الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام لا يقر المحسوبية
(1)
إن عناية الإسلام بالناحية الخلقية للفرد والجماعة من أبرز النواحي التي تناولتها نصوصه؛ لأن من أكبر مقاصده: تكوين الأمة الصالحة، وأول وسائل ذلك: تقويم أخلاق أفرادها وجماعاتها، وحسن توجههم إلى كل ما يرضي الله عز وجل من مكارم الأخلاق، لذلك كانت المحسوييات والوساطات للتوصل إلى المقاصد من غير استحقاق لها في مقدمة ما قاومه الإسلام، وصان أهله عن الانزلاق فيه. ولو لم يكن منع الإسلام للوساطات والمحسوبيات داخلأ في رسالة الإسلام الخلقية التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فإنها داخلة في إقامة الحق الذي هو ركن عظيم من أركان الإسلام، وقد سماه الله-عز وجل:{دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] في مواضع متعددة من كتابه الحكيم.
وأي غمط للحق أكبر من إيثار امرئ بما لا يستحقه من المنافع أو المناصب لأنه محسوب لجهة لا يمت إليها آخر هو أكثر استحقاقاً وأهلية لتلك المنفعة، أو ذلك المنصب؟ وأي غمط للحق أعظم من أن يحابى امرؤ في درء حد من حدود الله عنه، أو إعفائه من حق وجب عليه؛ رعاية لجهة قوية
(1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة شوال- 1372 هـ = جوان حزيران 1953 م.
ينتمي إليها، أو وساطة ذي مكانة ما كان لولاها ليعفى من القيام بالحق الذي وجب عليه؟.
وأكثر المسلمين يحفظون في ذلك موقف النبي- صلى الله عليه وسلم من المرأة المخزومية التي سرقت، فخاطبت قريش أسامة بن زيد؛ ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسقاطه الحد عنها، فقال - صلوات الله عليه -:"أتشفع في حد من حدود الله؟ "، ثم أتى المسجد، فخطب خطبته المشهورة التي قال فيها:"أيها الناس! إنما هلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم، تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم، أقاموا عليه الحد، وايم (1) الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها".
ومن هذا الينبوع أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المبدأ الإسلامي العظيم الذي قرره في رسالته إلى أبي موسى الأشعري واليه على البصرة، فقال له فيها:"آس بين الناس في مجلسك، وفي وجهك، وفي قضائك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك".
ثم مضى على هذا المبدأ أئمة المسلمين وولاتهم وقضاتهم، وقد رأس القضاء بأجمعه في الفسطاط (2) عاصمة الوطن المصري، عظيمٌ من فقهاء الإسلام، وهو إبراهيم بن أبي بكر الأجنادي، فكان مما قال مترجموه في وصفه:"كان لا يقبل وساطة ولا شفاعة، بل يصدع بالحق، ولا يولي إلا مستحقاً".
وابراهيم بن إسحاق قاضي مصر ذكروا في ترجمته: أنه حكم في قضية
(1) اليمين، يقال: يمين الله، وأيمُن الله، وأيمُ الله.
(2)
أول مدينة أسسها العرب في مصر، بناها عمرو بن العاص بين النيل وتلال المقطم نحو 643 هـ، وبنى فيها مسجداً وداراً للإمارة.
لرجل على آخر، وكان المحكوم عليه قريب الصلة بالأمير، فتشفع المحكوم عليه بالأمير ريثما يصطلح المتقاضيان. فما كان من القاضي إبراهيم بن إسحاق إلا أن أقفل باب المحكمة، وترك القضاء، وذهب إلى منزله، فأرسل إليه الأمير يساله الرجوع قائلاً للقاضي: إني لا أعود إلى الوساطة في شيء أبداً، وليس في الحكم شفاعة.
ومن المعلوم في أحكام الفقه الإسلامي: أن الحاكم ليس له أن يشير على الخصوم بالصلح إلا إذا لم يتبين له الحق.
وقد بقيت هذه الأخلاق في علماء المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، فقد ذكر التاريخ: أن السلطان بايزيد حضر إلى المحكمة بين يدي شمس الدين محمد بن حمزة الفناري قاضي القسطنطينية ليشهد في قضية رفعت إليه، فما كان من القاضي الفناري إلا أن رد شهادة السلطان، ولم يقبلها، ولما سأله السلطان عن وجه رفى ها، قال له: إنك تارك للصلاة مع الجماعة، فبنى السلطان في الحال جامعاً أمام قصره، وعين لنفسه موضعاً فيه، ولم يترك صلاة الجماعة بعد ذلك.
فالمسلم الذي يأمره إسلامه برد شهادة شاهد لسبب من الأسباب، فيرد شهادته، مع أنه صاحب السلطان المطلق عليه، لا شك أنه ذو دين قد ريي أهله على إقامة الحق في كل الظروف، وعلى ألا ينحرف أحد منهم عن الحق لأية عاطفة من عواطف الحب والبغض، والرغبة والرهبة.