الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالي الهمة شريف النفس
عالي الهمة يعرف قدر نفسه، في غير كبر، ولا عجب، ولا غرور، وإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل.
ألم تر إلى شرف نفس الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم حين دعا ربه: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وحين قال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50].
قيل لرجل: لي حويجة.
فقال: اطلب لها رجيلا.
وقد قيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير.
فقال: اطلب له رجلا صغيرا.
ويقول ابن الجوزي: لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها وصغر شأنها وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير، هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه والإيمان بقوتها، فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته وفي إمكان نجاحه، وعالجه بفتور ففشل فيه. الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرور اعتماد النفس على الخيال وعلى الكبر الزائف، والثقة بالنفس اعتمادها على مقدرتها مع تحمل المسئولية، وعلى تقوية ملكاتها وتحسين استعداداتها (1).
1 - علو الهمة في العبادة:
كان من أخبار عامر بن عبد الله ما حدث به أحد أبناء البصرة قال: سرت في قافلة فيها عامر بن عبد الله، فلما أقبل علينا الليل، نزلنا فحمل عامر متاعه، وربط فرسه بشجرة، وجمع له من حشائش الأرض ما يشبعه، ثم توارى، فقلت في نفسي: والله
(1) لا تحزن 62.
لأتبعنه، ولأنظرن ما يصنع في هذه الليلة، فمضى حتى انتهى إلى رابية ملتفة الشجر، مستورة عن العين، فاستقبل القبلة، وانتصب قائما يصلي، فما رأيت أحسن من صلاته، فلما صلى ما شاء أن يصلي طفق يدعو الله ويناجيه، فكان مما قاله: إلهي لقد خلقتني بأمرك، وأقمتني في بلايا هذه الدنيا بمشيئتك، ثم قلت لي: استمسك، فكيف أستمسك إن لم تمسكني بلطفك يا قوي يا متين، إنك تعلم أنه لو كانت لي هذه الدنيا بما فيها، ثم طُلبت مني مرضاة لك، لوهبتها لطالبها، فهب لي نفسي يا أرحم الراحمين، إني أحببتك حبا سهل علي كل مصيبة، ورضاني بكل قضاء، فما أبالي مع حبي لك ما أصبحت عليه، وما أمسيت فيه.
قال الرجل البصري: ثم إنه غلبني النعاس، فأسلمت جفني إلى الكرى، ثم ما زلت أنام وأستيقظ، وعامر منتصب في موقفه، ماض في صلاته ومناجاته، حتى تنفس الصبح، فلما بدا الفجر أدى المكتوبة، ثم أقبل يدعو فقال: اللهم ما قد أصبح الصبح، وطفق الناس يغدون ويروحون، يبتغون من فضلك، وإن لكل منهم حاجة، وإن حاجة عامر عندك أن تغفر له، اللهم فاقض حاجتي وحاجاتهم يا أكرم الأكرمين، اللهم إني سألتك ثلاثا، فأعطيتني اثنتين ومنعتني واحدة، اللهم فأعطنيها حتى أعبدك كما أحب وأريد، ثم نهض من مجلسه فوقع بصره على فعلم بمكاني منه في تلك الليلة، فجزع لذلك أشد الجزع، وقال لي في أسى: أراك كنت ترقبني الليلة يا أخا البصرة؟
فقلت: نعم.
فقال: استر ما رأيت مني ستر الله عليك.
فقدت: والله لتحدثني بهذه الثلاث التي سألتها ربك، أو لأخبرن الناس بما رأيته منك.
فقال: ويحك لا تفعل.
فقلت: هو ما أقول لك، فلما رأى إصراري.
قال: أحدثك على أن تعطيني عهد الله وميثاقه ألا تخبر بذلك أحدا.
فقدت: لك عليّ عهد الله وميثاقه ألا أفشي لك سرا ما دمت حيا.
فقال: لم يكن شيء أخوف علي في ديني من النساء، فسألت ربي أن ينزع من قلبي