الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مادًا رجله فلم يحركها ولم يبدل جلسته، فاستاء إبراهيم باشا واغتاظ غيظًا شديدًا وخرج من المسجد وقد أضمر في نفسه شرًا بالشيخ.
وما أن وصل قصره حتى حف به المنافقون من كل جانب يزينون له الفتك بالشيخ الذي تحدى جبروته وسلطانه، وما زالوا يؤلبونه حتى أمر بإحضار الشيخ مكبلاً بالسلاسل.
وما كاد الجند يتحركون لجلب الشيخ حتى عاد إبراهيم باشا فغير رأيه، فقد كان يعلم أن أي إساءة للشيخ ستفتح له أبوابًا من المشاكل قبل له بإغلاقها.
وهداه تفكيره إلى طريقة أخرى ينتقم بها من الشيخ، طريقة الإغراء بالمال، فإذا قبله الشيخ فكأنه يضرب عصفورين بحجر واحد، يضمن ولاءه ويسقط هيبته في نفوس السلمين فلا يبقى له تأثير عليهم.
وأسرع إبراهيم باشا فأرسل إلى الشيخ ألف ليرة ذهبية وهو مبلغ يسيل له اللعاب في تلك الأيام، وطلب من وزيره أن يعطي المال للشيخ على مرأى ومسمع من تلاميذه ومريديه.
وانطلق الوزير بالمال إلى المسجد واقترب من الشيخ وهو يلقي درسه. فألقى السلام وقال للشيخ بصوت عال سمعه كل من حول الشيخ:
هذه ألف ليرة ذهبية يرى مولانا الباشا أن تستعين بها على أمرك.
ونظر الشيخ نظرة إشفاق نحو الوزير وقال له بهدوء وسكينة:
يا بني عد بنقود سيدك وردها إليه وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.
رجل آثر الله
دعا عمر بن هبيرة كلا من الحسن البصري وعامر بن شراحيل المعروف بالشعبي وقال لهما: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك قد استخلفه الله على عباده وأوجب طاعته على الناس، وقد ولاني ما ترون من أمر العراق، ثم زادني فولاني فارس، وهو يرسل إلي أحيانا كتبا يأمرني فيها بإنفاذ ما لا أطمئن إلى عدالته، فهل تجدان لي في متابعتي إياه وإنفاذ أوامره مخرجا في الدين؟ فأجاب الشعبي جوابا فيه ملاطفة للخليفة، ومسايرة للوالي، والحسن ساكت، فالتفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟
فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله جل وعز يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة، إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق -كائنا من كان- في معصية الخالق عز وجل. فبكى عمر بن هبيرة حتى بلت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن، وبالغ في إكرامه، فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد، فاجتمع عليهما الناس، وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع الأمير، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لعمر بن هبيرة لا أجهله، ولكني أردت فيما قلته ابن هبيرة، وأراد فيما قاله وجه الله، فأقصاني الله من ابن هبيرة وأدناه منه وحببه إليه (1).
المسلم لا يخشى في الله لومة لائم وإنما يقول كلمة الحق لوجه الله.
…
(1) صور من حياة التابعين 106، 107.