الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأزهريون والتدريبات العسكرية
(1)
زخرت إدارة المعاهد الدينية بجماهير حاشدة من العلماء والطلاب الأزهريين، وقد قابلوا فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، وذكروا لفضيلته رغبتهم في الانضمام إلى التدريبات العسكرية التي تنتظم في هذه الأيام طوائف الأمة على بكرة أبيها، وقالوا: إنه يجمل بهم أن يكونوا في مقدمة تلك الطوائف مراناً على حمل السلاح للجهاد في سبيل الدفاع عن الوطن، وقد استمع فضيلة الأستاذ الأكبر لرغباتهم، ثم ذكر: أن ما يرغبون فيه واجب مقدس في سبيل الوطن، وعليهم أن لا يدخروا جهداً في سبيل الانضمام إلى معسكرات التدريب، وأن يكسبوا من المران على حمل السلاح وغيره من أدوات الجهاد ما يكفيهم في ميدان الدفاع عن الوطن.
وقد رأى مندوب "الأهرام" أن يرجع إلى فضيلته؛ ليقف على رأي الإسلام في هذه التدريبات العسكرية، فقال فضيلته:
الدفاع عن الوطن ركن من أركان الإسلام، وفريضة من فرائض عباداته، وإن الاستعداد له، والتمرن على حمل السلاح، وحسن استعماله؛ للقيام بذلك عند الحاجة، معدود من لوازم هذه الفريضة، والعلماء مطالبون بالعمل به
(1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رمضان - 1372 هـ = ماي أيار 1953 م.
كغيرهم من سائر المسلمين، بل قبل غيرهم من إخوانهم أفراد الأمة، ولذلك كان علماء الصحابة أسبق الناس إلى ساحات الجهاد، وأولهم استعداداً له، ومبادرة لإجابة دعوة الداعي إليه.
ولما استعر القتال باليمامة (1) وغيرها أيام فتنة الردة، كان علماء الصحابة، وحملة كتاب الله في طليعة المجاهدين والشهداء، ولذلك بادر الصحابة إلى جمع القرآن وكتابته؛ لئلا يضيع شيء منه مع حُفَّاظه من علماء الصحابة الذين كانوا أسرع من غيرهم إلى نيل مقام الشهادة في سبيل الله.
وما من حرب نشبت في صدر الإسلام إلا كان علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان في طليعة المجاهدين، وأسماؤهم في السطور الأولى من قائمة الشهداء، ومواقفهم في ساحات القتال، وعلى الحدود، وفي الثغور معلومة مشهورة.
ولما فتح المسلمون صقلية (2) سنة 212 هـ، كان قائد أسطولها، والرئيس الأعلى لجيوش الفتح البرية والبحرية إماماً من أئمة الفقه، وقاضياً من قضاة الشرع، هو الإمام أسد بن الفرات تلميذ الإمام مالك بن أنس، والإمام محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة، وطبقتهما، فهو الفاتح الأول لهذه الجزيرة الإيطالية المنيعة التي نعمت بسببه بالحكم الإسلامي الرحيم زمناً طويلاً، فكان
(1) بلاد وسط الجزيرة العربية من مقاطعات نجد، ويقال: إن الاسم يرجع إلى زرقاء اليمامة الرائية الشهيرة، سكنها بنو جديس في الجاهلية، ثم بنو حنيفة بن لجيم الذين اعتنقوا الإسلام.
(2)
جزيرة في البحر المتوسط لا يفصلها عن أوربة إلا مضيق مسينا، دخلها أسد بن الفرات على رأس الجيش في ربيع الأول سنة 212 هـ.
فاتحها الفقيه الإمام الكبير من أبرع حملة السلاح بيمينه التي اشتهرت قبل ذلك بتدوين أحكام الشرع وبتبيين آداب الإسلام وسننه الرفيعة.
واستشهد أبو الربيع الكلاعي في واقعة أثيجة بالأندلس، وهو يتقدم الصفوف، وينادي بالجند: أعن الجنة تفرون؟ حتى قتل صابراً، وكان حافظاً للحديث، مبرزاً في نقده. وقال ابن خلدون في"مقدمته": ربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف.
وكان القاضي يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالطائفة إلى أرض الروم، وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس.
هكذا كانت حال علماء الإسلام في كل عصر ومصر، وعندما حشد صلاح الدين الأيوي الجيوش الإسلامية سنة 583 هـ لقمع الصليبيين، وإجلائهم عن فلسطين، كان في جحافله عدد لا يحصى من العلماء والفقهاء، والصالحين، نذكر منهم: الإمام موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي مؤلف أجود الكتب وأشهرها في الفقه الحنبلي، وأخاه الأكبر الشيخ أبا عمر مؤسس المدرسة العمرية الشهيرة في سفح جبل قاسيون بدمشق وكانت لهما ولتلاميذهما في معسكر صلاح الدين خيام تتنقل مع الجيش من معركة إلى معركة، ومن نصر، إلى نصر حتى ختم الله ذلك الجهاد بموقعة حطين الفاصلة التي انتهت بإخراج جميع الأوربيين من فلسطين.
ولما عظم البغي من وثنيي التتار، وزحفت جيوشهم على الشرق العربي، كان الإمام تقي الدين بن تيمية هو معلن النفير بالجهاد العام، وهو الذي قدم من الشام إلى مصر لاستنفار حكومتها وشعبها وجيشها للاشتراك في الدفاع، وكان ابن تيمية في تلك الحرب أول شاهر بالسيف مقاتل به، على ما هو معروف
من سيرته، فكان بذلك من أعلام المجاهدين بالسيف، كما كان من أعلام المجاهدين بدروسه ومؤلفاته.
إن جهاد علماء المسلمين في كل كتيبة خاضت غمرات الحرب استمر من صدر الإسلام في كل عصوره، حتى في العصور المتأخرة اشتهر جهاد الإمامين الشهيدين: السيد أحمد بن عرفان من تلاميذ الشيخ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي، وصنوه الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي؛ فقد قاما في الهند على رأس جيش من المسلمين في الدفاع عن حياة الأمة ببسالة منقطعة النظير إلى أن نالا مقام الشهادة في سبيل ذلك، وهما من العلماء الأعلام في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، فكان جهادهم امتداداً لما سبقهم إليه أئمة الإسلام وعلماؤه من أقدم عصوره، وكانوا في ذلك المثل الأعلى لجهود المسلمين في التضحية والجهاد، وحفظاً للأوطان، وإرضاء للرحمن، وعلى غرار هؤلاء الأسلاف يسير العلماء وطلبة العلم الإسلامي في مصر وغيرها، كلما دعاهم داعي الجهاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.