الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هؤلاء هم العرب لا يقبلون الذل، ويقول عنترة في شعره:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
…
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة لجهنم
…
وجهنم بالعز أطيب منزل
هكذا كان القوم، وفي أول الإسلام حين هزمت قريش في معركة بدر الكبرى، قتل منهم سبعون من الصناديد وأسر منهم سبعون، وكان أبو سفيان بن حرب لا يزال مشركا وكان يعتبر زعيم القوم في ذلك الوقت، خصوصا بعد أن مات من مات من الصناديد والكبار في بدر، فآلى على نفسه ألا يمس بدنه ماء من غسل الجنابة -يعني لا يعاشر امرأته- وحرمت قريش على نفسها أن يبكي أحد بكاء نوح، أي بكاء بأصوات، يكتمون ذلك في أنفسهم حتى لا ينفسوا عن أنفسهم ليظل هذا الغضب مكبوتا إلى أن يأخذوا بثأرهم، وفي يوم من الأيام سمع بعض الناس. أنه أبيح لهم أن يبكوا وأن يشعروا وأن يعبروا عن أنفسهم، فلما خرج سأل فقالوا له: هذا رجل ضل بعيره، فهو يبكي بعيره الذي ضاع (1).
الأخ حافظ
استدعى المسيو سولنت باشمهندس القنال ورئيس قسم السكسيون الأخ حافظ ليصلح له بعض أدوات النجارة في منزله وسأله عما يطلب من أجر فقال: 130 قرشا، فقال المسيو سولنت بالعربي: أنت حرامي، فتمالك الأخ نفسه، وقال له بكل هدوء: ولماذا؟ فقال: لأنك تأخذ أكثر من حقك، فقال له: لن آخذ منك شيئا ومع ذلك فإنك تستطيع أن تسأل أحد المهندسين من مرءوسيك فإن رأى أنني طلبت أكثر من القدر المناسب فإن عقوبتي أن أقوم بالعمل مجانا، وإن رأى أنني طلبت أقل مما يصلح أن أطلب فسأسامحك في الزيادة.
واستدعى الرجل فعلا مهندسا وسأله فقدر أن العمل يستوجب 200 قرش، فعرف المسيو سولنت وأمر الأخ حافظ أن يبتدئ العمل، فقال له: سأفعل ولكنك أهنتني فعليك أن تعتذر وأن تسحب كلمتك، فاستشاط الرجل غضبا وغلبه الطابع الفرنسي الحاد، وأخذته العزة بالإثم وقال: تريد أن أعتذر لك؟ ومن أنت؟ لو كان الملك فؤاد نفسه ما
(1) الجهاد اليوم فرض عين- القرضاوي 18: 24.
اعتذرت له، فقال حافظ في هدوء أيضا: وهذه غلطة أخرى يا مسيو سولنت فأنت في بلد الملك فؤاد، وكان أدب الضيافة وعرفان الجميل يفرضان عليك ألا تقول مثل هذا الكلام وأنا لا أسمح لك أن تذكر اسمه إلا بكل أدب واحترام، فتركه وأخذ يتمشى في البهو الفسيح ويداه في جيب بنطلونه، ووضع حافظ عدته وجلس على كرسي واتكأ على منضدة وسادت فترة سكوت لا يتخللها إلا وقع أقدام المسيو السائر الحائر، وبعد قليل تقدم من حافظ وقال له: افرض أنني لم أعتذر لك فماذا تفعل؟ فقال: الأمر هين سأكتب تقريرا إلى قنصلكم هنا وإلى سفارتكم أولا ثم أترقب كل قادم من أعضاء هذا المجلس فأشكو إليه، فإذا لم أصل إلى حقي بعد ذلك استطعت أن أهينك في الشارع وعلى ملأ من الناس وأكون بذلك قد وصلت إلى ما أريد ولا تنتظر أن أشكوك إلى الحكومة المصرية التي قيدتموها بسلاسل الامتيازات الأجنبية الظالمة، ولكني لن أهدأ حتى أصل إلى حقي بأي طريقة، فقال الرجل: يظهر أنني أتكلم مع أفوكاتو لا نجار! ألا تعلم أنني كبير المهندسين في قناة السويس فكيف تتصور أني أعتذر لك؟ فقال حافظ: وألا تعلم أن قناة السويس في وطني لا في وطنك وأن مدة استيلائكم عليها مؤقتة وستنتهي ثم تعود إلينا فتكون أنت وأمثالك موظفين عندنا؟ فكيف تتصور أن أدع حقي لك؟
…
وانصرف الرجل إلى مشيته الأولى.
وبعد فترة عاد مرة ثانية وعلى وجهه أمارات الثائر وطرق المنضدة بيده في عنف مرات وهو يقول: أعتذر يا حافظ سحبت كلمتي، فقام الأخ حافظ بكل هدوء وقال: متشكر يا مسيو سولنت. وزاول عمله حتى أتمه.
وبعد الانتهاء أعطاه المسيو سولنت 150 قرشا فأخذ منها 130 قرشا ورد له العشرين.
فقال له: خذها بقشيشا، فقال: لا، لا حتى لا آخذ أكثر من حقي فكون حرامي، فدهش الرجل وقال: إني مستغرب لماذا لا يكون كل الصناع أولاد العرب مثلك؟ أنت "فاميلي محمد" فقال حافظ: يا مسيو سولنت كل المسلمين "فاميلي محمد" ولكن الكثير منهم عاشروا الخواجات وقلدوهم ففسدت أخلاقهم، فلم يرد الرجل بأكثر من أن مد يده مصافحا قائلا: متشكر، متشكر كتر خيرك وفيها الإذن بالانصراف (1).
(1) مذكرات الدعوة والداعية 85: 87.