الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما كان بعد الغد مر بها وقد يئست منه فلم تقل شيئا، فأشار لها رجل من خلفه أن قومي إليه وكلميه، فقامت إليه فقالت: يا رسول الله، هلك الولد، وغاب الوافد، فامنن علي منَّ الله عليك، فقال:"قد فعلت" فقالت: إني أريد اللحاق بأهلي في الشام، فقال الرسول:"ولكن لا تعجلي بالخروج حتى تجدي من تثقين به من قومك ليبلغك بلاد الشام، فإذا وجدت الثقة فأعلميني"، ولما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم سألت عن الرجل الذي أشار عليها أن تكلمه، فقيل لها: إنه علي بن أبي طالب، ثم أقامت حتى قدم ركب فيهم من تثق به، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، لقد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، فكساها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنحها ناقة تحملها، وأعطاها نفقة تكفيها، فخرجت مع الركب، قال عدي: ثم جعلنا بعد ذلك نترقب قدومها، ونحن لا نكاد نصدق ما روي من خبرها مع محمد وإحسانه إليها، فوالله إني لقاعد في أهلي إذ أبصرت امرأة في هودجها تتجه نحونا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي، فلما وقفت علينا قالت: القاطع الظالم، لقد احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية ولدك وعورتك، فقلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا، وجعلت أسترضيها حتى رضيت، وقصت علي خبرها، فقلت لها: ما ترين في أمر الرجل (محمد)؟ فقالت: أرى -والله- أن تلحق به سريعا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلن تذل عنده وأنت وأنت (1).
تذكر عفو الرسول، ولا تغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله.
ودارت الأيام وأسلم
لما انتهت غزوة بدر ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يستعرضون أسرى المشركين إذا هم يجدون سهيل بن عمرو أسيرا في أيديهم، فلما مثل سهيل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه عمر بن الخطاب وقال: دعني يا رسول الله أنزع ثنيتيه حتى لا يقوم بعد اليوم خطيبا في محافل مكة، ينال من الإسلام ونبيه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"دعهما يا عمر، فلعلك ترى منهما ما يسرك إن شاء الله".
ثم دارت الأيام، وكان صلح الحديبية، فبعثت قريش سهيل بن عمرو لينوب عنها في إبرام الصلح، فتلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه طائفة من صحبه فيهم ابنه عبد الله بن سهيل، ثم
(1) صور من حياة الصحابة 137 - 139.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب لكتابة العقد، وشرع يملي عليه فقال:"اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: نحن لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي:"اكتب باسمك اللهم"، ثم قال:"اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله" ثم أتم العقد وعاد سهيل بن عمرو مزهوا بما كان يظن أنه حققه من نصر لقومه على محمد.
ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى، وإذا بقريش تهزم ويدخل النبي مكة فاتحا، وإذا المنادي ينادي: يا أهل مكلة، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، فما إن سمع سهيل النداء حتى دب في قلبه الذعر، وأغلق على نفسه باب بيته، وسقط في يده، يقول سهيل: أرسلت في طلب ابني عبد الله، وأنا أستحي أن تقع عيني على عينه، لما كنت قد أسرفت في تعذيبه على الإسلام، فلما دخل علي قلت له: اطلب لي جوارا من محمد، فإني لا آمن أن أقتل، فذهب عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبي، أتؤمنه يا رسول الله جعلت فداك؟ قال:"نعم هو آمن بأمان الله، فليظهر"، ثم التفت إلى أصحابه وقال:"من لقي منكم سهيلا فلا يسئ لقاءه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولكن قدر فكان"، أسلم سهيل بن عمرو بعد ذلك إسلاما ملك عليه قلبه ولبه، وأحبه الرسول من فؤاده، قال الصديق: لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما بين يدي رسول الله، وهو يقدم له البدن، ورسول الله ينحرها بيده الكريمة، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم الحلاق فحلق رأسه، فنظرت إلى سهيل، وهو يلتقط الشعرة من شعر النبي ويضعها على عينيه فذكرت يوم الحديبية، وكيف أبى أن يكتب محمد رسول الله فحمدت الله أن هداه (1).
لا تكن صلبا مع الآخرين فتكسر، ولا لينا فتعصر، ولكن كن مرنا معتدلا عفوا متسامحا.
(1) صور من حياة الصحابة 533 - 535.