الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأجابه الشيخ: بلى، إني أرد تحيته بمثلها أو بأحسن منها.
فيقول كرومر بخبث: فلماذا لم تقم لي أيها الشيخ؟
فيأتيه جواب الشيخ شواظا من نار، يجسد كل ما يمثله الأزهر وشيخه وعلماؤه من رمز رافض للاستعمار البريطاني وأعوانه: أيها اللورد، إن الخديوي مسلم منا، لذلك أرد عليه تحيته، أما أنت فلست منا، إنك عدونا، فكيف أقوم لك؟ (1).
شجاعة غلام:
بينما الحجاج جالس وعنده وجوه أهل العراق، أتى بصبي، فلما أدخل عليه لم يعبأ بالحجاج ولم يكترث به وإنما صار ينظر إلى البناء وما فيه من العجائب، ويلتفت يمينا وشمالا، ثم اندفع يقول:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: 128 - 129].
وكان الحجاج متكئا فاستوى في مقعده، وقال: يا غلام، إني أرى لك عقلا وذهنا، حفظت القرآن؟
قال الغلام: أو خفتُ عليه من الضياع حتى أحفظه وقد حفظه الله تعالى؟
قال: أجمعت القرآن؟
قال الغلام: أو كان مفرقا حتى أجمعه؟
قال: أفأحكمت القرآن؟
قال: أليس الله أنزله محكما؟
قال الحجاج: أفأستظهرت القرآن؟
قال: معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري.
فقال الحجاج وقد ثار غضبا: ويلك! قاتلك الله، ماذا أقول؟
قال الغلام: الويل لك ولقومك، قل: أوعيت القرآن في صدرك؟
فقال الحجاج: فاقرأ شيئا.
فاستفتح الغلام: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء
(1) مائة موقف من حياة العظماء86.
نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجا.
فقال الحجاج: ويحك! إنهم يدخلون، فرد عليه الغلام قائلا: كانوا يدخلون أما اليوم فقد صاروا يخرحون.
فقال الحجاج: ولم؟
قال الغلام: لسوء فعلك بهم.
قال الحجاج: ويلك يا غلام! وهل تعرف من تخاطب؟
قال الغلام: نعم، شيطان ثقيف: الحجاج.
قال الحجاج: ويلك! من رباك؟
قال الغلام: الذي زرعني.
قال الحجاج: فمن أمك؟
قال الغلام: التي ولدتني.
قال الحجاج: فأين ولدت؟
قال الغلام: في بعض الفلوات.
قال الحجاج: فأين نشأت؟
قال الغلام: في بعض البراري.
قال الحجاج: أمجنون أنت فأعالجك؟
قال الغلام: لو كنت مجنونا لما وصلت إليك ووقفت بين يديك، كأنني ممن يرجو فضلك أو يخاف عقابك.
قال الحجاج: فما تقول في أمير المؤمنين؟
قال الغلام: رحم الله أبا الحسن رضي الله عنه، وأسكنه جنان خلده.
قال الحجاج: ليس هذا عنيت، إنما أعني عبد الملك بن مروان.
قال الغلام: الفاسق الفاجر.
قال الحجاج: ويحك! بم استحق اللعنة أمير المؤمنين؟
قال الغلام: أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماء والأرض.
قال الحجاج: وما هي؟
قال الغلام: استعماله إياك على رعيته، تستبيح أموالهم، وتستحل دماءهم.
فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: ما تشيرون في هذا الغلام؟
قالوا: اسفك دمه، فقد خلع الطاعة، وفارق الجماعة.
فقال الغلام: يا حجاج! جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك، حيث قالوا لفرعون عن موسى عليه السلام وأخيه:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] وهؤلاء يأمرون بقتلي، إذن والله تقوم عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين ومذل المستكبرين.
فقال له الحجاج: هذب ألفاظك، وقصر لسانك، فإني أخاف عليك بادرة الأمر، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم.
فقال الغلام: لا حاجة لي بها، بيض الله وجهك، وأعلى كعبك.
فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: "بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ ".
قالوا: الأمير أعلم.
قال: أراد بقوله: "بيض الله وجهك" العمى والبرص، وبقوله:"أعلى كعبك" التعليق والصلب.
ثم التفت إلى الغلام وقال له: ما تقول فيما قلت؟
قال الغلام: قاتلك الله، ما أفهمك!
فاستشاط الحجاج غضبا، وأمر بضرب عنقه، وكان الرقاشي حاضرا، فقال: أصلح الله الأمير، هبه لي.
قال الحجاج: هو لك، لا بارك الله لك فيه.
فقال الغلام: والله لا أرى أيكما أحمق من صاحبه؟ الواهب أجلا قد حضر، أم المستوهب أجلا لم يحضر؟
فقال الرقاشي: استنقذتك من القتل وتكافئني بهذا الكلام؟
فقال الغلام: هنيئا لي الشهادة إن أدركتني السعادة، والله إن القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أرجع إلى أهلي صفر اليدين.
فأمر له الحجاج بجائزة وقال: يا غلام قد أمرنا لك بمائة ألف درهم، وعفونا عنك، لحداثة سنك وصفاء ذهنك، وحسن توكلك على الله، وإياك والجرأة على أرباب الأمر، فتقع مع من لا يعفو عنك.
فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، ولا جمع الله بيني وبينك
…
ثم همَّ بالخروج فابتدره الغلمان، فقال الحجاج: دعوه، فوالله ما رأيت أشجع منه قلبا، ولا أفصح منه لسانا، ولعمري ما وجدت مثله قط، وعسى هو أن يجد مثلي، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره.
***