الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعمار يقرب من نهايته
(1)
خاض الغرب معركة استعماره للشرق في القرنين الماضيين مستعيناً بما كان يسود ظروف تلك المعركة من متناقضات. فالغرب كان قد أخذ يستنير بمعارفه المادية، ويقوى بآلاته الصناعية، وأنظمته المبتكرة، وأسلحته الجديدة. غير أن لجج الظلام كانت قد بدأت تغمره بنزعات الإلحاد والتحاسد، والجشع والبغي، والفراغ السياسي من الدافع الأعلى، كما يقول المؤرخ (ولز)، بينما الشرق كان قد أخذ ينحط بضعف حكوماته، وتخلفها وتقاطعها، وإن كانت شعوبه لم تزل يومئذ ممتازة ببقية كريمة من الأخلاق النبيلة؛ كالقناعة، والتراحم، والأمانة، والثقة، حتى لقد شهد (المسيو جومار) أحد مهندسي الحملة الفرنسية على مصر بأنه رأى بعينه الغلال وبضائع التجار تكدس على ساحل النيل في فرضة بولاق التي كان فيها جمرك القاهرة، فلم يكن يمسها أحد بسوء ليلاً ولا نهاراً، مع أنها متروكة في العراء بلا حراسة ولا خفراء.
فالاستعمار كان في القرنين الماضيين بغياً من القوة المادية على شعوب ذات فضائل وأخلاق، منتهزاً فرصة الضعف الذي دب إلى حكومات تلك الشعوب الطيبة الأعراق، الآمنة في أوطانها، السعيدة بقناعتها وأمانتها وتراحمها.
(1) مجلة "الأزهر" الجزء العاشر -المجلد الرابع والعشرون- غرة شوال 1372 هـ - جوان حزيران 1953 م.
وكان الغرب يمنّ على الشرق في استعماره؛ بأنه حمل إليه الحضارة والنظام والمعارف، وهو لم يحمل إليه من الحضارة إلا قشورها، ومن النظام إلا ما يجعل الشرق آلة في يد الغرب، ومن المعارف إلا ما يستعمر به القلوب والعقول بعد استعمار الأرض وخيراتها، وبذلك كان الغُنم في كل هذه الأمور للمستعمر، وغُرمها على الشعوب التي رُزئت باستعماره بلادها، واستغلاله كنوزها وخيراتها.
هذه هي قصة استعمار الغرب للشرق في سيرة هولندا مع الأندونسيين، وفي سيرة إنجلترا مع الهنود، وسكان ملايو، والمصريين، والسوادنيين، وفي سيرة فرنسا مع الجزائريين، والتونسيين، والمراكشيين.
إن استيلاء فرنسا على الجزائر مثال من أمثلة التاريخ على الظروف المتناقضة التي نشأ عنها الاستعمار، فالشعب الجزائري كان يومئذ من أقوى شعوب الأرض بأخلاقه وحيويته، بينما حكومة الجزائر التي كانت تتولى أموره كانت من أفسد الحكومات في الأرض، وأضعفها وأحمقها، والمستعمر كان يستعد قبل ذلك طويلاً للبغي على الجزائر، ويتخذ لذلك مختلف الذرائع التي تنافي الدافع الأعلى.
فلما وقعت الواقعة، خارت قوى القائمين بالحكم على الجزائر، وتخلفت الحكومة العثمانية التي كانوا تابعين لها من أن تؤدي واجبها في هذا الموقف، وهنا تجلت حيوية الشعب الجزائري وأخلاقه، فنظم صفوف جهاده بقيادة الأمير عبد القادر، وظل يجاهد ببطولة منقطعة النظير مدة ثمانية عشر عاماً، ومن ذلك الحين إلى الآن والحوادث تبرهن على ضعف المستعمر الأدبي، وفراغه السياسي من الدافع الأعلى، وعلى قوة الشعب الجزائري الأدبية، وحيويته في
مقاومة ما لا يستطيع مقاومته إلا أعظم الأمم بطولة من صنوف البغي الاستعماري الذي لا يجنح إليه إلا أضعف الدول في أخلاقها ومبادئها الأدبية.
وقِس على حيوية الجزائر حيوية جارتها في الشرق والغرب، تونس، والمغرب الأقصى، ولو أن مؤرخاً من الحكماء أمثال (فولتير، وجيبون، وولز) أراد أن يقارن بين قوة فرنسا وضعفها في بداية استعمارها لشمال أفريقيا ونهايته، وبين قوة المغاربة وضعفهم بين تلك البداية والنهاية، لحكم مطمئناً بأن فرنسا اليوم تعاني في شمال أفريقيا أعراض الاضمحلال بالنسبة إلى ما كانت عليه في سنّة 1830 م. بينما ضحايا بغيها من المغاربة لم يزدهم البغي إلا قوة وحيوية، وقد استيقظوا من غفلتهم، وتخلصوا من ضعف حكوماتهم، وأصبحوا من نتائج الفوز والفلاح قاب قوسين أو أدنى.
وما يقال عن فرنسا في شمال أفريقيا يقال مثله عن الهند التي شاهدنا باعيننا، وشاهد التاريخ معنا عواقبَ الاستعمار البريطاني فيها، واضطراره إلى الانسحاب من تلك الربوع، وازدهار الحيوية في بكستان والهند، حتى صارت منهما دولتان من كبريات الدول، وشاهدنا كذلك عاقبة الاستعمار الهولندي في أندونسيا، بعد أن رسخت أقدامه فيها 300 سنة، فاضطر أخيراً إلى التسليم بالأمر الواقع.
لقد شب عمرو عن الطوق، بل لقد استيقظ العملاق من نومه، فأخذ يبحث عن مكانه اللائق بين الأمم، وإن الحوادث المتكررة برهنت على أن اعتماد الاستعمار على قوته المادية لا تجديه نفعاً، وأنه إنما أتي من ناحية ضعفه الأدبي؛ لأنه قائم على البغي، وآخر الشواهد على ذلك: هذه المؤامرة الاستعمارية على إخراج نحو تسع مئة ألف فلسطيني من وطنهم الذي هم
أصحابه منذ دهور، وتشريدهم في العراء لإحلال أجانب غرباء في أرضهم وأملاكهم الشرعية، ومثل هذه المؤامرة لا يمكن أن يرضى بالاشتراك فيها إلا الذين يعيشون في فراغ سياسي من الدافع الأعدى، كما يقول المؤرخ (ويلز)، والاستعمار الذي يعيش في هذا الفرغ المخزي لا شك أنه اليوم أضعف مما كان في بداية بغيه قبل مئة سنة.
أما فريسة الاستعمار التي وقعت فيما مضى بين يديه بسبب ضعف حكوماتها المتهافتة، وأخذت تنقه من الضعف الذي جرتها إليها تلك الحكومات، وقد نهض فيها رجال يحسنون التعاون مع شعوبهم، ولا شك أن يقف الجميع معاً أمام الاستعمار الضعيف موقف المؤمن بحقه، الحازم في دفاعه عنه، المصمم على التخلص من هذا العدو الذي أنهكه جشعه.
وإني أقدم لأمتي النصيحة مخلصاً بأن أقوى أسلحتها لمقاومة الاستعمار إنما هو الأخلاق، والدين هو الذي يهدي إلى مكارم الأخلاق، وإذا كان على ولاة الأمور أن يفكروا في توفير أسباب القوة المادية، وتنظيم استعمالها، فإن على كل فرد من أفراد الأمة أن يتسلح بالأخلاق، وأن يتعامل بها مع أفراد أمته، وأن يعلم أن أعظم رسالات الله، وأكملها، إنما جاءت للتعامل بمكارم الأخلاق.