الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعلق بالمساجد
قال تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18].
كلما دخل الإسلام بلدًا كان المسجد شعاره وعنوانه، وكان ناديًا للجميع، ومعهدًا للدرس، ومعبدًا للذكر.
وقد حض الإسلام على عمارته، وبيَّن لنا أن ذلك يكون بأمرين: الأول تعمير مادي، وذلك يكون بإقامته، وإضاءته، وتنظيفه، وصيانته.
والثاني: تعمير روحي، وذلك يكون بالتردد عليه للصلاة والذكر ومدارسة العلم.
أما عن التعمير الروحي فيكون ذلك بالصلاة فيه وقراءة القرآن، والذى وتعلم العلم، ومعرفة أحوال المسلمين.
فالمساجد لم تبن للصلاة فقط. بل ليهتم كل مسلم بإخوانه المسلمين يسأل عنهم إذا غابوا، ويرشدهم إذا انحرفوا، ويعاونهم إذا احتاجوا، وبذلك يفوز بالفوز العظيم والأجر الجزيل من الله رب العالمين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كنت تحبسه وتصلى عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلى فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحدث فيه"[متفق عليه].
فالصلاة جماعة بالمسجد تزيد في الأجر والفضل على صلاة المسلم في بيته بخمس وعشرين أو سبع وعشرين درجة، وذلك لأنها تغرس فيه حب النظام حيث إنه لا يستطيع أن يصليها قبل وقتها، وتنمي فيه روح الجماعة حيث لا يخاطب ربه إلا بصيغة الجمع {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وتقيم له الدليل على أن الناس جميعًا سواء في وقوفهم أمام الله رب العالمين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسجد بيت كل تقي، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالرَّوح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة"[رواه الطبراني].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام"[متفق عليه].
وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:
"إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زواري عمَّارها، فطوبى لمن تطهر في بيته وزارني في بيتي، وحق على المزور أن يكرم زائره".
قال ابن عباس: إن المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهلها كما تضيء نجوم السماء لأهلها.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط"[مسلم].
ومن مظاهر التعلق بالمسجد الحرص على صلاة الجماعة فقد كان الرسول يحرص على حضور صلاة الجماعة في المسجد حتى وهو في مرض الموت، فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله؟ قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب (الإجانة) قالت: ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء "ليقوم" فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قال: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد، ينتظرون النبي لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي إلى أبي بكر، بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبو بكر -وكان رجلا رقيقا-: يا
عمر، صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام [البخاري] فانظر -رحمك الله- إلى أي مدى كان رسول الله حريصا على الصلاة؟!
ولما وجد في نفسه خفة خرج إلى المسجد فكيف كانت خفته؟ قالت عائشة: فوجد النبي من نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع (أي لم يكن يقدر على رفعهما من الأرض).
يقول سيد قطب: "إن الصلاة صلة ولقاء بين العبد والرب، صلة يستمد منها القلب قوة، وتحس فيها الروح صلة، وتجد فيها النفس زادا أنفس من أعراض الحياة الدنيا، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وهو الوثيق الصلاة بربه، الموصول الروح بالوحي والإلهام .. وما يزال هذا الينبوع الدافق في متناول كل مؤمن يريد زادا للطريق، وريًا في الهجير، ومددا حين ينقطع المدد، ورصيدا حين ينفد الرصيد (1).
ونلاحظ محاسبة النفس على التقصير في أداء الصلاة:
عن نافع أن ابن عمر كان إذا فاتته العشاء في جماعة، أحيا بقية ليلته.
وحرص السلف على صلاة الجماعة، قال القواريري: لم تكن تكاد تفوتني صلاة العتمة في جماعة، فنزل بي ضيف فشغلت به، فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة، فإذا الناس قد صلوا، فقلت في نفسي: جاء عن النبي: أن "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة"[البخاري]. فانقلبت إلى منزلي فصليت العتمة سبعا وعشرين مرة، ثم رقدت فنمت، فرأيتني كأني مع قوم راكبين أفراسًا، وأنا راكب، ونحن نتجارى وأفراسهم تسبق فرسي، فجعلت أضربه لألحقهم، فالتفت إلي آخرهم، فقال: لا تجهد فرسك، فلست بلاحقنا، قال: فقلت: ولم؟ قال: لأنا صلينا العتمة -يعني العشاء- في جماعة.
وقال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا.
(1) فى ظلال القرآن (1/ 69).