الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكمل رسالات الله
حديث لفضيلة الأستاذ الأكبر في احتفال الأزهر بالمولد النبوي الشريف (1)
يحتفل العالم الإسلامي اليوم بمولد الإنسان الكامل، الذي اختاره الله لحمل أكمل رسالاته إلى البشر كافة، فكان هذا الحادث في تاريخ الإنسانية الحد الفاصل بين الحق مموهاً باهواء المتغلبين، ومطامع المغالطين، وأغراض الظالمين، فهو لذلك عرضة للتغيير والتبديل، وبين الحق الأبلج النقي من شوائب الأهواء والمطامع والأغراض، فهو لذلك ثابت خالد إلى يوم الدين.
إنه احتفال بمولد الحق مجرداً خالصاً صافياً، ويدعوة الخير عامة شاملة كاملة.
إنه احتفال بانتقال الإنسانية من عهد طفولتها ورعونتها، إلى ما ينبغي لها عند اكتمال نضجها وبلوغها عهد رشدها.
كل ذلك مما يحتفل به العالم الإسلامي اليوم، إذ يحتفل بمولد خاتم رسل الله محمد- صلوات الله وسلامه عليه -.
وقد كرمه ربه بما حف به ولادته من أصالة النسب، وصفاء الفطرة، وسلامة الخلق. ثم استرضع في بني سعد بين أخبية البادية وآفاقها، فازدادت آصرته بالبيئة السعيدة البعيدة عن شوائب المجتمع، وكان كلما شب بعد
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول-1372 هـ = ديسمبر كانون الأول 1952 م.
ذلك ونما، اتسعت شهرته بين قومه بالأمانة والصدق والاستقامة في الطريق المستقيم، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال، دعته السيدة خديجة بنت خويلد إلى التزوج بها؛ لما اشتهربه من كريم الفضائل، ومعالي الأخلاق، فأجابها إلى ذلك، ورأى فيها من الكمال والوفاء ما قابلها عليه بأحسن منه.
ولما قارب أمر الرسالة، جعل يختلي في غار حراء للتحنث والعبادة، ومناجاة الله عز وجل، فكانت زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها تساعده على ذلك، وترسل إليه زاده في هذه الخلوة القدسية بينه وبين ربه.
وآن أوان بعثته العامة الشاملة إلى الأمم كلها عندما بلغ من عمره الشريف نحو الأربعين، فأوحى الله إليه في سورة الأنعام -وهي مما أوحى به إليه في مكة قبل الهجرة-:{قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الأنعام: 19] ، فهو صلى الله عليه وسلم نذير برسالته لمعاصريه، ولكل من تبلغه دعوته في كل زمان ومكان تتلى بهما آيات هذا القرآن على ألسنة الأمم، فتبلغ أحكامها وحكمها مسامع الأجيال، ولأن رسالته عامة شاملة كتب رسالته المشهورة إلى ملوك الأرض في زمنه: قيصر، وكسرى، وهرقل، والمقوقس، والنجاشي، وملكي عمان، وغيرهم، يوجه فيها الدعوة إليهم وإلى أممهم بأن يدخلوا في دين الله.
وقد تحمل- صلوات الله عليه - في سبيل أداء الرسالة وتبليغ الدعوة ما كان يتحمل أنبياء قبله من الأذى والجفوة، والصد عن قبول الحق، إلى أن استجاب له الأنصار، وبايعوه على الإيمان، ثم نهضوا مع إخوانهم المهاجرين لمقاومة من يقف في سبيل الدعوة، أو يصد عن انتشارها، فكتب الله النصر لدعوة الحق في بدر، ثم في غيرها، إلى أن فتح الله لرسوله مكة أم القرى،
وتم تطهير بيت الله الأعظم من لوث الوثنية، ودانت العرب كلها لهذا الدين القيم، فما انتقل - صلوات الله عليه - إلى الرفيق الأعلى حتى كان سكان جزيرة العرب كلهم قد آمنوا، إلا طائفة من اليهود والنصارى أبقاهم صلى الله عليه وسلم على دينهم، ومنحهم ذمة الإسلام المتكفلة بحماية أنفسهم وأموالهم وشعائرهم.
ولقد عمل أصحابه الكرام - رضوان الله عليهم - بهدايته، وساروا على سنته السنية، فمضوا في الدعوة بعده إلى دين الحق، ملتزمين ما التزمه صلى الله عليه وسلم من العدل والرأفة والرحمة ومكارم الأخلاق، لا يفرقون في ذلك بين من اتبع دينهم أو خالفه، عملاً بقول الله عز وجل في سورة المائدة:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وبذلك فتحت لهم الممالك، واستجابت لدعوتهم الأمم، ووجد شعوب الأرض في هذه الدعوة كل ما كانوا ينشدونه في مطالب الحياة من حقوق ومواريث، وآداب ومواعظ وأخلاق وحكم، وإرشاد لأكمل الأحكام في الحرب والسلم، وكل ما يحتاج إليه الفرد والمجتمع الصالح في هذه الحياة.
ومع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا من جزيرة العرب ليحققوا الانقلاب العظيم، الذي أراد الله أن يكون به الحد الفاصل بين الحق والباطل، كانوا قلة بالنسبة إلى الممالك والإمبراطوريات التي واجهوها بدعوتهم، فإن الله عز وجل جعل الغلبة لهم منذ تعلموا من هدايتهم القرآنية أن العبرة في الغلبة ليست للكثرة التي لم يلازمها الحزم والإخلاص للحق والصبر عليه، وذلك في قول الله عز وجل من سورة المائدة:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الكثرة إذا تجافت عن
الحق والخير بأنها "غثاء كغثاء السيل"، وقال الله عز وجل في سورة البقرة:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . [البقرة: 249].
فجعل فضيلة الصبر على إقامة الحق من أسباب الغلبة والنصر، ولو كان القائمون بالحق الصابرون عليه قليلاً عددهم عند مواجهتهم الكثرة من أنصار الباطل، وبهذا ربى الإسلام من أبنائه الأولين كتلة حازمة لا تهاب الموت في سبيل عزتها والدفاع عن حقها، فعاش المسلمون الأولون سادة قادة ذادة، يحميهم الحق ويحمونه، وتجملهم فضائل الخلاق ويجملونها، ويملؤون الدنيا عدلاً ورحمة، وتحوطهم الدنيا بالعزة والغبطة والإعجاب.
ولما فشلت كثرة الباطل في قمع الحق الذي بعث به صاحب هذه الذكرى - صلوات الله عليه -، أراد المبطلون في زمن البطن الأول من أصحابه أن يفسدوا دعوة الحق؛ بالانتساب إليها، ودس العقائد الباطلة فيها، فأفشوا في بعض الضعفاء دعوة تأليه علي- عليه السلام، وبعض من ينتمي إلى آل البيت، فكان أول من غضب لهذه الدعوة، وبطش بالمبطلين من أصحابها، علي -كرم الله وجهه-، ومن ذلك اليوم انفتحت جبهة أخرى للدفاع عن الحق الذي بعث الله به رسوله؛ بقيام طائفة من أئمة الإسلام في كل زمان ومكان يفرقون بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والصدق والكذب، وطريق أولياء الله السعداء وأعداءالله الأشقياء، وبهم حفظ الله دينه الذي وعد بحفظه إلى يوم الدين.
إن ذكرى مولد صاحب هذا الانقلاب الإنساني العظيم، تذكرنا بكل ماكان لهذه الدعوة من أثرعظيم في عقول البشر وأخلاقهم ومداركهم، وبالنجاح المنقطع النظير بمن عملوا بها في أنفسهم، وتطوعوا لنشرها بين الناس، وهي
تدعونا إلى أن نرجع من جديد إلى هداية الإسلام كما كانت في صفائها ونقائها؛ ليرجع لنا أثرها من العزة في أنفسنا ودولتنا، والسعادة في بيوتنا وأوطاننا، والكرامة بين شعوب الأرض.
صلى الله وسلم على معلم الناس الخير، وعسى الله أن يهدي أمته للرجوع إلى هذا الخير، في هذا العهد الطاهر المبارك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.