الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما الخوارج فقالوا: إن تارك الشيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد فى النار، فالأعمال جزء من الإيمان، وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك الحرمات ولو صغائر، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر- وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والندوبات يوجب الكفر والخلود فى النار، وكذلك فعل المكروهات قالت الإباضية من الخوارج أن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذى سمعناه من طلبتهم، وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج فى أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم فى مقاديرها ومذاهب المعتزلة فى هذا الموضوع غير منضبطة (1).
وموقف ابن عاشور من الخوارج والمعتزلة فيما ذهبوا إليه فى" ماهية الإيمان" وتركبه من اعتقاد ونطق وعمل، وإبطال الإيمان إذا اختل واحد منها، فيما وجهه إلى أصحاب هذين المذهبين نقدا يتمثل فيما ذكره حول عدم انتظام تقديرهم واختلال دعواهم، ولا يؤيد هذه الدعاوى سوى تعلقهم بظواهر بعض الآثار وإهمال ما يعارضها من مثلها.
وفى الفقرة الأخيرة نجد أن ابن عاشور يوجه نقدا آخر إلى الخوارج ولا تبدو موافقته على قولهم" تارك الشيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد فى النار" ويختم الفقرة باتهام المعتزلة بما خالفوا فيه الخوارج فى تقدير الأعمال التى تستوجب هذا التكفير بعدم انضباط مذهبهم.
سادسا: البهائية:
رأينا ما كان عليه الاتفاق أو الاختلاف بين ابن عاشور والمذاهب السابقة، كان يأخذ من أقوال رجالها أو يترك، ولا تفارقه الرغبة الصادقة فى
(1) التحرير والتنوير ج 1 ص 268.
الإقناع والإنصاف دون التحير لغير الحقيقة التى يؤمن بها، مهتديا بما استطاع جمعه من أقوال، وما قام به من تحليل، وما عقده من وجوه المقارنة، وما فرضته المناسبة من تاريخ لبعض هذه المذاهب، وهو فى اختلافه لم يبالغ، ولم يكفر أحدا من أصحابها طالما هذا الاختلاف فى دائرة الإسلام، ولا يمس أصلا من أصول العقيدة، والبهائية قد خرجت من هذه الدائرة، ومست أصلا من أصول الدين حين حاولت أن تثبت نبوءة بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
ذكر فى تفسير قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (1).
«وقد أجمع الصحابة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعرف ذلك وتواتر بينهم فى الأجيال من بعدهم، ولذلك لم يترددوا فى تكفير مسيلمة والأسود العنسى فصار معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلهم.
وهذا النوع من الإجماع موجب العلم الضرورى كما أشار إليه جميع علمائنا، ولا يدخل هذا النوع فى اختلاف بعضهم فى حجية الإجماع إذ المختلف فى حجيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة، وفى كلام الغزالى فى خاتمة كتاب الاقتصاد فى الاعتقاد مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير، وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمه إلزاما فاحشا ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما.
ولذلك لا يتردد مسلم فى تكفير من يثبت نبوءة لأحد بعد محمد صلى
(1) سورة الأحزاب: الآية 40.
الله عليه وسلم وفى إخراجه من حظيرة الإسلام، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابية والبهائية وهما نخلتان مشتقتان ثانيتهما من الأولى، وكان ظهور الفرقة الأولى فى بلاد فارس فى حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق، وكان القائم بها رجل من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد على محمد، كذا اشتهر اسمه، كان فى أول أمره من غلاة الشيعة الإمامية، أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الإحسائى الذى كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهى الطريقة المتلقاة عن الحلاج، وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما أظهر نخلته على محمد هذا لقب نفسه باب العلم فغلب عليه اسم الباب، وعرفت نحلته بالبابية وادعى لنفسه النبوءة، وزعم أنه أوحى إليه بكتاب اسمه (البيان) وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ (1).
وكتاب البيان مؤلف بالعربية الضعيفة مخلوط بالفارسية وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة 1266 فى تبريز.
وأما البهائية فهى مؤلف شعبة من البابية تنسب إلى مؤسسها الملقب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين على من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد إلى أدرنة ثم عكا، وفيها ظهرت نحلته، وهم يعتقدون بنبوءة الباب، وقد التف حوله أصحاب نحلة البابية وجعلوه خليفة الباب فقام اسم البهائية مقام اسم البابية، فالبهائية هم البابية وكان البهاء قد بنى بناء فى جبل الرمل ليجعله مدفنا لزمان (الباب) وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية فى سجن عكا فلبث فى السجن سبع سنوات، ولم يطلق من
(1) سورة الرحمن الآية 3، 4.
السجن إلا عند ما أعلن الدستور التركى، فكان فى عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ فرحل متنقلا فى أوروبا وأميركا مدة عامين، ثم عاد إلى حيفا فاستقر بها إلى أن توفى سنة 1340 هـ وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته فتفرقوا فى الزعامة وتضاءلت نحلتهم.
فمن كان من المسلمين متبعا للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتد عن دينه تجرى عليه أحكام المرتد. ولا يرث مسلما ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم: إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفّرنا الغرابية من الشيعة لقولهم: بأن جبريل أرسل إلى على، ولكنه شبه له محمد بعلى إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب وكذبوا فبلغ الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم زعموه
غير المعيّن من عند الله (1).
ويذكر فى نهاية تفسيره لهذه الآية:
(1) التحرير والتنوير ج 22 ص 46 - 47.
(2)
التحرير والتنوير ج 22 ص 46 - 47.
يقول د. محمد على أبو ريان:" تطور الخلاف حول الإمامة عبر تاريخ الإسلام، وتمخض هذا الصراع السياسى عن ظهور فرق ومذاهب أصولية، وقد انتشرت آراء هذه الفرق، التى نشأت أصلا من الاختلاف حول الإمامة- فى ربوع العالم الإسلامى وهى لا تزال قائمة بين ظهرانينا مثل الإسماعيلية والبهرة والقاونية والنصيرية ومذهب الدروز، وأخيرا البهائية التى اعلنت بخلاف الفرق السابقة خروجها السافر على الإسلام، ونسخت سائر الأديان واعتبر أصحابها أن الدين البهائى هو البوتقة التى انصهرت فيها سائر الأديان السابقة" تاريخ الفكر الفلسفى فى الإسلام ص 120.
وقد استعرض ابن عاشور فى تفسيره لهذه الآية تاريخ البابية والبهائية ومزاعمهما فى استمرار النبوة والوحى، والمسلمون مجمعون على أن محمدا- صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن ادّعى نبوة أو وحى بعده- صلوات الله عليه- خارج عن ملة الإسلام، وتجرى عليه أحكام المرتد ولا يرث مسلما، ويرثه جماعة المسلمين، وانتهى ابن عاشور إلى ان البهائية عدت فى الأديان والملل ولم تعد فى الأحزاب.
وأمثال هؤلاء الغلاة من البابية والبهائية وغيرهما يستغلون أصحاب العقول الغائبة لتحقيق أغراض نفعية، أو أنهم يحاولون محاربة الإسلام بمثل هذه الدعاوى الباطلة، والملحوظ فى تاريخ المذاهب الاعتقادية التى تخلو من المغالاة أو التطرف أنها قد انتجت فكرا وعلما وعملا، فالتصوف السنى كانت ميادينه المهمة الإشارات والأخلاق والزهد والمحاولات المستمرة فى التوفيق بين الحقيقة والشريعة، والمعتزلة كانوا أرباب المعانى والبيان، والدفاع عن الدين بالأدلة العقلية، والمعتدلة من الشيعة الاثنى عشرية خصوصا بعد القرن الثالث الهجرى قد وجّهوا نقدا شديدا للنزعة الإخبارية فى تفسير القرآن الكريم، وهى نزعة تعتمد على أقوال مغالى فيها منسوبة لأئمة آل البيت النبوى الكريم، ومن ثم استعانوا بوسائل جديدة على المذهب الإمامى فى ميدان التفسير القرآنى من مثل الحديث النبوى سواء من طرقهم، أو من طرق كتب الصحاح عند أهل السنة بشروط ارتضوها، كما استعانوا بأقوال الصحابة والتابعين والقصص والإسرائيليات وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ فضلا عن اللغة والشعر والأعراب وغير ذلك من وسائل التفسير بالرواية، أو الدراية، كما أخرج علماء هذا المذهب إلى الساحة الفكرية فنونا متنوعة فى سائر العلوم الأخرى.
والخوارج على الرغم من تعنت الكثيرين منهم انتجوا أدبا- شعرا ونثرا- عبروا فيه عن تجاربهم وتطلعاتهم.
وأهل السنة والأشاعرة (1) أصحاب جهود فى علوم الإسلام وغيرها من العلوم كالآداب والفلسفة والمنطق والتاريخ والطب والهندسة والسياسة والحكم والإدارة.
أما البابية أو البهائية فقد اعتمدت على مزاعم باطلة وتعسف أبله لبعض آيات سورة الرحمن كما مر بنا فى عرض ابن عاشور لها، وأما المضحك حقا ففي زعم" باب العلم هذا" وكتابه" البيان" فإنه- كما يقرر ابن عاشور- عربيته ضعيفة مخلوط بالفارسية، والله أعلم كيف كان هذا الخلط.
وعلى أى حال لم تنتج هذه الملة فكرا ولا عملا وإنما هى شعوذة وادعاءات كاذبة تضاءل تأثيرها بعد موت صاحبها.
(1) انظر إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.
ج 2 ص 146، 150، 178، 185.
ج 4 ص 208.
ج 5 ص 7، 62.
ج 6 ص 195، 311.