الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة الأستاذ محمد خلق الله أحمد
(1)
سادتي:
قضى نظام المجمع أن أشغل مكاناً كان يشغله من قبلي عالم من جلة علماء العربية، وشيخ من شيوخ جامعتنا الدينية الكبرى هو المرحوم الأستاذ محمد الخضر حسين، أسأل الله أن يجعل لي أسوة حسنة في إخلاصه للدين والعلم وخدمته للغة والأدب.
كان رحمه الله (أحد العشرين الأولين في حياة هذا المجمع) وقد سجلت مضابط الجلسات بحوثه في: (تصحيح الألفاظ والأساليب)، وفي (نواحي الإصلاح في متن اللغة)، وفي (طريق المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية)، وغير ذلك من البحوث، كما سجلت ما شارك به في النقاش والتعقيب، وأشارت إلى قصائده التي كان يمتع بها المجمع في دوراته ومؤتمراته، والحق أن فقيدنا الكبير كان متنوع نواحي النشاط العلمي واللغوي، وكانت تتمثل فيه طائفة كبيرة من خصائص تفكيرنا العربي الإسلامي في تلك المرحلة التي مرت بها نهضتنا الحديئة منذ أواسط القرن الماضي، فقد كان علينا - ونحن نكافح
(1) من كلمة الأستاذ محمد خلف الله أحمد التي ألقاها في مجمع اللغة العربية بعد أن شغل بعضويته مكان الإمام بعد وفاته.
في سييل نهضتنا الفكرية وإصلاح أوضاعنا الاجتماعية من جهة أخرى - أن نجاهد في إحياء تراثنا، والضاظ على تقاليدنا، وأن نتعهد أركان ماضينا بالدعم والتثبيت، وقد انتدب لهذه الناحية من جهادنا نفر من الراسخين في العلم فولوا وجوههم شطر ثقافتنا العربية الإسلامية، ينشرون صحائف مجدها، ويدفعون ما يوجه من شبه وتهم. وسار جهاد هؤلاء في ناحيتين متكاملتين: أحدهما إبراز سماحة الإسلام والدعوة إلى التمسك بمبادئه وتعاليمه، والثاني التمكين للغتنا الفصحى، والكشف عن ذخائرها، وتقريب بحوث القدماء فيها إلى أذهان المحدثين. وكان من هؤلاء السلفيين عالمنا الأستاذ (الضر حسين) فقد شهدت مجامع (تونس) و (دمشق) و (القاهرة) ألواناً خصبة من ثمار نشاطه، في هاتين الناحيتين. وسجلت لنا كتبه المطبوعة بعض هذه الثمار في صورة محاضرات ألقاها ورسائل نشرها، وفي كل جلاء لبعض خصائص ودراسات عن (حياة اللغة العربية)، وعن (الخيال في الشعر العربي)، وعن (القياس في اللغة العربية)، وعن (نشأة علم البلاغة)، إلى مسامرات ويحوث عن (الحرية في الإسلام) وعن (الدعوة إلى الإصلاح)، وعن (مدارك الشريعة الإسلام وسياستها)، وعن (السيرة النبوية) وعن (علماء الإسلام في الأندلس) إلى غير ذلك من ثمار التصنيف والتحقيق. ومنذ ثلاثين سنة، اتسعت دائرة جهاده وامتدت آثارها إلى مختلف أقطار العروية والإسلام، حين ألف هو وجماعة من المصلحين في القاهرة جمعية للهداية الإسلامية وأنشأوا لها مجلة تنشر دعوتها، وتكون ملتقى لأقلام الباحثين من الشيوخ والشباب. والذي يرجع إلى أعداد هذه المجلة يرى فيها صورة حية لنواحي الثقافة الإسلامية والعربية ومشكلاتها في تلك الفترة، ويلمس القيم التي ظل الأستاذ (الخضر حسين) طول حياته ينافح عنها في نثره وشعره،
وكانت عضويته في المجمع استمرار في خدمتها، وتتويجاً لجهاده في سبيلها.
وليس المقام اليوم مقام إطالة في تحليل اتجاهات عالمنا السلفي ومواقفه من مختلف الدعوات والمناهج والآراء في إحياء اللغة وتيسيرها، وخدمة التراث الإسلامي وتجديده، ولكنه مقام الذكرى والوفاء، واهتداء الخلف بما شرع السلف من سنن صالحة في نزاهة البحث ووضوح القصد. وقد كان من أكبر أماني سلفي أمنية عبر عنها من قبل في بحثه عن (القياس في اللغة العربية)، هي أن يهيء الله لهذه اللغة -كما هيأ لبعض لغات العالم الكبرى- (مجمعاً ينظر فيما تجدد أو يتجدد من المعاني، ويضع لكل معنى لفظاً يناسبه، فإن العلوم تتدفق تدفق السيل، ومقتضيات المدنية تتجدد تجدد النهار والليل، وكل من المعاني العلمية والمرافق الحيوية يحتاج إلى أسماء تلتئم مع سائر الألفاظ العربية التئام الدرر النقية في أسلاكها ..)(القياس في اللغة العربية ص 20 المطبعة السلفية - القاهرة 1353 هـ) وقد كرمه الله فحقق أمنيته بإنشاء (مجمع اللغة العربية)، وزاد إكرامه فجعله من المؤسسين الأولين لنهضة هذا المجمع والمربين لتقاليده، وأنا أحب أن أقتدي به.
في ذكرى الإمام (1) كلمة الدكتور زكريا البري
أيها الإخوة - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذا المسجد الإلهي المبارك استجبنا لدعوتكم الكريمة، إحياء لذكرى المولد النبوي الشريف، ومشاركة منا في إحياء ذكرى عالم مجاهد كبير، ارتبط بكم، وارتبطم به، هذا الرجل في رأيي ورأي تلاميذه وفي رأي عامة المسلمين ممن يعرفونه، يدخل في أولياء الله الصالحين.
ذلك أن هذا الرجل، وقد ارتبطت به في حياتي طالباً درست عليه، ثم بعد ذلك عاملاً بجواره في مشيخة الأزهر، حيث رغب إفي أن أشرف على مجلة الأزهر، ثم بعد ذلك رغب إلي رغبة خاصة في أن أعاونه في كتابة مذكراته وذكرياته.
ترددت عليه في منزله العامر في شارع (صفية زغلول)، بعد أن انتقل إليه من شارع (خيرت). وبدأ يمليني مذكراته وأنا كتبها، وأحياناً كان يخط بيده مسودات هذه المذكرات، ثم أتناول تبيضها في منزلي، وقد توقفت في
(1) أقيم احتفال بالقاهرة في ذكرى الإمام. وقد تلقيت من أحد أقارب الإمام شريطاً مسجلاً للحفل أخذت منه الفقرات المنتخبة، وذلك نظراً للكلمات المطولة التي ألقيت. وجرى الحفل في المسجد القائم في طريق الأهرام نزلة البطران.
بعض كلماتها لأنه عليه رضوان الله كان يكتب بالخط المغربي، ويضع نقطة الفاء تحتها وهكذا. ولكني بشيء من الممارسة استطعت أن أربط الألفاظ بعضها ببعض، واستمر هذا طويلاً أثناء المشيخة بعد صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، بل قد يطول الوقت إلى أكثر من ذلك.
ثم ذهبت إليه في يوم معين وقلت له: إذن سنواصل، وصلنا إلى كذا
…
فلنبدأ من هنا
…
قال وضحك، أو بعبارة أدق، ابتسم، لأن سمته كان سمت هدوء وقال: لقد مزقت هذه المذكرات.
كان في ذلك الوقت الأخ المرحوم الدكتور الشيخ عبد المنعم البهي يعمل في جريدة (المصري)، واتصل بي، وقد علم أنني أعاون الشيخ الأكبر المجاهد الإسلامي في كتابة هذه المذكرات. ورغب أن ينشرها تباعاً في جريدة المصري، فقلت له: إن هذا شيء لا أملكه، ولا أملك استئذانه فيه، وإنما الحل عندي أن تأتي لتزوره في يوم كذا، في هذا الوقت الذي سأواصل فيه الكلام وكتابة المذكرات.
وجاء الدكتور المرحوم الشيخ لذلك، وحدثه عن نشرها تباعاً في جريدة (المصري) ليستفيد بها الناس، ويروا تاريخ رجل فاضل، ولد في تونس، وهاجر إلى أوربا تحت ضغط الاستعمار الذي حكم عليه بالإعدام و
…
الخ. فإني أذكر كثيراً مما كتبه في هذا المقام. قال له بأدب: دعني أفكر، لأنه كان لا يريد نشر هذه المذكرات
…
دعني أفكر، واترك لي فرصة. وخرج الدكتور البهي رحمه الله وخرجت معه.
ثم جئت في المقابلة التي حدثتكم عنها، وقلت له: إذن نواصل ما كنا يه، قال: لقد مزقت هذه المذكرات. قلت: وفيما كان هذا؟ وقد أسعدتني
بكتابة هذه المذكرات، وشاركت فيها. قال: إن اقتراح زميلك المرحوم الدكتور البهي جعلني أفكر في نشرها أو عدم نشرها، واستخرت الله، ووجدت أن نشرها يعتبر حديثاً عن النفس، وفيه تزكية لنفسي، وأنا لا أريد أن أزكي نفسي، وليستفد من شاء بما شاء من كتاباتي، أما هذه المذكرات فقد عدلت عن المواصلة فيها، وانتهى أمرها إلى ما قلته لكم من أنه مزقها.
أذكر لكم بعض ما فيها من أسرار: كان الشيخ اسمه الشيخ محمد الخضر حسين، قال: وأظن أن هذه الورقة بالذات مسودتها عندي في بيتي احتفظت بها، لأني كنت آخذ كما قلت لكم بعض كتاباته وأبيضها أحياناً أولاً بأول - قال: إن أمه حينما ولدته وكبر، قالت له: إنها كانت تربت عليه وهو صغير وتقول له:
إن شاء الله يا أخضر
…
تكبر وتروح الأزهر
هذا هو الأزهر، وسمعته عند سيدة هناك في تونس، وعندها كلية الزيتونة، وهي كلية جامعية تشبه الأزهر تماماً، ولكن الأزهر هو الأزهر عندي هذه القصاصة بخطه رحمه الله.
وكأن السماء كانت تستجيب لهذه السيدة، لأنها هناك في قرية من قرى تونس، ثم بعد ذلك تربت على وليدها وتدعو له هذا الدعاء، وإذا بالقدر يخرج الخضر حسين من تونس إلى ألمانيا
…
إلى
…
إلى أن استقر وجاء هنا إلى الأزهر.
ووجد الناس في الخضر بن حسين في العشرينيات عالماً غريباً وعجيبباً، ولم ينشأ في الأزهر، وإنما نشأ في بلاده، وكوّن نفسه، وظهر فضله في كتاب ألفه في الرد على كتاب الدكتور طه حسين (كتاب نقض كتاب الشعر
الجاهلي). وتسامع الناس بهذا العالم، من أين؟ إلى أن عرفوا أن هذا عالم جليل، رباه الله، وصنعه على عينه، وجاء إلى مصر مهاجراً لأن الاستعمار كان قد أصدر حكماً بإعدامه.
هنا تطلع الأزهر إلى أن يفوز بهذا العالم، وأعطاه شهادة العالمية، ثم أعطاه بعد ذلك عضوية جماعة كبار العلماء. ثم أنشأ الشيخ الخضر حسين جمعية "الهداية الإسلامية" ورأسها، ثم
…
ثم بما لا أستطيع أن أطيل فيه لأن الوقت يحكمني مهما كنتم على استعداد لأن تستمعوا.
ثم بعد ذلك يجيء شيخاً للأزهر، وكان هذا شيئاً أبعد عن خياله، بل عن خيالنا نحن وعن توقعات أي سياسي وأي أزهري أن يجيء الشيخ الخضر حسين شيخاً للأزهر وهو في ضعف الشيخوخة، وهو لا يتطلع إلى ذلك، وليس له أنصار ينادونه، بل كان هناك فلان وفلان من أعلام مصر الكبار الذين يستحقون هذه المشيخة. لكن إرادة الله تقتضي بحكمته أن يثور خلاف في مجلس الوزراء حول اختيار هذا أو ذاك، وإذا بالمجلس يفاجئ الشيخ الخضر حسين، وكان بيته في شارع خيرت، بينه وبين لاظوغلي مجلس الوزراء في ذلك الوقت خطوات، وإذا بالشيخ الخضر حسين، وهو في بيته نائم، إذا بوزراء يدقون بابه، ثم بعد ذلك عرف منهم أن مجلس الوزراء قد انتهى خروجاً من الخلاف إلى أن يختار شيخاً للأزهر.
ثم
…
ثم
…
مسائل كثيرة، وتاريخ هذا الرجل في حاجة إلى أن يكتب أحد عنه، وهذا ما سأحاوله إن شاء الله، رسالة ماجستير، أو رسالة دكتوراه، لأن له تاريخاً غريباً، هو تاريخ الأئمة، هو تاريخ المجاهدين.
ألّف في أصول الفقه، وألف في رسائل الإصلاح، ألف في القياس في
اللغة العربية
…
هذا الرجل، أقول إننا في حاجة لمن يكتب عنه كتابة حرة، وكتابة منهجية في رسالة دكتوراه، ورسالة ماجستير.
وأختم بكلمة قالها لي، في يوم أن خرج من المشيخة. خرج من المشيخة، كان قد استقال، وقدم استقالته لأنه غضب من بعض الأمور التي أرادتها الثورة في الأزهر، وقال: لا أوافق عليها مطلقاً. ثم بعد ذلك زاره وزير الأزهر في ذلك الوقت، وهو موجود الآن، وقد حدثني بهذا أيضاً، وحدثته حينما نقلت إليه ما قاله لي الشيخ الخضر حسين، قال: هذا حقيقي. زاره وقال له: إن استقالتك واعتكافك سببت للدولة متاعب سياسية، وأنا باسم الدولة أنصح باسترداد الاستقالة وبالعودة إلى العمل، قال: بشرط أن تستجاب المطالب التي تقدمت بها، وأن تعدل الثورة عما تريده نحو الأزهر. قال: ولك هذا.
وذهب إلى مشيخة الأزهر يوماً واحداً أظنه يوم الخميس، ثم بعد ذلك في يوم السبت على ما أذكر إذ به يقرأ في بيته قبل أن يخرج قبول استقالة شيخ الأزهر أو بعبارة أدق تعيين شيخ آخر.
فزرته في المساء وقلت له: كيف كان ذلك، فقال: لا أعلم، أنا ذهبت لمصلحة الأزهر حيث حدثني الوزير المختص بذلك، ثم بعد ذلك لم يتحدثوا عن استقالتي، وإنما تحدثوا عن خروجي وتعيين غيري: يا بني إن كانت جنة فقد دخلتها وإن كانت ناراً فقد خرجت منها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.