الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشيء، فظن الخليفة أنه لم يسمعه، فمال عليه أكثر من ذي قبل وقال: رغبت بأن تسألني حاجة لأقضيها لك.
فقال سالم: والله إني لأستحي أن أكون في بيت الله، ثم أسأل أحدًا غيره، فخجل الخليفة وسكت، لكنه ظل جالسا في مكانه، فلما قضيت الصلاة نهض سالم يريد المضي إلى رحله، فلحقت به جموع الناس، هذا يسأله عن حديث من أحاديث رسول الله، وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين، وثالث يستنصحه في شأن من شئون الدنيا، ورابع يطلب منه الدعاء.
وكان في جملة من لحق به خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك، فلما رآه الناس، وسعوا له حتى حاذي منكبه منكب سالم بن عبد الله، فمال عليه وهمس في أذنه قائلا: ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد، فسلني حاجة أقضها لك.
فقال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟
فارتبك الخليفة وقال: بل من حوائج الدنيا.
فقال له سالم: إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها، فكيف أطلبها ممن لا يملكها؟ فخجل الخليفة منه وحياه، وانصرف عنه وهو يقول: ما أعزكم آل الخطاب بالزهادة والتقى! بارك الله عليكم من آل بيت (1).
هل تفكر دائما في الآخرة أم في متطلبالت الدنيا وكمالياتها؟
العز بن عبد السلام وعزة العلماء
كان الشيخ الجليل عز الدين بن عبد السلام قد تولى منصب قاضي القضاة، وما إن تولى هذا المنصب حتى لاحظ أن أمراء البلاد وقادة الجيش ليسوا من أهل مصر وليسوا أحرارا على الإطلاق، بل هم مجلوبون اشتراهم السلطان من بيت المال وهم صغار، فتعلموا اللغة العربية وعلوم الدين والفروسية والحرب، وعندما شبوا عينهم في مناصبهم فهم أمراء مماليك عبيد، إذن فليس لهم حقوق الأحرار ولهذا فليس لهم أن يتزوجوا بحرائر النساء، وليس لهم أن يبيعوا أو يتصرفوا إلا كما يتصرف العبيد.
(1) صور من حياة التابعين (380 - 381).
بلغ الأمراء ذلك فعظم الخطب فيهم واحتدم الأمر واشتد، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نكاحا وتعطلت مصالحهم بذلك.
وكان منهم نائب السلطان فاستشاط غضبا فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقالوا له: ماذا تريد؟ فقال الشيخ: نعقد لكم مجلسا وينادي عليكم للبيع لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث السلطان إليه فلم يرجع عن قوله، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار وأركب عائلته على حمير أخرى ومشى خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا الشام، فلم يصل إلى نصف ما يريد حتى لحقه غالب المسلمين ولم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل يتخلف ولا سيما العلماء والصلحاء والتجار.
بلغ السلطان الخبر وقيل له: متى راح الشيخ ذهب ملكك، فركب السلطان نفسه ولحقه واسترضاه وطيب خاطره، فرجع الشيخ واتفق على أن ينادى على الأمراء لبيعهم، فأرسل إليه نائب السلطان بالملاطفة فلم يقبل الشيخ ولم تفد الملاطفة معه فانزعج نائب السلطان وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، وركب بنفسه -نائب السلطان- في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وحكى له ما رأى، فما اهتم الشيخ بذلك ولا تغير وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله. ثم خرج وكان قضاء الله قد نزل على نائب السلطان، فحين وقع بصر الشيخ على النائب يبست يد النائب وارتجف وسقط السيف من يده وارتعدت مفاصله وبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال: يا سيدي الشيخ خير أي شيء تعمل؟ قال: أنادي عليكم، قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين، قال: فمن يقبضه، قال: أنا.
فوافق وتم للشيخ ما أراد ونادى على الأمراء واحدا واحدا وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير، وهذا لم يسمع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى رضي الله عنه (1).
(1) مائة موقف من حياة العظماء13، 14.