الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الإسلام من الشيوعية
(1)
كتب مندوب "الأهرام" الخاص يقول:
كانت جلسة هادئة طيبة، تلك التي جلستها مع فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في حفلة خاصة، كان الشيخ الأكبر فيها ملتقى الأنظار، وموضع التقدير، وكان كل واحد يحب أن يستأثر به؛ ليقف على جلية حكم من أحكام الشريعة في موضوع معين، وقد رأيت أن انتهز هذه الفرصة الطيبة لأتبين موقف الإسلام من (الشيوعية)، وحكمه على (الرأسماليين)، ونظرته إلى الفقراء بين هذه وتلك، وقد حمدت لفضيلته أن آثر "الأهرام" بعنايته، فأجابني إلى طلبي، وتحدث إلي بقوله:
من مظاهر الكمال في دين الإسلام وأحكامه: أنه لم يعارض الفطرة الإنسانية في طبيعة من طبائعها، وحتى ما كان فيه انحراف أو مظنة زلل من هذه الطبائع الإنسانية؛ فإن الإسلام اكتفى بتعديله، وتوجيهه وجهة خير، مع إقراره
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الرابع والعشرون، غرة رييع الأول- 1372 هـ = ديسمبر كانون الأول 1952 م.
* جريدة "الأهرام" العدد 24118 تاريخ 25 - 11 - 1952 م تحت عنوان: "شيخ الأزهر يتحدث عن الشيوعية: الإسلام يعترف بالملكية الفردية، ويقر التفاوت بين الناس في كسب الثروات".
أصل الفطرة، ومحاولته تهذيبها وإصلاحها.
ولما كان مبدأ (التملك الشخصي) من مقتضى الفطرة، فإن الإسلام اعترف به، وأقره، لكنه جنح فيه إلى الاعتدال؛ كدأب الإسلام في الأمور كلها، واشترط أن يكون هذا التملك الشخصي بالأساليب المشروعة التي أحلها الله. ثم رتب عليه تكاليف شرعية، هي نصيب الجماعة من أموال أصحاب الأموال، كما حث أهل الغنى على الأخذ بأيدي أهل الفاقة؛ حتى لا يكون في المجتمع الإسلامي إلا المحبة والتراحم، والتعاون على البر والتقوى.
وكما أقر الإسلام مبدأ التملك الشخصي، وجنح فيه إلى الاعتدال، ونظمه تنظيماً يسعد به المجتمع، كذلك أقر مبدأ آخر من مبادئ الفطرة، وهو تفاوت الناس في مواهبهم ومداركهم ومقدرتهم على الكسب لأنفسهم وعلى النفع للمجتمع، فهذا التفاوت موجود في كل زمان ومكان؛ لأنه من فطرة البشر، ويترتب عليه التفاوت والتفاضل في المعايش، لكن الإسلام -مع إقراره هذا الأمر الفطري- شرع الأحكام لتعديل آثاره، والتقريب بين طبقات الناس، وأوجد لهم مراتب أخرى يكتسبونها من فضائلهم الأدبية والخلقية، وجعل لذلك قيمة رفيعة في المجتمع الإسلامي؛ بحيث يغبط أهل الدرجات العليا في المال إخوانهم من أهل الدرجات العليا في الأخلاق والفضائل، بحسب ما سنَّه الإسلام لأهله في المجتمع الإسلامي.
ومن أعظم ما اتخذه الإسلام لحماية الفقراء من استغلال الرأسماليين وأصحاب الأموال: تحريمه للربا، وقطعه لدابر المراباة في المجتمع الإسلامي. وهذه الحماية، لا نظن أن أمة من أمم الأرض -حتى ولا المحكومة بالشيوعية- تمتعت بمثلها في نظام غير نظام الإسلام.
وتزعم الشيوعية أنها نزعت عوامل الاستغلال ووسائل استعمال الثروة من أيدي الأفراد، فحرمت عليهم امتلاكها، ودفعت بها إلى الجماعة. والذي يتأمل في الواقع يرى أن ما زعموا أنهم فوضوا أمره إلى الجماعة في وسائل الإنتاج وتوزيع المنتجات والمصنوعات، إنما تولته في النظام الشيوعي هيئة قليلة العدد من الرجال المنظمين، فبعد أن كان هذا التملك خفيف الوطأة بما هو معرض له من المنافسة وتعدد المالكين، أصبح في النظام الشيوعي منحصراً في إدارة واحدة، يقوم عليه نفر قليل، يتمتعون الآن بمعايش وقصور لا تقل فخامة وسرفاً وغطرسة واستعداداً عما كان في قصور القياصرة، بينما الجماعة كلها مجندة في السلم والحرب لتقضي حياة مملة على وتيرة واحدة لا تزيد عن حياة العمال في البلاد الأخرى، غير أن العمال يملكون في البلاد الأخرى أمرهم، ويستقلون بإرادتهم وتصرفاتهم، فينتقل أحدهم من مصنع إلى مصنع إذا أراد.
أما جمهور الأمة في النظام الشيوعي، فمسلوب الإرادة ولا يملك حق الانتقال من مصنع إلى مصنع؛ لأن المصانع كلها لا تتمتع بمزية التنافس ما دامت إدارتها في يد واحدة، تتصرف في جميع العمال كما تتصرف في المواد الخام. وبذلك تحول أغنياء البلاد المحكومة بالنظام الرأسمالي إلى رجل واحد في النظام الشيوعي، يتصرف بلا منافس في كل ما في البلاد من بشر وشجر وحجر، وكما تحول إقطاعيو البلاد الأخرى إلى أقطاعي واحد في النظام الشيوعي، فأضحى رعاياه محجوزين وراء ستار حديدي، لا يدخل عليهم أحد، ولا يتمكن من الانفصال عنه أحد.
هذا في أمور العيش وحرية التملك، وأما في أمور الدين وحرية التدين،
فإذا كان أهل الديانات الأخرى يبكون من اضطهاد الشيوعيين لهم في كنائسهم، والسيطرة على عباداتهم، فإن المسلمين يزيدون على ذلك: أن دينهم لا يقتصر على أنه دين عبادة ومسجد، بل إن نظامه المالي والاجتماعي هو من صميم الدين، وحرمان المسلم من حريته في نظامه المالي والاجتماعي يعد حرماناً له من عناصر مهمة هي أيضاً من كيان الدين، وهي خير لكل مسلم من أي نظام آخر، ولاسيما النظام الشيوعي الذي يضطهد كل الأنظمة المخالفة له، ونظام الإسلام في طليعة الأنظمة المخالفة له من كل وجه.
وإن الإسلام في اعتداله وكونه من الأصل لم تشرع أحكامه لمصلحة أي طائفة من الطوائف دون غيرها، ولا أي طبقة من الطبقات دون غيرها، بل إن الله شرعها لجميع بني الإنسان؛ بتعديل طبائعهم، وتهذيب فطرتهم بعد إقرارها والاعتراف بها، وبذلك جمع التشريع الإسلامي في نظامه الاجتماعي والمالي جميع الحسنات والمزايا التي توجد في كل نظام آخر، وجرده من جميع العيوب التي توجد في أي نظام آخر.
وكان من أعظم ما أسيء به إلى الإسلام: إطلاق يد الأقوياء في معايش الضعفاء، حتى تجاوزوا حدود الاعتدال الإسلامي في التملك والتسلط والأثرة، بل لم يكتفوا بتجاوز حدود الاعتدال، حتى خرجوا عن نظام الإسلام إلى ما حرمه من الاستغلال المحرم، والبغي المنظم من الأقوياء على الضعفاء، فانتهز دعاة الشيوعية والمذاهب الباطلة هذه الحالة الشاذة، التي كانت سائدة في بعض بلاد المسلمين، فاحتجوا بها عند قليلي العلم بمزايا دينهم من عوام المسلمين، أو المتعلمين تعليماً أجنبياً، ومن هنا أصيب بعض أبناء هذه الملة بهذه النزعات التي انزلقت بها أقدامهم عن طريق الإسلام، فامتلأت بهم
السجون، وراح أهلهم وذووهم سادرين في أحزان مؤلمة بسبب هذا الضلال الاجتماعي والجهل بدين الإسلام.
أما وقد منّ الله الآن بهذه النهضة التي أخذت في القضاء على أسباب البغي والأثرة والاستغلال، وانتزاعها من جذورها، فقد زال ما كان يحتج به دعاة الأنظمة الباطلة والمنافية للإسلام، وانفتح الطريق واسعاً أمام المستنيرين من شباب المسلمين؛ ليبثوا في الوعي القومي أن الإسلام باعتداله وعدالته ورحمته، وتعاونه ومواساته للجميع، هو أكمل أنظمة الدنيا في إسعاد الإنسانية؛ لأن النظام الإسلامي أقر المبادئ المقررة في فطرة الإنسان، ثم هذب ميولها، وعدل اعوجاجها، وأحسن توجيهها إلى الحق والخير.
وإلى هنا شعرت أن الشيخ الأكبر قد وفى هذا الموضوع حقَّ توفيته، فشكرته على عنايته، واستأذنته على نشره، فأذن مشكوراً.