشور فى المقدمة العاشرة، أو من الأمثلة التى جاءت فى ثنايا تفسيره- أن الإعجاز القرآنى يقوم أولا على رفض مبدأ الصرفة، وأن هذا الإعجاز كامن فى القرآن ذاته، وما جاء به من أساليب تجرى على سنن العرب فى كلامهم إلا أنها أعجزت الفصحاء منهم على أن يأتوا ولو بآية من مثله فى مجال التحدى والتوكيد لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأييد له، وقد تتضافر عوامل كثيرة فى بيان وجوه الإعجاز القرآنى التى تتكشف لكل عصر سابق ولا حق والتى لا تنتهى عند حد، ولكن اللغة هى أبرز هذه العوامل، فهى التى برع فيها القوم، وهى مجال التحدى، لذا لعبت الدور الأمثل عند ابن عاشور فى بيان الإعجاز حيث يقوم كل من الحرف واللفظة والجملة بدوره فى الأداء المعجز، ولا ينفصل أى منهم فى دلالته عن الدلالات الأخرى لما تسعى إليه الآية من بيان، وكان الشعر الجاهلى عنده من المصادر الأصيلة التى أعانته على ذلك.
وابن عاشور من هذا المنطلق يمثل بحق الاتجاه العربى فى بيان الإعجاز القرآنى الذى يقوم على أصول عربية خالصة بعيدا عن اتجاه المناطقة الواقع تحت تأثير المنطق أو الفلسفة.
وأيا ما كانت وجوه الفائدة عنده من الاستعانة بثمرة جهود البلاغيين الذين ذكرهم خصوصا عبد القاهر الجرجانى ونظرية النظم عنده إلا أن استقلاله وجهوده وذوقه كانوا من أنشط العوامل فى هذا الميدان.