الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: الاستعانة بأقوال فقهاء الأمصار فى تفسير آيات الأحكام:
استعرض ابن عاشور فى تفسير هذه الآيات كثيرا من أقوال أئمة المذاهب الفقهية وأصحابهم فضلا عن الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين، وكان تفسيره للآية الواحدة زاخرا بكثير من أقوال العلماء والفقهاء حتى كأنه لم يترك قولا واحدا لما ذكروه فى الآية المطروحة أمامه، سواء ما أجمع عليه هؤلاء أو اختلفوا فيه.
واتخذ هذا الاستعراض أشكالا مختلفة عند مناقشة الآراء الفقهية، فحينا يجمع بين ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعى، أو أبو حنيفة وبعض فقهاء الأمصار كالليث بن سعد، وحينا بين ما ذهب إليه مالك والشافعى دون غيرهما، أو مالك والشافعى وبعض التابعين، أو ما روى أحمد بن حنبل فى مسنده وغيره من أصحاب الأئمة، وقد أخذ مالك فى هذا الاستعراض نصيبا أكثر من غيره من الفقهاء أصحاب المذاهب وأكثر مروياته عنه كان من الموطأ، ثم يليه أبو حنيفة والشافعى، وأخذ الإمام أحمد بن حنبل نصيبا دون هؤلاء، وكان ابن عاشور غالبا ما يعزو كل قول إلى صاحبه، أو يذكر مصدره إذا كان حديثا أو كتابا من كتب الفقه أو التفسير.
ومن ذلك ما ذكره فى قوله تعالى:
وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا (سورة البقرة: الآية 41).
«ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية، وإن كان تعلقها بها ضعيفا وهى مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين، ويتفرع عنها أخذ الأجرة على
تعليم العلم، وعلى بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة، وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم
القرآن فضلا عن الفقه والعلم، فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبى وابن سيرين ومالك والشافعى وأحمد وأبو ثور والجمهور، وحجتهم فى ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال؛ لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازى وليس فى التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة. وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم. وفى المدونة: لا بأس بالإجارة على تعليم القرآن، ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق ابن راهويه وتمسكوا بالآية، وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها أجر، كذلك وبما روى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال" دراهم المعلمين حرام" وعن عبادة بن الصامت أنه قال" علّمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلى رجل منهم قوسا فسألت النبى صلى الله عليه وسلم فقال إن تسرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها، وأجاب عن ذلك القرطبى بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر، ولا دليل على ما أجاب به القرطبى، فالوجه أن ذلك كان فى صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص فى الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق فى ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه، ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن، وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض كما علمت، وأجاب القرطبى عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان، وأما التعليم فعبادة متعدية، فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا الفارق مؤثر، وأما حديث أبى هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبى، قلت: ولا أحسب الزهرى يستند
لمثلهما، ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجبا فلا تؤخذ عليه أجرة، وقد أفتى متأخروا والحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه، قال فى الدرر وشرحه «ويفتى اليوم بصحتها أى الإجارة لتعليم القرآن والفقه، والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصى، لكن لما وقع الفتور فى الأمور الدينية جوّزها المتأخرون» أهـ (1).
لم ير ابن عاشور فى هذه الآية علاقة بينها وبين المسألة التى جعلها المفسرون متعلقة بها، وهى مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم وبعض ما فيه عبادة كالآذان وإمامة الصلاة. وعلى الرغم من ذلك يتناول هذه المسألة فيذكر من قال بجواز ذلك وهم الحسن وعطاء والشعبى وابن سيرين ومالك والشافعى وأحمد وأبو ثور والجمهور، وحجتهم فى ذلك الحديث المذكور، وهؤلاء لا يرون أن هذه الآية لا علاقة لها بهذه المسألة المتقدمة، فالمقصود بالاشتراء معناه المجازى لا الحقيقى حيث لا استبدال ولا عدول ولا إضاعة.
وقد شغلت هذه المسألة أذهان الفقهاء والعلماء كما جاء فيما نقله ابن رشد، وما ذكره ابن عاشور من" المدونة" فى جواز أخذ هذا الأجر، ومنهم من منع ذلك كابن شهاب وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، وبما روى عن أبى هريرة وعبادة بن الصامت.
وبعد أن ذكر ابن عاشور إنه لا دليل على ما أجاب به القرطبى وإن هذه المسألة شغلت الناس فى صدر الإسلام، وقد منع أخذ الأجر هذا لظروف الدعوة وأحوال الناس إبّان ذلك، واستبعد أن تكون الآية المذكورة متعلقة بهذا الغرض.
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 467.
ثم يعود إلى ذكر ما أجاب به القرطبى عن القياس ويؤيده، وينتقد حديث أبى هريرة وعبادة كما بينه القرطبى، ويرفض أن يستند الزهرى لمثلهما ولا للآية ولا لهذا القياس.
ويعود إلى ما أفتى به متأخرو الحنيفة
…
وينتهى إلى جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن والفقه.
ولا حاجة بنا إلى التذكير أن حاجة الناس وظروفهم، وطبيعة ما يلم بهم من عوامل تسمح بمضمون هذه الفتوى خصوصا ما نعلمه عن كثير من البلاد الإسلامية، أو التى يقيم فيها مسلمون غير الناطقة بلغة القرآن فى حاجة إلى دعاة متخصصين متفرغين لرسالتهم ليستطيعوا مواجهة الدعاوى التبشيرية، أو النظريات الإلحادية، فضلا عن المراحل التعليمية المختلفة فى بلاد الإسلام حيث يحتاج فيها النشئ والشباب إلى رعاية دينية وثقافة إسلامية لا يمكن تركهما لجهود متطوعة بلا ضوابط لا بدّ منها، كما أن المساجد بما فيها المساجد التى تقام بالجهود الذاتية للجماعات أو الأفراد لا بدّ أن يتولى الإمامة والخطابة فيها من هم على دراية كافية بالعلم الدينى الذى يجعلهم أهلا لهذه الوظيفة يرتبطون بها دون أن تشغلهم المطالب اليومية.
ومما ذكره فى تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (سورة البقرة: الآية 124).
«وفى الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعنى سائر ولايات المسلمين: الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر الدين قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين
الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، وفى تفسير ابن عرفة تسليم ذلك، ونقل ابن عرفة عن المازرى والقرطبى عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق
وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصرى فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدى السفهاء والفساق فى الأرض وهذا حكم كل ولاية فى قول علماء السنة وما نقل عن أبى حنيفة من جوار كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازى الجصاص هو خطأ فى النقل» (1).
وأمر هذه" الولايات" قد شغل صفحات طويلة فى تاريخ الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس حولها خصوصا" الخلافة" ووقفت الفرق الإسلامية مواقف شتى أمامها كالشيعة والمعتزلة والخوارج وسلف الأمة وغيرهم، وقد رأينا ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية يذكر كثيرا من الأقوال، ويستعرض بعض الآراء فيما ذكره المفسرون والفقهاء والمتكلمون وأصحاب المذاهب، ثم ينتهى إلى قول علماء السنة فى أمر الخلافة موضحا سبب ما قال به هؤلاء، وذلك- كما قلنا- كان دأب ابن عاشور فى تفسير كل آية من آيات الأحكام، يجمع فى تفسير كل آية منها الآراء المتفقة والمختلفة، ويستخلص منها رأيا أو موقفا، أو يقول برأى مستقل عن ذلك
(1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 707.
جميعا، وقد رأيناه فى المثال السابق يذهب إلى تأييد ما أجمع عليه الفقهاء من أهل السنة دون تعصب أو هجوم على من خالفهم.
ذكر فى تفسير قوله تعالى:
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (سورة النساء: الآية 22).
ووجوه الخلاف هنا حول" الزنى والحرمة" فيما ذهب إليه مالك والشافعى، ما جاء فى" الرسالة" وما يروى عن عكرمة عن ابن عباس، وقول الزهرى وربيعة والليث فى أن الزنا" ينشر الحرمة"، وما قال به أبو حنيفة وابن ماجشون وقوله مات مالك على" الزنا ينشر الحرمة" فضلا عن قول ابن المواز" هو مكروه" وما وقع فى المدونة، والأكثر على الوجوب، وما تأوله بعضهم على الكراهة، وابن عاشور بعد عرضه لكل ذلك يقول:
(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 290.
وهو فضلا عما ذكره المفسرون من تأويل فى معنى الاستثناء أو حملهم فيما لم يقرره الإسلام فى عدم صحة نكاح زوجة الأب بعد وفاته يبدى ما ظهر له من قوله تعالى إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فالحكم كان واقعا على ما ترتب من تقاليد فى عصر الجاهلية، ومن ثم يتعذر تداركه للأسباب التى ذكرها.
وذكر فى قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ (سورة الأنعام: الآية 90).
«والمذاهب فى هذه المسألة أربعة: المذهب الأول مذهب مالك: إن شرائع من قبلنا تكون أحكاما لنا، لأن الله أبلغها إلينا. والحجة على ذلك ما ثبت فى الصحاح من أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى قضية الربيع بنت النضر حين كسرت ثنية جارية عمدا أن تكسر ثنتيها فراجعته أمها وقالت
(1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 291.
: والله لا تكسر ثنية الربيع، فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم" كتاب الله القصاص"، وليس فى كتاب الله حكم القصاص فى السن إلا ما حكاه عن شرع التوراة بقوله وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إلى قوله:
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ (1).
وما فى الموطأ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول فى كتابه وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (2)، وإنما قال الله حكاية عن خطابه لموسى- عليه السلام وبظاهر هذه الآية لأن الهدى مصدر مضاف مظاهره العموم- ولا يسلم كون السياق مخصصا له كما ذهب إليه الغزالى، ونقل علماء المالكية عن أصحاب أبى حنيفة مثل هذا. وكذلك نقل عنهم ابن حزم فى كتابه الإعراب فى الحيرة والالتباس الواقعين فى مذاهب أهل الرأى والقياس. وفى توضيح صدر الشريعة حكايته عن جماعة من أصحابهم ولم يعينه. ونقله القرطبى عن كثير من أصحاب الشافعى. وهو منقول فى كتب الحنيفة عن عامة أصحاب الشافعى.
المذهب الثانى: ذهب أكثر الشافعية والظاهرية: أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. واحتجوا بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (3).
ونسب القرطبى هذا القول لكثير من أصحاب مالك وأصحاب الشافعى.
(1) سورة المائدة: الآية 45.
(2)
سورة طه: الآية 14.
(3)
سورة المائدة: الآية 48.
الثالث: إنما يلزم الاقتداء بشرع إبراهيم- عليه السلام لقوله تعالى:
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (1) ولم أقف على تعيين من نسب إليه هذا القول.
الرابع: لا يلزم إلا اتباع شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع نسخت ما قبلها ولم أقف على تعيين صاحب هذا القول. قال ابن رشد فى المقدمات:
وهذا أضعف الأقوال» (2).
وهو هنا يعرض مسألة" شرائع من قبلنا تكون أحكاما لنا" من خلال أربعة مذاهب:
الأول: عن مالك وأصحابه، والثانى: عن أكثر الشافعية والظاهرية، والثالث والرابع: لم يقف ابن عاشور على تعيين صاحبيهما، وعلى الرغم من ذلك فقد أتى بهما ليحيط الآية- على عادته- بأغلب ما قيل فيها من تفسير.
ونقول فيما جاء عن هذه المذاهب:
إن ما ثبت فى الصحاح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قضية الربيع بنت النضر، وقوله صلى الله عليه وسلم" كتاب الله القصاص" وكتاب الله هنا هو القرآن، والمعنى العام لهذا الحديث هو العدل، وما حكاه القرآن عن شرع التوراة فى قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها .... الآية.
فالضمير فى" عليهم" يعود على أتباع التوراة، وقوله عليه السلام:«من نسى الصلاة فليصلها إذ ذكرها» . فالصلاة هنا هى الصلاة التى تعلمها المسلمون منه حيث يقرءون فيها بعض آى القرآن الذى نزل بعد موسى عليه السلام.
(1) سورة النحل: الآية 123.
(2)
التحرير والتنوير، ج 7، ص 358.