الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَادِمٍ لِضَعْفِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالْأَبُ يَقْوَى عَلَى إخْدَامِهِمْ، وَلِابْنِ وَهْبٍ لَا خِدْمَةَ عَلَيْهِ، بِهِ قَضَى أَبُو بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ، وَأَرَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْخِدْمَةِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْإِسْكَانِ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ وَأَرَى أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْخِدْمَةِ إلَخْ يَعْنِي أَنَّ اللَّخْمِيّ رَأَى أَنْ يُفَصِّلَ فِي الْخِدْمَةِ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي السُّكْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَلَا شَيْءَ لِحَاضِنٍ لِأَجْلِهَا)
ش: وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ يَتَامَى كَانَ لِلْأُمِّ أَجْرُ الْحَضَانَةِ إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَالْأَوْلَادُ مَيَاسِيرُ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِمْ وَلَوْ لَمْ تَحْضُنْهُمْ، وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً فَقَالَ مَالِكٌ لَا نَفَقَةَ لَهَا.
وَمَرَّةً قَالَ: لَهَا النَّفَقَةُ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ الْأَبِ، وَقَالَ أَيْضًا: تُنْفِقُ بِقَدْرِ حَضَانَتِهَا إذَا كَانَتْ لَوْ تَرَكَتْهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ حَاضِنٍ، فَجَعَلَ لَهَا فِي هَذَا الْقَوْلِ الْآخَرِ دُونَ النَّفَقَةِ، وَأَرَى إنْ هِيَ تَأَيَّمَتْ لِأَجْلِهِمْ وَكَانَتْ هِيَ الْحَاضِنَةَ وَالْقَائِمَةَ بِأَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَرَكَتْهُمْ وَتَزَوَّجَتْ أَتَى مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَكَانَ مِنْ النَّظَرِ لِلْوَلَدِ كَوْنُهُمْ فِي نَظَرِهَا وَخِدْمَتِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَأَيَّمَتْ لِأَجْلِهِمْ أَوْ كَانَتْ فِي سِنِّ مَنْ لَا يَتَزَوَّجُ كَانَ لَهَا الْأُجْرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ نَفَقَتِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَنْ يَخْدُمُهُمْ أَوْ اسْتَأْجَرَتْ مِنْ يَقُومُ بِخِدْمَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ نَاظِرَةٌ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْوَلَدِ فَقَطْ لَمْ أَرَ لَهَا شَيْئًا، انْتَهَى. وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْبُيُوعِ]
(كِتَابُ الْبُيُوعِ) هَذَا أَوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْمُخْتَصَرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ طَرِيقَةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النِّكَاحَ وَتَوَابِعَهُ فِي الرُّبْعِ الثَّانِي وَالْبَيْعَ وَتَوَابِعَهُ فِي الرُّبْعِ الثَّالِثِ، وَالْمَعْنَى: هَذَا بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ الْبَيْعُ وَأَحْكَامُهُ. وَبَابُ الْبَيْعِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إذْ لَا يَخْلُو مُكَلَّفٌ غَالِبًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِهِ، وَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: يَكْفِي رُبْعُ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ بِشَيْءٍ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ النِّكَاحِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْقَبَسِ عَنْ الْقَاضِي الزَّنْجَانِيِّ أَنَّ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ عَقْدَانِ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا قِوَامُ الْعَالَمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْغِذَاءِ وَمُفْتَقِرًا إلَى النِّسَاءِ وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى يَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ إلَى آخِرِهِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ الْعَمَلُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَرِزُ مِنْ إهْمَالِ ذَلِكَ فَيَتَوَلَّى أَمْرَ شِرَائِهِ وَبَيْعِهِ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَغَيْرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ، وَلَا يَتَّكِلُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ أَوْ يَعْرِفُهَا وَيَتَسَاهَلُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ وَعُمُومِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
قَالَ سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ فِي فَضْلِ خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ: يَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ؛ فَإِنْ فَعَلَ أَتَى بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ - مِنْ الْكِبْرِ،.
وَإِنْ عَاقَهُ عَائِقٌ اسْتَنَابَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدَّرْسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيُكَرِّهُ، فَإِذَا قَامَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفِي السُّوقِ مَا قَدْ عَلِمَ مِنْ جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا، انْتَهَى. وَالْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ الشَّيْءَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ أَوْ أَدْخَلَهُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أَيْ بَاعُوهُ، وَقَالَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] .
وَفِي الْحَدِيثِ «لَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» أَيْ لَا يَشْتَرِ عَلَى شِرَائِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ الْأَضْدَادِ: قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ
فِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] مَعْنَاهُ بَاعُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَذَكَرَ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَنَّ لُغَةَ قُرَيْشٍ اسْتِعْمَالُ بَاعَ إذَا أَخْرَجَ وَاشْتَرَى إذَا أَدْخَلَ، قَالَ: وَهِيَ أَفْصَحُ، وَعَلَى ذَلِكَ اصْطَلَحَ الْعُلَمَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ، وَأَمَّا شَرَى فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ فَفَرْقٌ بَيْنَ شَرَى وَاشْتَرَى، وَالشِّرَاءُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَالْبَيِّعَانِ وَالْمُتَبَايِعَانِ: الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّعٌ وَبَائِعٌ وَمُشْتَرٍ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ، وَنَصُّهُ: الْبَيِّعَانِ تَثْنِيَةُ بَيِّعٍ، وَهُوَ يُقَالُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي كَمَا يُقَالُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، انْتَهَى. وَعَرَّفَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ لُغَةً بِأَنَّهُ: إعْطَاءُ شَيْءٍ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، أَوْ مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَيُقَالُ: بَاعَ الشَّيْءَ يَبُوعُهُ بَوْعًا إذَا قَاسَهُ بِالْبَاعِ.
وَهُوَ قَدْرُ مَدِّ الْيَدَيْنِ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَهَذَا وَاوِيُّ الْعَيْنِ، وَالْبَيْعُ يَائِيُّ الْعَيْنِ، وَأَبَعْتُ الشَّيْءَ عَرَّضْتُهُ لِلْبَيْعِ وَاسْتَبْتَعْتُهُ الشَّيْءَ أَيْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنِّي، وَيُقَالُ بَايَعْتُهُ مِنْ الْبَيْعِ، وَمِنْ الْبَيْعَةِ هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ ضَرُورِيَّةٌ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ.
(قُلْتُ:) وَمَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ إلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْبَاجِيُّ فَقَالَ: إنَّ الْأَقْرَبَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَلَا تَحْتَاجُ إلَى حَدٍّ وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يُعَرِّفْهُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ وَرَدَّ ابْنُ عَرَفَةَ عَلَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْبَاجِيِّ فَقَالَ: قُلْت: الْمَعْلُومُ ضَرُورَةُ وُجُودِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عِلْمُ حَقِيقَتِهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَجِّ، انْتَهَى.
(قُلْت:) وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ: دَفْعُ عِوَضٍ فِي مُعَوَّضٍ، قَالَ وَيَدْخُلُ تَحْتَهُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ.
وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَقَائِقَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا يَنْبَغِي تَعْرِيفُ الصَّحِيحِ مِنْهَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَمَعْرِفَتُهُ تَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةَ الْفَاسِدِ أَوْ أَكْثَرَهُ، فَقَالَ: نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، وَيَعْتَقِدُ قَائِلُ هَذَا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ، انْتَهَى. وَلَفْظَةُ الْعِوَضِ فِي التَّعْرِيفَيْنِ تُوجِبُ خَلَلًا فِيهِمَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْبَيْعِ أَوْ مَا هُوَ مَلْزُومٌ لِلْبَيْعِ، انْتَهَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِوَضَ هُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَمَعْرِفَتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ النَّوْعِ عَلَى مَعْرِفَةِ جِنْسِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَازِمٌ وَمَلْزُومٌ وَمَعْرِفَةُ أَحَدِهِمَا لَازِمٌ لِمَعْرِفَةِ الْآخَرِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَلْزُومٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْمَعْقُودُ لَزِمَ وُجُودُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ عَقْدَيْنِ، فَتَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ الْعِوَضِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْبَيْعِ أَوْ مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مَلْزُومٌ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْبَيْعِ تَوَقَّفَتْ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ فِي حَدِّهِ فَجَاءَ الدَّوْرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْإِيرَادِ، وَعَزَا ابْنُ عَرَفَةَ التَّعْرِيفَ الْأَوَّلَ لِأَحَدِ نَقْلَيْ اللَّخْمِيّ أَنَّ الْبَيْعَ التَّعَاقُدُ وَالتَّقَابُضُ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ التَّعَقُّبَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ مَا ذَكَرَ، وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي لِلْمَازِرِيِّ وَالصَّقَلِّيِّ وَتَعَقَّبَهُمَا بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْمِلْكِ لَازِمٌ لِلْبَيْعِ وَأَعَمُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِغَيْرِهِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، وَكَوْنُهُ بِعِوَضٍ يُخَصِّصُهُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا يُصَيِّرُهُ نَفْسَ الْبَيْعِ، قَالَ وَيَدْخُلُ فِيهِ النِّكَاحُ وَالْإِجَارَةُ، وَفِي تَتِمَّاتِ الْغَرَرِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ مَنْ قَالَ: أَبِيعُكَ سُكْنَى دَارِي سَنَةً فَذَلِكَ غَلَطٌ فِي اللَّفْظِ.
وَهُوَ كِرَاءٌ صَحِيحٌ، قَالَ: وَقَوْلُهُ: الْعِوَضُ أَخَصُّ مِنْ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ لِثُبُوتِهِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ لِابْنِ بَشِيرٍ النِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى الْبُضْعِ بِعِوَضٍ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْعِوَضُ الْبَدَلُ وَنَحْوُهُ، قَالَ الزُّبَيْدِيُّ: يُقَالُ: أَصَبْتُ مِنْهُ الْعِوَضَ، وَقَسَّمَ النُّحَاةُ التَّنْوِينَ أَقْسَامًا أَحَدُهَا تَنْوِينُ الْعِوَضِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ، انْتَهَى بِالْمَعْنَى.
(قُلْت:) وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ السَّلَمِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ فَقَالَ: نَقْلُ الْمِلْكِ عَلَى عِوَضٍ، انْتَهَى. وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْمَازِرِيِّ فَقَطْ قَالَ عَنْهُ: وَهُوَ يَشْمَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِدَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ
قَالَ: وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ لَمْ يَشْمَلْهُ لَكِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَكُونُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُمْ صَحِيحَةً لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمِلْكَ قَدْ انْتَقَلَ عَنْ حُكْمِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْتَقِلْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ خَلِيلٌ، وَإِنْ أَرَدْتُ إخْرَاجَهُ بِوَجْهٍ لَا شَكَّ فِيهِ فَزِدْ بِوَجْهٍ جَائِزٍ، انْتَهَى كَلَامُهُ.
(قُلْت:) اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعُمُومِ الَّذِي لَا تَخْصِيصَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَيْعٌ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْعُمُومِ الَّذِي يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَيْعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ إبَاحَةَ كُلِّ بَيْعٍ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ:{وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كُلِّ بَيْعٍ فِيهِ تَفَاضُلٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ التَّفَاضُلَ الْمَمْنُوعَ مِنْ الْجَائِزِ، وَقِيلَ: إنَّ الْإِجْمَالَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيمُ بَعْضِ الْبُيُوعِ فَصَارَتْ الْآيَةُ مُحْتَاجَةً إلَى بَيَانِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَهَا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ مِنْ الِاعْتِذَارِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْفَاسِدِ بَيْعًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ يَرِدُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ أَسْئِلَةٌ وَأَصْلُهَا لِابْنِ رَاشِدٍ وَعَنْهُ نَقَلَهَا الشَّارِحُ الْكَبِيرُ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْبَيْعَ عِلَّةٌ فِي نَقْلِ الْمِلْكِ يُقَالُ: انْتَقَلَ الْمِلْكُ لِمُشْتَرِي الدَّارِ؛ لِأَنَّهُ ابْتَاعَهَا، وَالْعِلَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْمَعْلُولِ فَلَا يُمْكِنُ حَدُّ الْبَيْعِ بِالنَّقْلِ. الثَّانِي أَنَّ النَّقْلَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ مَجَازٌ فِي الْمَعَانِي، وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمِلْكَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا هُوَ التَّصَرُّفُ اُنْتُقِضَ بِتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ؛ فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مَالِكَيْنِ وَهُمَا يَتَصَرَّفَانِ.
وَقَدْ يُوجَدُ الْمِلْكُ وَلَا تَصَرُّفَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُوجَدَانِ مَعًا فِي الْمَالِكِ الرَّشِيدِ، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ مَجْهُولَةً فَيَكُونُ قَدْ عَرَّفَ الْبَيْعَ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ اهـ.
(قُلْت:) السُّؤَالُ الْأَوَّلُ قَرِيبٌ مِنْ الْإِيرَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالْحَدِّ التَّامِّ أَوْ النَّاقِصِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّعْرِيفِ بِالرَّسْمِ الَّذِي يَكْفِي فِيهِ التَّعْرِيفُ بِلَازِمِ الشَّيْءِ، وَأَجَابَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْهُ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَدٍّ مَعَ مَحْدُودِهِ تَقُولُ: هَذَا إنْسَانٌ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَيُجَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي بِأَنَّ النَّقْلَ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ، وَيُجَابُ عَنْ السُّؤَالِ الثَّالِثِ بِنَحْوِ مَا أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ بَلْ يَكْفِي تَصَوُّرُهُ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ عَرَّفَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الْمُوفِي ثَمَانِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ فَقَالَ: قَاعِدَةُ التَّصَرُّفِ وَقَاعِدَةُ الْمِلْكِ اعْلَمْ أَنَّ الْمِلْكَ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ضَبْطُهُ؛ فَإِنَّهُ عَامٌّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ التَّصَرُّفُ؛ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَمْلِكُ وَلَا يَتَصَرَّفُ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ عَنْ التَّوْضِيحِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْأَعَمِّ مِنْ وَجْهٍ وَالْأَخَصِّ مِنْ وَجْهٍ يَجْتَمِعَانِ فِي صُورَةٍ وَيَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي صُورَةٍ، وَالْعِبَارَةُ الْكَاشِفَةُ عَنْ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَنَّهُ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُقَدَّرُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ يَقْتَضِي تَمْكِينَ مَنْ يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالْمَمْلُوكِ وَالْعِوَضِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ. أَمَّا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ فَلِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مُتَعَلِّقِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ، وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَيْسَ وَصْفًا حَقِيقِيًّا، بَلْ يُقَدَّرُ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الْمُفِيدَةِ فِي الْمِلْكِ، وَقَوْلُنَا: فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنَّ الْأَعْيَانَ تُمْلَكُ بِالْبَيْعِ، وَالْمَنَافِعَ بِالْإِجَارَةِ، وَقَوْلُنَا: يَقْتَضِي انْتِفَاعَهُ بِالْمَمْلُوكِ لِيُخْرِجَ تَصَرُّفَ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ وَالْقَاضِي، وَقَوْلُنَا: الْعِوَضُ عَنْهُ لِيُخْرِجَ الْإِبَاحَةَ فِي الضِّيَافَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَأْذُونٌ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَمْلُوكَةً عَلَى الصَّحِيحِ وَلِتُخْرِجَ أَيْضًا
الِاخْتِصَاصَاتُ بِالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ وَمَقَاعِدِ السُّوقِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهَا مَعَ التَّمَكُّنِ الشَّرْعِيِّ مِنْ التَّصَرُّفِ.
وَقَوْلُنَا: مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ لِمَانِعٍ كَالْحَجْرِ وَالْوَقْفِ إذَا قُلْنَا إنَّهُ عَلَى مِلْكِ وَاقِفِهِ. ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ دُونَ الْمَنْفَعَةِ كَبُيُوتِ الْمَدَارِسِ تَرْجِعُ إلَى الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي الضِّيَافَةِ فَهِيَ مَأْذُونٌ فِيهَا لِمَنْ قَامَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْجَامِكِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُحَصَّلٌ فِيهَا لِمَنْ حَصَلَ لَهُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَلَا جَرَمَ صَحَّ أَخْذُ الْعِوَضِ بِهَا وَعَنْهَا
، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ الْمِلْكُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ.؟ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ أَحَدُ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَنَّهُ إبَاحَةٌ خَاصَّةٌ فِي تَصَرُّفَاتٍ خَاصَّةٍ وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ ذَلِكَ الْمَمْلُوكِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَرَّرَتْ قَوَاعِدُ الْمُعَاوَضَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ وَشُرُوطُهَا وَأَرْكَانُهَا، وَخُصُوصِيَّاتُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنَّهُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ مُقَدَّرٌ يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقُ الْإِبَاحَةِ، وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ مِنْ بَابِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ بَلْ فِي الْأَذْهَانِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَنَا أَنْ نُغَيِّرَ الْحَدَّ فَنَقُولُ: الْمِلْكُ إبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ صَاحِبِهَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَأَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، فَبِهَذَا اللَّفْظِ اسْتَقَامَ الْحَدُّ وَظَهَرَ أَنَّ الْمِلْكَ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ الَّذِي هُوَ نَصْبُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ وَالْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ سَبَبًا لِلِانْتِفَاعِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ سَبَبٌ لِمُسَبِّبَاتٍ كَثِيرَةٍ كَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ اهـ.
(قُلْت:) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَالْوَضْعِ مَعًا، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ أَنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ الشَّاطِّ مَعَ الْقَرَافِيِّ فِي حَدِّ الْمِلْكِ، وَقَالَ: إنَّهُ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ، وَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي حَدِّهِ أَنَّهُ تَمَكُّنُ الْإِنْسَانِ شَرْعًا بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَمِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ، هَذَا إنْ قُلْت: إنَّ الضِّيَافَةَ وَنَحْوَهَا لَا يَمْلِكُهَا مَنْ سُوِّغَتْ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ يَمْلِكُهَا زِدْنَا فِي الْحَدِّ بَعْدَ قَوْلِنَا: وَمِنْ أَخْذِ الْعِوَضِ، فَقُلْنَا: أَوْ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ خَاصَّةً اهـ. وَبَحَثَ فِي ذَلِكَ وَأَطَالَ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ أَرَادَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ وَيَدْخُلُ فِيهِ النِّكَاحُ وَالْإِجَارَةُ لَيْسَ هُوَ اعْتِرَاضًا عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ النِّكَاحُ وَالْإِجَارَةُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ عَلَى ابْنِ رُشْدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَكَلَّمَ عَلَى الْبَيْعِ الْأَعَمِّ، وَلَا عَلَى الْمَازِرِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إدْخَالَهُمَا فِيهِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمُعَلِّمِ فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ لِبَلَاغَتِهَا وَحِكْمَتِهَا وَحِرْصِهَا عَلَى تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى لِلْإِفْهَامِ بِأَدْنَى عِبَارَةٍ تَخُصُّ كُلَّ مَعْنًى بِعِبَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلْآخَرِ فِي أَكْثَرِ وُجُوهِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ الْأَمْلَاكُ تَنْتَقِلُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ سَمَّوْا الْأَوَّلَ بَيْعًا فَحَقِيقَتُهُ نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، وَلَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ إنْ كَانَتْ عَلَى الرِّقَابِ خَصُّوهَا بِتَسْمِيَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَنَافِعِ خَصُّوهَا بِتَسْمِيَةِ الْإِجَارَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ فُرُوجٍ فَخَصُّوهَا أَيْضًا بِتَسْمِيَتِهَا نِكَاحًا.
، وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ مِنْ التَّنْبِيهِ: الْبَيْعُ بِالْقَوْلِ الْكُلِّيِّ يُطْلَقُ عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ، لَكِنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنَافِعَ أَوْ عَيْنًا، وَنَعْنِي بِالْعَيْنِ كُلَّ ذَاتٍ مُشَارٍ إلَيْهَا، وَالْمَنَافِعُ إنْ كَانَتْ أَبْضَاعَ النِّسَاءِ سُمِّيَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا نِكَاحًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَلِكَ سُمِّيَ أَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إجَارَةً اهـ.
وَقَدْ أَطْلَقَ صَاحِبُ التَّنْبِيهَاتِ وَغَيْرُهُ الْبَيْعَ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْغَرَرِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ قَالَ أَبِيعُكَ سُكْنَى دَارِي سَنَةً فَذَلِكَ غَلَطٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ كِرَاءٌ صَحِيحٌ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ لِلْبَيْعِ إطْلَاقَيْنِ أَعَمَّ وَأَخَصَّ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ رحمه الله. فَالْأَعَمُّ يَشْمَلُ النِّكَاحَ وَالصَّرْفَ وَالسَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ وَهِبَةَ الثَّوَابِ، وَالْأَخَصُّ لَا يَشْمَلُ إلَّا الْبَيْعَ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْإِطْلَاقِ الْأَخَصِّ غَلَطَ فِي
الْمُدَوَّنَةِ مَنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ عَلَى الْكِرَاءِ فِي اللَّفْظِ وَجَعَلَهُ كِرَاءً صَحِيحًا بِالنَّظَرِ لِلْمَعْنَى الْأَعَمِّ، لَكِنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ غَالِبًا فَلِذَلِكَ أَخْرَجَ ابْنُ عَرَفَةَ النِّكَاحَ وَالْإِجَارَةَ مِنْ حَدِّ الْبَيْعِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَقَالَ: الْبَيْعُ الْأَعَمُّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَةُ وَالْكِرَاءُ وَالنِّكَاحُ وَتَدْخُلُ هِبَةُ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَادَلَةُ وَالْإِقَالَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالشَّرِكَةُ فِي الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى أَعْنِي تَوْلِيَةَ الْبَعْضِ، وَالْقِسْمَةُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا بَيْعٌ كَالشَّرِكَةِ فِي الْأَمْوَالِ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ لِصِدْقِ حَدِّ الْبَيْعِ الْأَعَمِّ عَلَيْهَا، وَلَا تَدْخُلُ الشُّفْعَةُ نَفْسُهَا؛ لِأَنَّهَا اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ أَخْذَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الَّتِي بَاعَهَا بِثَمَنِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْغَالِبُ عُرْفًا أَخَصُّ مِنْهُ بِزِيَادَةِ ذِي مُكَايَسَةٍ أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ مُعَيَّنٌ غَيْرَ الْعَيْنِ فِيهِ فَتَخْرُجُ الْأَرْبَعَةُ، وَيَعْنِي بِالْأَرْبَعَةِ هِبَةَ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، فَتَخْرُجُ مِنْهُ هِبَةُ الثَّوَابِ بِقَوْلِهِ: ذُو مُكَايَسَةٍ، وَالْمُكَايَسَةُ: الْمُغَالَبَةُ، قَالَ فِي الصِّحَاحِ: كَايَسْتُهُ فَكِسْتُهُ أَيْ غَلَبْتُهُ، وَهُوَ يُكَايِسُهُ فِي الْبَيْعِ اهـ. وَالْمُمَاكَسَةُ قَرِيبٌ مِنْ الْمُكَايَسَةِ، قَالَ فِي الْمُحْكَمِ: تَمَاكَسَ الْمُتَبَايِعَانِ تَشَاحَّا اهـ. وَيَخْرُجُ الصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، وَيَخْرُجُ السَّلَمُ بِقَوْلِهِ: مُعَيِّنٌ غَيْرَ الْعَيْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَيْنِ فِي السَّلَمِ لَا يَكُونُ مُعَيَّنًا، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ سَلَمُ الْعِوَضِ فِي عَرَضٍ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ الْعِوَضَانِ لَمْ يَتَعَيَّنَا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ فَصَدَقَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهِ غَيْرُ الْعَيْنِ أَيْ جَمِيعُهُ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ بَعْضُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَدَفْعُ عِوَضٍ فِي مَعْلُومٍ قَدْرِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ غَيْرِ مَسْكُوكٍ لِأَجَلٍ سَلَمٌ لَا بَيْعٌ لِأَجَلٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْعُهُ، وَلَوْ بِيعَ مُعَيَّنًا انْفَسَخَ بَيْعُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ اهـ.
(قُلْت:) اُنْظُرْ هَذِهِ الصُّورَةَ الَّتِي حُكِمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا سَلَمٌ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ فَتَأَمَّلْهُ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:؛ " لِأَنَّهُ لَوْ اُسْتُحِقَّ " عَائِدٌ عَلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَكَذَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ لِلْبَيْعِ السَّلَمُ فِي ثَمَرِ حَائِطٍ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ بَعْضُ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ صَالَحَ عَنْ دَيْنٍ لَهُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ بِعِوَضٍ يُسَاوِي ذَلِكَ أَوْ يُقَارِبُهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا مُتْعَةَ لَذَّةٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ وَابْنِ بَشِيرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ ظَاهِرُ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَأَجْوِبَتِهَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتِه فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ فَهُوَ الْمُحِيطُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا يُحَصِّلُهَا، وَالْمَطْلُوبُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ مَا يُمَيِّزُهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَمَّا يُشَارِكُهَا فِي بَعْضِ حَقَائِقِهَا حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهَا مَا يَسْرِي إلَى النَّفْسِ، مِثْلُ أَنْ يُقَالَ: مَا الْإِنْسَانُ، فَيُقَالُ: مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ فَيَحْصُلُ تَمْيِيزُهُ عَنْ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُسْرِعُ إلَى النَّفْسِ دُخُولُهَا لَا كُلُّ حَقِيقَةٍ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَالْعَمُودُ وَكُلُّ مُنْتَصِبِ الْقَامَةِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ لَمْ يَقَعْ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، قَالَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْمَنْطِقِيِّينَ: وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرًا مَا يَقَعُ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَصْدُهُمْ التَّمْيِيزَ عَلَى مَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ فِي النَّفْسِ، وَلَوْ بِأَدْنَى خَاصِّيَّةٍ فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِمْ الْمُتَأَخِّرُونَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ، وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْبَنَّاءِ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ فِي بَعْضِ رُسُومِ التَّلْخِيصِ فَكُلُّ مَنْ عَرَّفَ الْبَيْعَ بِمَا عَرَّفَهُ بِهِ إنَّمَا هُوَ تَصَوَّرَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا تَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ بِجَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمْ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.
وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الْبَيْعَ الْأَعَمَّ وَيَزِيدُ فِي التَّفْصِيلِ فِي بَيْعِ الْمَنَافِعِ فَيَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعَ أَعْيَانٍ أَوْ بَيْعَ مَنَافِعَ، وَالْمَنَافِعُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنَافِعُ جَمَادٍ وَهُوَ الْمُتَرْجَمُ لَهُ بِأَكْرِيَةِ الدُّورِ
وَالْأَرْضِينَ، وَمَنَافِعُ حَيَوَانٍ. وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَيَوَانٌ لَا يَعْقِلُ وَهُوَ الْمُتَرْجَمُ لَهُ بِأَكْرِيَةِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ، وَحَيَوَانٌ يَعْقِلُ. وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالْفُرُوجِ، وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ أَوْ بِغَيْرِ الْفُرُوجِ، وَهُوَ الْجُعْلُ وَالْإِجَارَةُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى اصْطِلَاحِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ التَّرَاجِمَ الْمَذْكُورَةَ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْسِيمِ مَنَافِعُ الْعَرْضِ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ غَالِبًا إجَارَةً، وَبَيْعُ الْأَعْيَانِ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَيْثِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَيَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ تَأْجِيلُ أَحَدِ عِوَضَيْهِ أَوْ كِلَيْهِمَا إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَأْجِيلٌ فَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ، وَإِنْ تَأَجَّلَا مَعًا ابْتِدَاءً فَهُوَ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَإِنْ تَأَجَّلَ الثَّمَنُ فَقَطْ فَهُوَ الْبَيْعُ إلَى أَجَلٍ، وَإِنْ تَأَجَّلَ الْمَثْمُونُ فَقَطْ فَهُوَ السَّلَمُ، وَيَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ أَحَدِ عِوَضَيْهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، وَبَيْعُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ، وَبَيْعُ الْعَرْضِ بِالْعَيْنِ.
وَيَنْقَسِمُ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ جِنْسُ الْعِوَضَيْنِ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَعَكْسِهِ فَهُوَ الصَّرْفُ، وَإِنْ اتَّحَدَا فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْوَزْنِ فَهُوَ الْمُرَاطَلَةُ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَدَدِ فَهُوَ الْمُبَادَلَةُ، وَيَنْقَسِمُ الْبَيْعُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ رُؤْيَةِ الْمُثَمَّنِ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ إلَى قِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَرْئِيًّا أَوْ فِي حُكْمِ الْمَرْئِيِّ فَهُوَ بَيْعُ الْحَاضِرِ وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعٌ غَائِبٌ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ بَتِّ عَقْدِهِ وَعَدَمِ بَتِّهِ إلَى قِسْمَيْنِ؛ فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِصَاحِبِهِ خِيَارًا فَهُوَ بَيْعٌ بَتٌّ، وَالْبَتُّ الْقَطْعُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطَعَ خِيَارَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ جَعَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ أَوْ جَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارَ فَهُوَ بَيْعُ الْخِيَارِ، وَيَنْقَسِمُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ تَرَتُّبِ الثَّمَنِ فِيهِ عَلَى ثَمَنٍ سَابِقٍ وَعَدَمِ تَرَتُّبِهِ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مُتَرَتِّبًا عَلَى ثَمَنٍ سَابِقٍ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ: اُذْكُرْ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَيْتَ بِهِ سِلْعَتَكَ وَأَرْبَحَكَ كَذَا فَهُوَ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُتَرَتِّبًا عَلَى ثَمَنٍ سَابِقٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: بَيْعُ مُسَاوَمَةٍ، وَبَيْعُ مُزَايَدَةٍ، وَبَيْعُ اسْتِئْمَانٍ وَاسْتِرْسَالٍ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُبَيَّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُفْسِدُهُ إلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مُبَايِنٌ لِقَسِيمَيْهِ وَأَعَمُّ مِنْ قَسِيمِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِلَى بَعْضِ هَذِهِ التَّقَاسِيمِ أَشَارَ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَحُصُولُ عَارِضِ تَأْجِيلِ عِوَضِهِ لِلْعَيْنِ، وَرُؤْيَةُ عِوَضِهِ غَيْرُ الْعَيْنِ حِينَ عَقْدِهِ وَبَتِّهِ، وَعَدَمُ تَرَتُّبِ ثَمَنِهِ عَلَى ثَمَنٍ سَابِقٍ وَصِحَّتِهِ، وَمُقَابِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَدِهِ الْمُؤَجَّلِ، وَنَقْدُ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ وَبَتٍّ وَخِيَارٍ وَمُرَابَحَةٍ وَغَيْرِهَا، وَصِحَّةُ وَفَسَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُبَايِنٌ لِمُقَابِلِهِ وَأَعَمُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ اهـ. وَانْظُرْ الْقَوَانِينَ فِي تَقْسِيمِ الْمَكَاسِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ أَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ، وَقَالَ الْقَرَافِيِّ فِي الْفَرْقِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ: إنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ الْمِلْكُ فِي الْبَيْعِ يَحْصُلُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْإِجَارَةِ فِي الْمَنَافِعِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ الْأَعْيَانُ كُلُّهَا لَا يَمْلِكُهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ التَّصَرُّفُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَصَرُّفُ الْخَلْقِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَنَافِعِ فَقَطْ بِأَفْعَالِهِمْ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ، وَتَحْقِيقُ الْمِلْكِ أَنَّهُ إنْ وَرَدَ عَلَى الْمَنَافِعِ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ فَهُوَ الْإِجَارَةُ وَفُرُوعُهَا مِنْ الْمُسَاقَاةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ وَرَدَ عَلَى الْمَنَافِعِ عَلَى أَنْ لَا يَرُدَّ الْعَيْنَ بَلْ يُبْدِلُهَا بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِهِ فَهُوَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْفَعَةَ اهـ وَقَبِلَهُ ابْنُ الشَّاطِّ إلَّا قَوْلَهُ: إنَّ الْمِلْكَ التَّصَرُّفُ، فَقَالَ: إنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَا قَرَّرَ الْمُؤَلِّفُ يَعْنِي الْقَرَافِيَّ قَبْلَ هَذَا وَعِنْدِي فِي هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إبَاحَةٌ شَرْعِيَّةٌ تَقْتَضِي تَمْكِينَ صَاحِبِهَا
مِنْ الِانْتِفَاعِ بِتِلْكَ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ إلَى آخِرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ فِي الْعَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ التَّصَرُّفُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ التَّصَرُّفُ فَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَصَرُّفٌ مَخْصُوصٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ الشَّارِعِ كَهَدْمِ الدَّارِ وَبُنْيَانِهَا وَزَرْعِ الْأَرْضِ وَحَرْثِهَا وَتَقْطِيعِ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا وَطَحْنِ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ وَكُلِّ شَيْءٍ أُذِنَ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ بِهِ تَصَرُّفٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَالْفَاعِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمُتَصَرِّفُ التَّصَرُّفَ الْحَقِيقِيَّ الْمُطْلَقَ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ هُوَ اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَأَمَّا تَصَرُّفُ الْعِبَادِ وَأَفْعَالُهُمْ؛ فَإِنَّمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ خَلَقَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْجَوَازُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَتَهُ مَعْلُومَةٌ لِكُلِّ النَّاسِ فَحُكْمُهُ مِنْ الْإِبَاحَةِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ وَالْمَجَالِسِ إنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّبَرُّكِ بِذِكْرِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مَعَ تَمْرِينِ الطَّلَبَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ اهـ، وَدَلِيلُهُ مِنْ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَمِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ بَيْعِهِ صلى الله عليه وسلم وَشِرَائِهِ وَإِذْنِهِ فِي الْبَيْعِ وَوُقُوعِهِ بِحَضْرَتِهِ، وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَادِيثَ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَمْ مَنَعُوهُ» وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَهَذَا مَوْضِعُ الدَّلِيلِ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالْبَيْعُ الْمَبْرُورُ الَّذِي بَرَّ فِيهِ صَاحِبُهُ فَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهِ وَلَا بِهِ وَلَا مَعَهُ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ وَعَزَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى شِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالنَّدْبُ كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً لَا ضَرُورَةَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا فَيُنْدَبُ إلَى إجَابَتِهِ؛ لِأَنَّ إبْرَارَ الْمُقْسِمِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ، وَتَعْرِضُ لَهُ الْكَرَاهَةُ كَبَيْعِ الْهِرِّ وَالسِّبَاعِ لَا لِأَخْذِ جُلُودِهَا، وَالتَّحْرِيمُ كَالْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الرِّفْقُ بِالْعِبَادِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى حُصُولِ الْمَعَاشِ وَلِهَذَا يُمْنَعُ مِنْ احْتِكَارِ مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ، قَالَ فِي كِتَابِ التِّجَارَةِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ مَالِكٌ وَالْحُكْرَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ إدَامٍ أَوْ كَتَّانٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ عُصْفُرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَا كَانَ احْتِكَارُهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ مُنِعَ مُحْتَكِرُهُ مِنْ الْحُكْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ وَلَا بِالْأَسْوَاقِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ:«لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ» هَذَا الْحَدِيثُ بِحُكْمِ إطْلَاقِهِ أَوْ عُمُومِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِكَارِ فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ قَدْ يُقَيَّدُ وَالْعُمُومَ قَدْ يُخَصَّصُ بِمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فَإِنَّهُ قَدْ ادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ مَا يَدَّخِرُهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ قُوتٍ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ جَائِزٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِذَا مَقْصُودُ هَذَا مَنْعُ التُّجَّارِ مِنْ الِادِّخَارِ، ثُمَّ هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ادِّخَارِ كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَذَكَرَ الْخِلَافَ ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ هَذَا فِيمَنْ اشْتَرَى فِي الْأَسْوَاقِ، فَأَمَّا مَنْ جَلَبَ طَعَامًا؛ فَإِنْ شَاءَ بَاعَ، وَإِنْ شَاءَ احْتَكَرَ إلَّا إنْ نَزَلَتْ حَاجَةٌ فَادِحَةٌ أَوْ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ بِسِعْرِ وَقْتِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُجْبِرَ عَلَى
ذَلِكَ إحْيَاءً لِلْمُهَجِ وَإِبْقَاءً لِلرَّمَقِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْأَسْوَاقِ وَاحْتَكَرَ وَأَضَرَّ بِالنَّاسِ فَيَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ بِالسِّعْرِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، انْتَهَى. وَقَالَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ:«كَانَ يُنْفِقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ» فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ادِّخَارِ قُوتِ الْعِيَالِ سَنَةً، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إذَا كَانَ مِنْ غَلَّةِ الْمُدَّخَرِ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى مِنْ السُّوقِ فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ إذَا أَضَرَّ بِالنَّاسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الِادِّخَارِ مُطْلَقًا، انْتَهَى. وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ فِي الِاشْتِرَاءِ مِنْ السُّوقِ، وَأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي وَقْتِ ضِيقِ الطَّعَامِ فَلَا يَجُوزُ، بَلْ يَشْتَرِي مَا لَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَقُوتِ أَيَّامٍ أَوْ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ سَعَةٍ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ كَذَا نَقَلَ الْقَاضِي هَذَا التَّفْصِيلَ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ قَوْمٍ إبَاحَتُهُ مُطْلَقًا، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ رَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إنْسَانٍ وَاضْطُرَّ النَّاسُ إلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَهُ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ، انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِلْبَيْعِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْأَوَّلُ الصِّيغَةُ الثَّانِي الْعَاقِدُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي الثَّالِثُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خَمْسَةٌ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي يَشْتَرِكَانِ فِي الشُّرُوطِ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْعَاقِدِ وَكَذَا الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ، وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِالْكَلَامِ عَلَى الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فَقَالَ:
ص (يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ)
ش: وَإِنَّمَا بَدَأَ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ لِقِلَّتِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْأَرْكَانِ فِي الْوُجُودِ ثُمَّ بَعْدَهُ يَحْصُلُ تَقَابُضُ الْعِوَضَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: الْعَاقِدُ سَابِقٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنْهُ وَهُمَا صِفَةٌ لَهُ وَصِفَةُ الشَّيْءِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إذَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ وَجَدْتُ الْعَاقِدَ مَحَلَّ الرُّكْنِ وَمَحَلَّ الْمَاهِيَّةِ أَوْ مَحَلَّ رُكْنِهَا كَمَا يَكُونُ رُكْنًا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَالْعَاقِدُ إنَّمَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِذَلِكَ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ مِنْهُ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَيَعْنِي أَنَّ الرُّكْنَ الْأَوَّلَ الَّذِي هُوَ الصِّيغَةُ الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا الْبَيْعُ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْبَائِعِ وَيُسَمَّى الْإِيجَابَ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُسَمَّى الْقَبُولَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّالُّ قَوْلًا كَقَوْلِ الْبَائِعِ بِعْتُكَ وَأَعْطَيْتُكَ وَمَلَّكْتُكَ بِكَذَا وَشَبَهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَتَمَلَّكْتُ وَابْتَعْتُ وَقَبِلْتُ وَشَبَهُ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فِعْلًا كَالْمُعَاطَاةِ وَهِيَ الْمُنَاوَلَةُ، قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ هِيَ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ فَيُعْطِيَهُ الْمُثَمَّنَ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ، وَلَا اسْتِيجَابٍ، انْتَهَى. لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا عُرْفًا وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ أَخْذُ مَا فِي يَدِ غَيْرِكَ بِعِوَضٍ تَرْضَاهُ، فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَوْلُ وَيَكْفِي الْفِعْلُ كَالْمُعَاطَاةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الرِّضَا رُكْنٌ فِي الْبَيْعِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الرِّضَا الْمُسَمَّى بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ تَارَةً يَكُونُ قَوْلًا فَلَا كَلَامَ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُك بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا، فَلَا اخْتِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ أَجَابَهُ صَاحِبُهُ بِالْإِمْضَاءِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ رَسْمٍ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْعُيُوبِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَتَارَةً يَكُونُ فِعْلًا وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ مَالِكٌ رحمه الله وَجَمَاعَةٌ إلَى الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالْقَوْلِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمَذْهَبِ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى انْعِقَادِهِ بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الرِّضَا وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِالْمُعَاطَاةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى انْعِقَادِهِ بِهَا مُطْلَقًا وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ مُطْلَقًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَنْعَقِدُ بِهَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ خَاصَّةً وَإِلَيْهِ مَالَ الْغَزَالِيُّ، انْتَهَى.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَا دَلَالَةَ لَهُ بِالْوَضْعِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ، وَاحْتَجَّ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ، وَإِنْ انْتَفَتْ مِنْهَا الدَّلَالَةُ الْوَضْعِيَّةُ فَفِيهَا دَلَالَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وَهِيَ كَافِيَةٌ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ التِّجَارَةِ إنَّمَا هُوَ أَخْذُ مَا فِي يَدِ غَيْرِكَ بِدَفْعِ عِوَضٍ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْكُمَا فَتَكْفِي دَلَالَةُ الْعُرْفِ
فِي ذَلِكَ عَلَى طِيبِ النَّفْسِ وَالرِّضَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُعَاطَاةً وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ مُخْتَلِفًا فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِهِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ يَعْنِي أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الرِّضَا يَكْفِي فِيهَا الْفِعْلُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ دَلَالَةً عُرْفِيَّةً، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مُعَاطَاةً وَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ الْمَحْضَةِ الْعَارِي عَنْ الْقَوْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُضُورِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَلِذَا، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ أَثْنَاءَ كَلَامِهِ فِي بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَبِيَاعَاتُ زَمَانِنَا فِي الْأَسْوَاقِ إنَّمَا هِيَ بِالْمُعَاطَاةِ فَهِيَ مُنْحَلَّةٌ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، انْتَهَى. وَعُلِمَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ مِنْ جِهَةٍ وَالْقَوْلِ مِنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِنْ بَابِ أَحْرَى وَسَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَبِالْإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُعَاطَاةِ؛ لِأَنَّهَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كَلَامٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وَالرَّمْزُ الْإِشَارَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الصِّيغَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَلَوْ مُعَاطَاةً فِي حَمَالَتِهَا مَا فُهِمَ أَنَّ الْأَخْرَسَ فَهِمَهُ مِنْ كَفَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَزِمَهُ الْبَاجِيُّ كُلُّ إشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ مِنْهَا الْبَيْعُ، انْتَهَى.
(قُلْت:) وَغَيْرُ الْأَخْرَسِ كَالْأَخْرَسِ، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ الْمَذْكُورِ وَنَصَّهُ وَكَذَا غَيْرُ الْأَخْرَسِ إذَا فُهِمَ عَنْهُ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخْرَسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ غَيْرُهَا، انْتَهَى. وَكَلَامُ الْبَاجِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ وَنَصُّهُ فِي الْمُنْتَقَى وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهَا الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ، انْتَهَى. وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ هَذَا عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَبِبِعْنِي
ص (وَبِبِعْنِي فَيَقُولُ بِعْتُك)
ش: هُوَ دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ الْمُبَالَغَةِ وَيَعْنِي أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِعْنِي سِلْعَتَكَ بِكَذَا إذَا قَالَ لَهُ الْبَائِعُ بِعْتُك يُرِيدُ أَوْ صَدَرَ مِنْهُ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَنَبَّهَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا عَلَى فَائِدَتَيْنِ الْأُولَى مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ أَنْ يَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأَقْوَالِ كَوْنُهَا دَالَّةً عَلَى الرِّضَا فِي الْعُرْفِ.
وَلَوْ كَانَتْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ أَوْ فِيهَا احْتِمَالٌ لِذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِمَنْ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ بِعْنِي سِلْعَتَك بِعَشْرَةٍ لَا يَدُلُّ صَرِيحًا عَلَى إيجَابِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ إمَّا آمِرٌ لِلْبَائِعِ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ مُلْتَمِسٌ مِنْهُ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ أَوْ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ لَكِنَّ الْعُرْفَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ طَالِبٌ وَمَرِيدٌ لِلْبَيْعِ وَرَاضٍ بِهِ؛ لِأَنَّ بِعْنِي صَرِيحٌ فِي أَمْرِ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِالْبَيْعِ وَاسْتِدْعَائِهِ مِنْهُ وَطَلَبِهِ لَهُ وَإِرَادَتِهِ إيَّاهُ وَحُصُولِ مَطْلُوبٍ يَصِيرُ بِهِ مُبْتَاعًا، فَإِذَا أَجَابَهُ الْبَائِعُ بِحُصُولِ مَطْلُوبِهِ فَقَدْ تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَهُ مِنْ وُجُودِ الْبَيْعِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَجَابَهُ الْبَائِعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَلَوْ، قَالَ الْبَائِعُ بَعْدَ بِعْتُك لَا أَرْضَى؛ لِأَنِّي لَمْ أُرِدْ إيجَابَ الْبَيْعِ وَيُعَدُّ، قَوْلُهُ: بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَرْضَى نَدَمًا وَلَيْسَتْ كَمَسْأَلَةِ السَّوْمِ الْآتِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْمَعْهَا مَعَهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ لِمَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعِيسَى بْنُ دِينَارٍ فِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَرَجَّحَهُ وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَرَجَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبَاجِيُّ وَنَصُّهُ الْبَيْعُ يَفْتَقِرُ إلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ وَيَلْزَمُ بِوُجُودِهِمَا بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَإِذَا، قَالَ بِعْنِي فَيَقُولُ الْبَائِعُ بِعْتُك فَحَكَى أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ الْمُشْتَرِي بَعْدُ اشْتَرَيْتُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقَلُوهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إيجَابًا وَقَبُولًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ.
وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ إلَّا أَنَّ فِي الْأَلْفَاظِ مَا هُوَ صَرِيحٌ مِثْلُ بِعْتُك بِكَذَا فَيَقُولُ قَبِلْتُ أَوْ ابْتَعْتُ مِنْكَ فَيَقُولُ بِعْتُ فَهَذَا يَلْزَمُهَا، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمُحْتَمَلَةُ، فَلَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ