الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التضحية
لا جهاد بلا تضحية، فمن ظن أنه يستطيع أن يجاهد في سبيل الله وينتصر دون تضحية فقد خاب ظنه، والتضحية ألوان متعددة: بالمال، والوقت، والجهد، والأهل، والعشيرة، بل والنفس في سبيل نشر الدعوة، وإقامة الدين وحفظه، وهكذا أقيم المجتمع المسلم الأول على أكتاف رجال ضحوا بكل شيء.
إن أهل الباطل يتفانون في الدفاع عن باطلهم، ويغتنمون الفرص المناسبة للهجوم علي المعتقدات التي يرون أنها تهدد وجود باطلهم الذي يتوقف وجودهم عليه، قال تعالى:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)} [ص: 5 - 8] فأين أهل الحق من التضحية من أجل دينهم؟!
من أنواع التضحية
1 -
تضحية بالعلاقات الاجتماعية
قال ابن إسحاق: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما قدمنا المدينة نزلت مع عياش بن أبي ربيعة في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي بيعة، وكان ابن عمهما وأخاها لأمهما، حتى قدما علينا المدينة ورسول الله بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها.
وهكذا ندرك كيف يبذل دعاة الضلال من وقتهم وجهدهم وأموالهم في سبيل نصرة باطلهم، ومحاولة إخماد دعوة الحق، حيث خرج أبو جهل وأخوه من مكة إلى المدينة وتحملا عناء السفر من أجل محاولة فتنة فرد واحد عن دينه، أفلا يتحمل المسلمون مثل هذا الجهد أو أفضل منه من أجل دعوة الناس إلى الرشد واتباع الحق؟!
لقد حاول أبو جهل أن يدخل على عياش من الجانب المؤثر عليه، حيث ذكر وضع أمه ليكسب موافقته على العودة، وهو يعلم أن عياش من أهل البر والصلة.
قال عمر: يا عياش، إنه والله إن يريد القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم فوالله لو آذي أمك القمل لامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
فقال عياش: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه، وهنا وقع عياش في شباك عاطفة القرابة، فقال عمر: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبي عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبي إلا ذلك قال: قلت له: أما إذ قد فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانجُ عليها.
وهذه تضحية كبيرة من عمر حيث تنازل لعياش عن نصف ماله وعن ناقته، والمال من أعز المحبوبات لدي الإنسان.
قال عمر: فخرج عليها -يعني علي ناقة عمر- معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظ عليَّ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلي، قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطًا، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن. قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وفي ذلك عبرة للمسلمين حتى لا يأمنوا الكفار، وإن أظهروا لهم المودة وقدموا لهم المعونة، إن ذلك نوع من الطعم الذي يصطادون به المسلمين، قال تعالى:{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
محاولة اغتيال فاشلة
روي ابن أبي شيبة عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما رأيت قريشا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يومًا، ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطًا، وتصايح الناس حتى ظنوا أنه مقتول، فأقبل أبو بكر يشتد، حتى أخذ
بضبعي رسول الله من ورائه وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28].
ثم انصرفوا عن النبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلي، فلما قضي صلاته مر بهم -وهم جلوس في ظل الكعبة- فقال: يا معشر قريش: "أما والذي نفس محمد بيده: ما أرسلت إليكم إلا بالذبح، وأشار بيده إلى حلقه" فقال له أبو جهل: ما كنت جهولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت منهم".
وتحمل الرسول الكثير من الإيذاء من أجل دعوة الناس إلى الخير، فلا تجزع من أول بلاء وتذكر تضحية الرسول صلى الله عليه وسلم.
إيذاء شديد:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي؟ أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم (هو عقبة بن أبي معيط)، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه، وأقبلت تسبهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" ثم سمى:"اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشية بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد" قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب -قليب بدر- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأتبع أصحاب القليب لعنة".
احذر المعوقات
يقول فتحي يكن: لقد اختارت القيادة مجموعة من الإخوة لحرب الإنجليز المحتلين في القناة سنة 1951 م، وعند السفر قال لهم أخ: أمهلوني يومًا واحدًا حتى أعود إلي المنزل أرتب أموري فحذروه، ولكنه استأذن، فغاب عنهم خمسة عشر يومًا، فلما لحق بهم سألوه، فقال لهم: لقد أحسَّت بي زوجتي فكانت كلما هممت بالخروج (صوَّتت) وجمعت على العائلة .. حتى تغفلتها وهربت.
يقول الأستاذ فتحي يكن: أعرف أخًا كان قبل زواجه مقدامًا معطاء، ولقد نكب بزوجة سيئة وضعت الموت والفقر بين عينيه، فكانت كلما رزق بغلام ذكرته بحقه (المادي) عليه، وأن عليه مضاعفة السعي من أجله .. ولما تكاثرت ذريته -وامرأته على الشاكلة- سقط في الامتحان، وأصبح عبدًا للدنيا بعد أن أصبح عبدًا للزوجة (1).
2 -
التضحية بالوقت والجهد
هاجر مصعب بن عمير من مكة إلى المدينة بأمر من الرسول، فترك الوطن والأهل والمال وبذل كل وقته سعيًا بين الأوس والخزرج داعيًا إلي الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فمهد لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكان خير سفير، وعاد باثنين وسبعين رجلاً وامرأتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا، وكذلك جعفر بن أبي طالب وإخوانه الذين هاجروا معه إلى الحبشة، والأمثلة كثيرة من أصحاب الهمم العالية.
3 -
التضحية بالمال
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15].
يأتي أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله في غزوة تبوك؛ أربعة آلاف درهم، ويسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أبقيت لأهلك شيئًا؟ فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله.
لا تبخل علي إخوانك المحتاجين.
هذا لا يأخد أجرًا
انتدب الأزهر الأستاذ عمر التلمساني لإلقاء بعض المحاضرات في الشريعة والقانون بالجامعة، وكان ذلك أيام الدكتور عبد الحليم محمود، فلما جاء كشف صرف المكافآت للسادة الأساتذة المحاضرين المنتدبين، إذا بالدكتور عبد الحليم محمود يجد اسم الأستاذ عمر التلمساني مدرجًا بالكشف فقال للمسئول: ارفع اسم الأستاذ عمر من الكشف، هذا لا يأخذ أجرًا (ده مش بتاع كده) ودار حوار، ولم يرفع المسئول اسم الأستاذ عمر. ولما كان وقت صرف المكافآت، ذهب المسئول بالكشف للأستاذ عمر ليوقع، فأبى.
(1) المتساقطون على طريق الدعوة: 84.
فذهب المسئول للدكتور عبد الحليم محمود، فقال الدكتور عبد الحليم محمود: ألم أقل لك أن الأستاذ عمر لا يأخذ أجرًا.
باع الجاموسة
أيام حرب فلسطين 1948 م سجل فلاح من الإخوان -اسمه حسن الطويل- اسمه في كتائب المتطوعين، وترك أهله وأرضه وكل شيء، بل باع (جاموسته) ليشتري بثمنها سلاحا، فقال له الحاج أحمد البس: يا حسن دع الجاموسة لأولادك وحسبك أنك تطوعت بنفسك، وعلى غيرك ممن لم يجاهد بنفسه أن يجاهد بماله، فرد عليه حسن قائلا: هل قال الله تعالى: وجاهدوا بأنفسكم فقط، أم قال:{وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41]؟ هل اشترى منا النفس وحدها، أم النفس والمال ليعطينا الجنة؟ أم تريدون أن نتسلم (البضاعة) دون أن ندفع الثمن.
4 -
التضحية بالنفس
عن أم حارثة بن سراقة رضي الله عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة -وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غَرب (لا يعرف راميه) - فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال:"يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"[رواه البخاري].
إن القلب ليطير فرحًا مع هذا الصحابي الذي نال الفردوس الأعلى، ألا تشتاق أن تكون معه في جنة عرضها السماوات والأرض تحت عرش الرحمن، فسارع من الآن قبل فوات الأوان.
تضحية ضمرة
استمع الصحابي ضمرة بن جندب رضي الله عنه إلي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء: 97 - 98].
فحين استمع إلى هذه الآيات وكان بمكة لم يهاجر بعد، وكان مسنًا لا يقوي على احتمال السفر، قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدى إلى