الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة
(1)
كتب مندوب "الأهرام" يقول:
يعد اجتماع المؤتمر الإسلامي في مدينة القاهرة حدثاً تاريخياً له دلالته وأهميته، ولعل أولى نتائجه: أن الأمم الإسلامية سوف يتاح لها أن تجتمع في صعيد واحد؛ لتتدارس ما يعتورها، أو ما كان يعتورها من مختلف العوامل لتقول كلها كلمة واحدة، ولتضع نظاماً واحداً من شأنه توحيد الجهود لمقاومة العدو المشترك، سواء أكان هذا العدو مرضاً وفقراً وجهلاً، أم كان مستعمراً بجثو فوق رؤوسنا وصدورنا بعدده وعدته وخيله ورجله.
وقد رجعت إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر؛ لأقف منه على ما قد يعرض على هذا المؤتمر في اجتماعه المقبل من أمهات المشكلات المشتركة بين الأمم الإسلامية، والحق أن فضيلته قد تردد كثيراً في إجابتي إلى ما طلبت، وذكر لي: أن من الخير أن لا نتحدث عن مثل هذه المشكلات قبل أن يتخذ المؤتمرون فيها قراراً عملياً قد يكون له أثره المرتقب، ولكني
(1) مجلة "الأزهر" الجزء السادس -المجلد الرابع والعشرون- غرة جمادى الثانية - 1372 هـ = فبراير شباط 1953 م.
* "جريدة الأهرام" العدد 24193 تاريخ 8 - 2 - 1953 م تحت عنوان: "الدعوة إلى عقد المؤتمر الإسلامي في القاهرة".
شرحت له أن هذا الاعتبار -وإن كان اعتباراً له قدره- إلا أنه لا يصح أن يقف حائلاً دون الإعداد والتمهيد، فقال فضيلته:
* زعماء المسلمين:
لقد تقرر أن يجتمع كبراء المسلمين، وزعماؤهم في مؤتمر عام يعقد في القاهرة، كما عقد في مدينة "كراتشي" في العام الماضي؛ للتفاهم، أو للتفكير والبحث في "التعاون" على البر والتقوى.
واستطرد فضيلته، فقال متسائلاً: فهل لنا أن نمهد لذلك بالتفكير في أنفسنا، ثم في بحوثنا عن سبل الانتفاع الصادق بهذه الرابطة التي عقدها الله بين قلوب خمس مئة مليون مسلم على الحق والخير، وأباح لهم جميعاً سبل التعاون على الانتفاع بكل ما في أوطانهم من نعمة مدخرة.
إن التفكير في ذلك من مصلحتنا، ومن أسباب سعادتنا، ولاسيما إذا استلهمناه من روحنا الأصيلة، ومن مبادئ ميثاقنا الأقوم، معتبرين الأخوة التي عقدها الإسلام بيننا خطوة إلى الإنسانية التي تنشدها الأمم اليوم وتتمناها، ولكن العصبيات القومية، والاختلافات الوطنية، والتنافس على توافه المتع وسفاسف الرغائب تحول بينهم وبين ذلك.
ولو وفقنا نحن إلى شيء من ذلك، لضربنا المثل به لأمم الأرض، فتستكشف بضوئه مسالكها إلى السعادة والتعاون في أسمى معانيه.
* المسلمون أسرة واحدة:
كانت الإنسانية في بدء تكوينها أسرة واحدة، تتعاون كما تتعاون الأسرة الواحدة، وتتراحم كما تتراحم، ثم تكاثرت واتسعت، فطرأت عليها العصبيات والاختلافات والتنافس على توافه المتع وسفاسف الرغائب.
وما زالت هذه العصبيات والاختلافات تنمو وتستفحل حتى نشأت عنها العداوات والإحن بين الأسر، فالمجازر والمذابح بين القبائل، حتى إذا تمكنت الأثرة والأنانية من النفوس، وانتقلت من القبائل إلى الشعوب، جاء الإسلام وهذا المرض الإنساني في مقياس واسع بين الروم والفرس، فكان من أعظم رسالات الله إلى الإنسانية على لسان خاتم النبيين: دعوة الأمم للرجوع بالإنسانية إلى وحدتها الأولى متآلفة بميثاق جديد، وهو ميثاق الحق حيثما كان، والخير كيفما يكون.
* رسالة الإسلام:
جاء الإسلام بهاتين الكلمتين: (الحق)، و (الخير) باسطاً يده إلى أمم الأرض، لا فرق بين أصفر وأحمر، وأبيض وأسود، فكل من دخل منهم في ميثاق الحق والخير، كان أخاً للداخلين فيه، لا فضل في ذلك لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بقدر مبادرته في الاستجابة لهذا الميثاق الإنساني، وتجنبه كل ما يخالفه أو يخل به.
* الإخاء في الإسلام:
وفي ظل هذا الميثاق الإنساني الأعظم كان الإسلام قد عقد الإخاء بين الأوس والخزرج، فكانوا جميعاً أنصار هذا الحق، ودعوة هذا الخير، ثم عقد الإخاء بين الأنصار والمهاجرين بما لم يسبق له نظير في تاريخ الإنسانية لما تتمناه الإنسانية من التواسي والتراحم والتعاون في أسمى معانيها، وإن هذا المثل الإسلامي الأعلى لا يزال مضروباً للناس جميعاً -وفي مقدمتهم المسلمون-؛ ليعودوا إليه، فيعظموا به، وليأخذوا بمبادئه، فيقوموا ويسعدوا.
روى الحسن بن أبى الحسن البصري: أن خطيب قريش سهيلَ بن عمرو،
أحدَ بني عامر بن لؤي، وأبا سفيان بن حرب بن أمية، والحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي، وغيرهم من أشراف قريش كانوا بباب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان في بابه أيضاً بعض الموالي؛ كصهيب، وبلال، وغيرهما ممن شهد بدراً، فخرج إذنُ عمر للموالي، وأخر عنهم أولئك الأشراف، فامتعض بعض هؤلاء، وقال أبو سفيان: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد، وتركنا على بابه لا يلتفت إلينا؟!. فقال سهيل بن عمرو -وكان من ذوي أحلامهم-: أيها القوم! إني أرى -والله- الذي في وجوهكم، إن كنتم غضاباً، فعلى أنفسكم فاغضبوا، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟!.
هذه هي أخوة الإسلام التي رفعت الضعفاء جزاء مبادرتهم في الاستجابة لدعوة الحق والخير، وساوت بلالاً وصهيباً وأمثالهما بأشراف قريش وساداتها، بل قدمتهم عليهم.
الحق والخير من مبادئ الإنسانية الأولى من الأزل، وسيبقيان جديدين إلى الأبد، وميثاق الحق الخير مدعوٌّ إلى الأخذ به كل إنسان يعرف قدر الإنسانية، والذي يستجيب لدعوته التي نادى بها الإسلام، يضمن بذلك السعادة لنفسه وذويه، والإسلام لا يطلب منه جزاء على ذلك، وأول من ينبغي لهم أن يستجيبوا لدعوة الحق والخير، وإحياء ميثاقهما: هم المسلمون، وسيجدون أنفسهم وبلادهم وأممهم بعد ذلك قد استحالت خلقاً آخر غير الذي كانت فيه.
وتعال نتساءل: ما بالنا -نحن المسلمين- لا نفكر في ذلك؟! وما بالنا لا نحسن إلى أنفسنا بالرجوع إلى مبادئ الإسلام الطيبة، وأساليبه الحكيمة
الطاهرة في الأخوة والتعاون؟! ألسنا نعلن في كل يوم: أن الناس بخير ما تعاونوا؟!.
لماذا نستحسن التعاون على قروش في مواد البقالة، ولا نجرب التعاون على السعادة بحذافيرها في مواد الحياة ومبادئها؟!.
لقد دعانا الإسلام لنكون إخوة متعاونين، لا على الأمور الصغيرة؛ كفتح دكاكين البقالة وحسب؛ فإن هذا التعاون مطلوب بعد الإيمان بمبدأ التعاون الاسمي فيما هو أسمى من ذلك، وأوسع نطاقاً، وأعظم آفاقاً.
نحن الآن أمة لا يقل عددها عن خمس مئة مليون أو تزيد، فما أقوانا وما أسعدنا لو تعاونا على كل ما نشترك في الانتفاع به من معادن نفوسنا، ومرافقنا ومدخراتنا، وما أكثرها وأعظمها وأثمنها! بل لماذا لا نتعاون في آلامنا وأوصابنا، وأوجاعنا، وما أشدها! وفي آمالنا لحاضرنا ومستقبلنا، وما أوسع آفاقها!.
لقد أنعم الله علينا بدولتين جديدتين مستقلتين: الباكستان، وأندونسيا، وفيهما أكثر من ربع عدد المسلمين في العالم، وأنعم علينا بتطهير أرض الكنانة من أسوأ نظام وأبشعه، وأنعم علينا باليقظة في كل مكان، والاستعداد للأخذ بما هو أحسن؛ حتى نصل إلى الاستقرار والطمأنينة، والرضا بالحق، والإقبال على الخير، وفي ميثاقنا الإنساني الأول الذي أنعم الله به علينا في أكرم رسالاته ما يحقق ذلك كله لنا على أتم الوجوه وأجملها، فلماذا لا نمد يدنا إلى هذا الماء النمير العذب الصافي فنغترف منه؟ وفي أوطاننا الإسلامية من أقصى أندونسيا إلى آخر دنيا المسلمين كل أنواع المعادن والمحصولات والمنتجات والمواد الأولية، فلماذا لا نتعاون مع إخواننا من أهلها على تبادل هذه المنافع، وإكمال
ما ينقصنا من أوطان إخواننا الذين يكثر ذلك عندهم؟ لماذا لا نعتبر الوطن الإسلامي وطناً واحداً في تبادل منافعه بالحق والخير، مع الاعتراف لأهل كل بقعة بأن الأقربين لها أولى بالمعروف، وأن عليهم أعباءها في مقابل ذلك، ثم علينا معاونتهم ولنا عليهم أن يكونوا في عوننا؟ ولماذا لا نفتح لهم قلوبنا ليفتحوا لنا قلوبهم، وبذلك نحصل على مفاتيح الخير كلها في السماوات والأرض؟
* ميثاق الإنسانية:
إن عقبة واحدة واقفة في طريق تحقيق ذلك، وهي أننا تناسينا ميثاق الإنسانية الذي عقدته رسالة الإسلام بين الأصفر والأحمر، والأسود والأبيض، وقد علّمنا الاستعمار في داخل فصول مدارسنا التي ننفق عليها من أموالنا بأن المسلمين أجانب عن المسلمين، وأن الإسلام نفسه شبح مخيف يجب أن نتنكر حتى للأخلاق التي يدعو إليها، وللمثل العليا في التاريخ التي ضربها أبطال التاريخ الإسلامي للعالم بما بنوا من أمجاد، وبما أقاموا من حق، وبما نشروا من دعوة الخير، فنشأ أبناؤنا ومعاصرونا غرباء عن هذا الجو، متخوفين من فتح نوافذهم إلى ناحيته، ولهذا بقي المسلمون متقاطعين فيما بينهم، ومقاطعين لميثاقهم الإنساني الأعظم، ومتجافين عن أخلاق دينهم التي بعث الله نبيهم ليتمم مكارمها، ويجمل الإنسانية بها.
وإذا كانت مدارسنا لا تحب أن تعلم هذه الأشياء لأبنائنا، فلماذا لا يقوم سليمو النية من أفاضلنا وأذكيائنا ومثقفينا بدراسة روح الإسلام من ناحيتها التعاونية والتعاملية، ويحاولون استنباط معادن الخير منها؛ لننتفع بها في أزماننا الحاضرة؟.