الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم، حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة والقدوة، وصدق الرسول حيث قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه" قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "(1).
11 -
اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
لا يألونكم خبالا: لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد (2).
من قصص الولاء والبراء
عثمان بن مظعون
قال ابن إسحاق: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أحباب رسول الله من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوى ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله لا يصيبني، لنقص كبير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، قد رددت إليك جوارك، فقال له: يا ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فرد عليّ جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليَّ جواري، قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره، ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
(1) البخاري (3197) كتاب أحاديث الأنبياء- باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
(2)
الولاء والبراء للقحطاني 186: 189، بتصرف.
قال عثمان: صدقت.
قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل.
قال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول.
قال لبيد بن رليعة: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه من سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى كثر أمرهما فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة.
قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، إني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس، فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت فعد إلى جوارك، فقال: لا (1).
براءة إبراهيم من الكافرين
يقول سيد قطب: إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها
(1) مائة موقف من حياة العظماء138، 139.
البشرية، وتصطدم من ثم بالتصورات والأوضاع المخالفة كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولابد منها، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة.
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها، ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم، وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة، وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة.
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم، وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له، وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة، أن نظن أن لنا وإياهم طريقا واحدا نسلكه للتمكين للدين، أما الكفار والملحدون، فهم مع الكفار والملحدين، إذا كانت المعركة مع المسلمين (1).
سيدنا نوح
دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فلم يؤمن معه إلا القليل، ولقد أبى ابنه أن يستجيب لدعوته، وكان من الغارقين.
لقد استعلى نبي الله على العاطفة ورضي بحكم الله فلا لجاجة ولا التواء، ولا معذرة ولا تأويل، بل تسليم مطلق واتباع لما يحب الله ويرضى، وإعراض عما يكره ويبغض، وولاء لمن يحب الله، وبراء وعداء لمن حاد الله ولو كان أقرب قريب، ولم يكن شأن نبي الله نوح هذا
(1) في ظلال القرآن الكريم (2/ 909، 910).
مقصورا على هذا الابن الكافر، بل أيضا مع زوجته، ويا له من امتحان عظيم مع الزوجة والابن قال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
على أن مما يجب التنويه عنه هنا أن هذه الخيانة في الدين وليست في الفاحشة، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء عليهم السلام.
الفتية أصحاب الكهف
فتية تركوا الأهل والولد والوطن والعشيرة حين علموا أنه لا طاقة لهم بمواجهة ومجابهة قومهم فنجوا بأنفسهم إلى ذلك الكهف الذي تجلت فيه معجزة عظيمة يسوقها الله لنا عبرة وعظة في حفظه لعباده الصالحين: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)} [الكهف: 13 - 16].
أبو بكر
وطئ أبو بكر رضي الله عنه في مكة يوما بعد ما أسلم، وضرب ضربا شديدا، ودنا منه عتبة ابن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ثم نزل على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري إن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، فقالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم،
قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما ولا شرابًا أو آتي رسول الله، فأمهلهما حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكيء عليهما حتى أدخلوه على رسول الله.
يا لله! رجل مضروب مثخن بالجراح لا يتناول حتى شربة الماء -وهو أشد ما يكون حاجة إليها- حتى يرى رسول الله.
سعد بن أبي وقاص
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] نزلت قي سعد بن أبي وقاص قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمك .. ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت قد جهدت ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي وإن شئت فلا تأكلي. فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية وأمره بالبر بوالديه، والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول
لما بلغه ما كان من أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالديه مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله:"بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".
وذكر عكرمة أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله ابن أبي على باب المدينة، واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه، فلما جاء أبوه عبد الله ابن أبي قال له ابنه: وراءك، فقال: مالك ويلك؟! قال: والله لا تجوز من ما هنا حتى يأذن لك رسول الله. فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه، فقال الابن: والله يا رسول الله لا يدخلنها حتى تأذن له، فأذن له رسول الله فقال: أما إذ أذن لك رسول الله فجز الآن.
أبو عبيدة بن الجراح
انطلق أبو عبيدة رضي الله عنه يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى فهابه المشركون، ويجول جولة من لا يحذر الموت، فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه، لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه، فكان أبو عبيدة ينحرف عن طريقه ويتحاشى لقاءه ولجَّ الرجل في الهجوم، وأكثر أبو عبيدة من التنحي، وسد الرجل على أبي عبيدة المسالك، ووقف حائلا بينه وبين قتاله لأعداء الله.
فلما ضاق به ذرعا ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته فلقتين، فخر الرجل صريعا بين يديه .. لا تحاول أيها القارئ الكريم، أن تخمن من يكون هذا الرجل الصريع، أما قيل لك: إن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين، وجاوز خيال المتخيلين، ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبي عبيدة. لم يقتل أبو عبيدة أباه، وإنما قتل الشرك في شخص أبيه. إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان، والانحياز التام للصف المتميز.
عبد الله بن سهيل
هاجر إلى الحبشة بعد إسلامه تخلصا من أذى قريش، ثم شاء الله أن تصل أخبار كاذبة إلى مهاجري الحبشة، بأن قريشا قد أسلمت، وأن المسلمين باتوا يعيشون بين أهليهم بسلام، فعاد فريق منهم إلى مكة، وكان في جملة العائدين عبد الله بن سهيل، لم يكد أقدام عبد الله تطأ أرض مكة، حتى أخذه أبوه وكبله بالقيود، وألقى به في مكان مظلم من بيته، وجعل يتفنن في تعذيبه، ويلج في إيذائه، حتى أظهر لهم ارتداده عن دين محمد، وأعلن رجوعه إلى ملة آبائه وأجداده، فسري عن سهيل بن عمرو وقرت عينه، وشعر بنشوة النصر على محمد.
ثم ما لبث المشركون أن عزموا على منازلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر فخرج معهم سهيل بن عمرو مصحوبا بابنه عبد الله، متشوقا لأن يرى فتاه يشهر السيف في وجه محمد، بعد أن كان واحدًا من أتباعه، ولكن الأقدار كانت تخبيء لسهيل ما لم يكن يقع له في حساب، إذ ما كاد يلتقي الجمعان على أرض بدر حتى فر الفتى المسلم المؤمن إلى صفوف المسلمين، ووضع نفسه تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتشق حسامه ليقاتل به أباه ومن معه من أعداء الله (1).
(1) الناطقون بالحق 151.