الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وعلى الرغم من كثرة هذه الشواهد على اختلاف ألوانها، فإن جهوده فى اللغة ظاهرة، وكانت تحليلاته تحمل دقة الحس وفهم اللغة كشف بهما ألوانا مختلفة من فصاحة اللفظة القرآنية.
- فى تناوله للمصدر كان يميل إلى المذهب البصرى الذى يعتبر المصدر أصل للمشتقات.
- يمثل الاشتقاق عنده إحدى الوسائل التى تثرى تفسيره للألفاظ، وعلى ذلك يفصّل القول فيها من حيث صياغتها وأصلها ومبناها ومعناها فى أحوالها المختلفة وما توحى به اللفظة المعنية فى السياق القرآنى.
- وكان التصريف عونا له فى تعريف الحروف الزائدة على أصل الكلمة والمقصد منها، يستفيد بجهود العلماء السابقين واختلافهم، ويضيف إليها جهوده التى حملت كثيرا من أصالة الحس ورصانة التحليل.
الإعراب:
يبدو الحرص الشديد عند ابن عاشور فى استخدام الإعراب وسيلة من وسائل تفسير الآية والكشف عن مقاصدها (1)، وقد يكون الباعث على ذلك هو إحاطة اللفظ القرآنى إحاطة تمنع الخطأ فى أدائه، واللحن فى قراءته.
وتعددت أقوال رجال المدارس النحوية المختلفة عنده، وقد يكون لكل مدرسة من هذه المدارس طابعها الذى تتميز به فى تقعيد القواعد، وتأصيل الأحكام، وقد يكون لكل نحوى منها موقفه الذى يتميز به عن غيره من النحاة أمام الشواهد القرآنية، والقراءات، والاحتجاج بالحديث النبوى، وقوانين الاطراد والعلل والأقيسة وما يتبع ذلك من اتجاهات، وقد يكون هناك اتفاق أو
(1) انظر الزركشى، البرهان فى علوم القرآن، ج 1، ص 301، طبع الحلبى، 1957، القاهرة.
وانظر الإتقان، ج 1، ص 235، النوع" الحادى والأربعون"" فى معرفة إعرابه".
اختلاف بين هذه المدارس، أو بين رجال المدرسة الواحدة فى بعض المسائل أو أغلبها، فإننا نجد فى التحرير والتنوير استعراضا لبعض هذه الأنشطة، وتسجيلا لألوان من هذه الجهود التى بذلها هؤلاء النحاة ليصبح الإعراب مادة ضرورية فى التفسير القرآنى.
وقد رأينا فى الباب الأول من هذه الدراسة عند الحديث عن مصادر النحو فى" التحرير والتنوير" تعدد المدارس النحوية وأسماء أشهر رجالها التى وردت فى هذا التفسير مثل مدرسة البصرة (1)، والكوفة (2) وبغداد (3)، والأندلس (4)، ومصر (5).
(1) وذكر ابن خلدون فى مقدمته عن الإعراب: «طال الكلام فى هذه الصناعة، وحدث الخلاف بين أهلها فى الكوفة والبصرة المصريين القديمين للعرب، وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق فى التعليم وكثر الاختلاف فى إعراب كثير من آى القرآن باختلافهم فى تلك القواعد» ، ص 755.
(2)
يقول السيوطى عن هاتين المدرستين اللتين تزعمتا النحو العربى «اتفقوا على أن البصريين أصح قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع، ولا يقيسون على الشاذ، والكوفيون أوسع رواية» . الاقتراح فى أصول النحو، ص 100، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حيدرآباد، 1310 هـ.
وذكر الدكتور عبد الرحمن السيد: «والكوفيون قبلوا كل ما جاء عن العرب، واعتدوا به، وجعلوه أصلا من أصولهم التى يرجعون إليها، ويقيسون عليها، لم يعنهم أن يقفوا عند ما روى لهم من نصوص
يستوثقون منه، ويتبينون صمته، ويكثر سماعهم لأمثاله حتى يصبح جديرا بالأخذ وموضع الاعتبار». مدرسة البصرة النحوية، نشأتها وتطورها، ص 145 - 146، دار المعارف- مصر، 1388 هـ- 1968 م.
(3)
يقول الدكتور شوقى ضيف عن نشوء المدرسة البغدادية: «اتبع نحاة بغداد فى القرن الرابع الهجرى نهجا جديدا فى دراستهم ومصنفاتهم النحوية يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعا» . المدارس النحوية، ص 245، دار المعارف، مصر، ط 4.
وانظر: د. عبد الفتاح شلبى" أبو على الفارسى"، ص 106، مطبعة نهضة مصر، القاهرة.
(4)
ويقول الدكتور شوقى ضيف عن مدرسة الأندلس واتجاهها إلى المدرسة البغدادية: «أخذت دراسة النحو تزدهر فى الأندلس منذ عصر ملوك الطوائف فإذا نحاتها يخالطون جميع النحاة السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، وغذاهم ينتهجون نهج الآخرين من الاختيار من آراء نحاة الكوفة والبصرة» . المدارس النحوية، ص 292.
(5)
ويقول عن المدرسة المصرية: «كانت فى أول نشأتها شديدة النزوع إلى المدرسة البصرية، حتى إذا كان القرن الرابع الهجرى أخذت مسرعة تترسم منهج المدرسة البغدادية وما شرعته من تصويب-
كما تظهر جهوده النحوية وآراؤه الشخصية فى قضايا الإعراب بجواز أقوال رجال هذه المدارس، ومن أمثلة ذلك، ما ذكره ابن عاشور فى تفسير الآية التالية: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (سورة الفاتحة: الآية 7).
وابن عاشور فيما ذكره هنا عن الزمخشرى صاحب الكشاف" مدرسة بغداد" فى تقديمه بيان وجه البدلية، وإيراده صحة توصيف المعرفة بكلمة" غير" التى لا تتعرف، وفيما نقله أبو حيان" مدرسة الأندلس" عن سيبويه" مدرسة البصرة" وما أراده الزمخشرى من بيان معنى" غير" لا تأويلها، لم يكن ناقلا فحسب، وإنما تظهر فعاليته ودرايته التامة بهذا الفن، وقد ذهب يذكر وجوه أخرى ل" غير" من مدارس نحوية مختلفة
…
قال بعد الفقرة السابقة:
- آراء المدرسة البصرية تارة، وتصويب المدرسة الكوفية تارة ثانية، مع تركهما تارة ثالثة والأخذ بآراء المدرسة البغدادية، ومع النفوذ إلى آراء اجتهادية تارة أخرى». المدارس النحوية، ص 371.
(1)
التحرير والتنوير، ج 1، ص 95.
وقد ذكر ما نقله ابن هشام (المدرسة المصرية) عن ابن السراج السيرافى (المدرسة البصرية) وما اختاره ابن الحاجب (المدرسة المصرية) فى أماليه، كما ذكر ابن عاشور ما نقل عن سيبويه، وبعد استعراضه لوجوه الخلاف بين هؤلاء فى (غير) ينتهى إلى (وكأن مآل المذهبين واحد) وتعليله فى ذلك أن (غير) إذا أضيفت إلى ضد موصوفها، أى ضد واحد يتساوى فى
(1) سورة النساء: الآية 95.
نقيضه تعينت له الغيرية، فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، ويوضح ذلك بهذين المثالين: فقولك (عليك بالحركة غير السكون)، هو غير قولك (مررت بزيد غير عمرو)، فالحركة ضد السكون، أو هى غير السكون، أو نقيضها تماما، وله صفة الثبات ولا تنتقل إلى غير هذه الصفة.
أما فى المثال الثانى: فعمرو فى هذا المثال لا تتحقق له الصفة الثابتة اللازمة للنقيض التام، وعلى ذلك فإن قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من النوع الأول، لأنه مع قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يتناقض تماما فى المعنى المقصود.
وكان ابن عاشور فى تتبعه لأقوال النحاة والمفسرين خصوصا الزمخشرى لا ينى أبدا عن إبداء رأيه فى هذه الأقوال مهما كان الإجماع عليها من رجال المدرسة الواحدة،
أو مع غيرها من المدارس النحوية الأخرى، مقيما الدليل على ما يذهب إليه من القرآن أو الشعر العربى القديم أو ما ذكره العلماء، ولم يعتمد ابن عاشور كثيرا على أقوال النحاة ولا المفسرين فى" الإعراب"، وما أتى به من هذه الأقوال كانت تجد منه معارضة فى أحايين كثيرة مع تقديم الدليل على صحة ما يذهب إليه، وكان يذكر دائما:«والرأى عندى، وعندى، والذى أراه» .
أما اعتماده الأكبر فى" الإعراب" فكان على ثقافته الواسعة وعمق درايته بهذا الفن.
ومن المشكلات الإعرابية التى تعرض لها فى الإعراب ما جاء فى تفسير قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (سورة النساء: الآية 162).
لا يبعدن قومى الذين همو
…
سمّ العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك
…
والطيبيين معاقد الأزر
وفى رواية يونس عن العرب، يرفع" النازلون" ونصب" الطيبين" لتكون نظير هذه الآية، والظاهر أن هذا ما يجرى وقوعه فى القرآن فى معطوفات متتابعات كما فى سورة البقرة، وفى هذه الآية، وفى قوله فى" الصائبون فى سورة المائدة"(2).
(1) ونصه: «ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء .. » . (سورة البقرة: الآية 177).
(2)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 29.
وابن عاشور- فى هذا المثال- فى دفاعه عن الرسم العثمانى وقراءة المسلمين لأمثال هذه الآية دون نكير يأتى بآيات أخرى تدل على اضطراد هذه القراءات فى القرآن الكريم على أن ذلك كان معروفا عند العرب حيث يمكن عطف الأسماء الدالة على صفات المحامد على أمثالها، فيجوز فى بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح" أخص أو أمدح"" المقيمين"، كما يجوز أيضا الرفع على الاستئناف" المقيمون" وذكر ما قاله سيبويه فى هذا الشأن، وما استدل عليه من بيتى الخرنق السابقين، وما رواه يونس بن حبيب بشأنهما، وما جرى وقوعه فى القرآن على هذا النحو.
وفى قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة: الآية 69).
ذكر ابن عاشور:
«موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدق، وإعرابها تابع لدقة الأمرين، وإعرابها يتعقد إشكاله بوقوع قوله" الصائبون" بحالة رفع بالواو فى حين أنه معطوف على اسم- إنّ- فى ظاهر الكلام.
واعلم أن هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر فى نفس السامع لقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ (1)، فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجىء الإسلام، هل هم على شىء، أو ليسوا على شىء، وهل نفعهم اتباع دينهم
(1) سورة المائدة: الآية 68.
أيامئذ، فوقع قوله «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» والآية جوابا لهذا السؤال المقدر» (1).
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكدة لجملة وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا (2)
…
إلخ، فبعد أن اتبعت تلك الجملة بما اتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيد للوعد، ووصلا لربط الكلام، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام يذكر حال المسلمين فى جنات النعيم» (3).
«فالذى أراه أن يجعل خبر" إن" محذوفا، وحذف خبر" إن" وارد فى الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه فى كتابه، وقد دل على الخبر ما ذكره بعده من قوله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .. إلخ ويكون قوله وَالَّذِينَ هادُوا عطف جملة على جملة، فيجعل الَّذِينَ هادُوا مبتدأ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه، وهو" والصابئون" وهذا أولى
من جعل" والصابئون" مبتدأ الجملة وتقدير خبر له، أى والصابئون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يقضى إلى اختلاف المتعاطفات فى الحكم مع أقحاف التقصى عن ذلك، ويكون قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مبتدأ ثانيا، وتكون" من" موصولة، والرابطة للجملة بالتى قبلها محذوفا، أى من آمن منهم، وجملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبرا عن" من" الموصولة، واقترانها بالفاء لأن الموصول شبيه بالشرط، وذلك كثير فى
(1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 268.
(2)
سورة المائدة: الآية 65.
(3)
التحرير والتنوير، ج 6، ص 268.