الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهاد أعلى مراتب العبادة
(1)
أعد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بياناً في توضيح مراتب الجهاد في الإسلام، وتبيان نظامه العسكري في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه كان يستعرض بنفسه أبناء المسلمين مرة في كل عام، وكيف كان يعُدُّهم وهم في الحول الخامس عشر رجالاً مكلفين بأداء ضريبة الدم، ويجيز لهم حمل السلاح تحت إشراف القيادة، ونحن ننشر هذا البيان فيما يلي:
الرسالة الإسلامية رسالة (سلام)، ومنه اشتق الله اسم (الإسلام)، غير أنها قبل أن تكون رسالة سلام، كانت رسالة (الحق)، ومن تمام رسالة الحق: حمايته.
وقد جمع الله سبحانه بين هاتين الحقيقتين في آيتين متعاقبتين من سورة الأنفال، فقال-عز وجل:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، ثم قال بعدها:
{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61].
فالحق والسلم هما غاية الإسلام، ولما كان من دأب الإنسانية أن أهل الحق معرضون فيها دائماً لبغي أهل الباطل عليهم، وطمعهم فيهم، واعتدائهم
(1) مجلة "الأزهر" الجزء التاسع -المجلد الرابع والعشرون- غرة رمضان - 1372 هـ = ماي أيار 1953 م.
على حقهم، فقد أمر الله أهل الحق بالاستعداد لحمايته بكل ما في طاقتهم، ويأكل ما يصل إليه العقل البشري، والعلم الإنساني من وسائل القوة وفنونها، وأنظمتها وصناعاتها، بحسب ما تقتضيه حاجة العصر، وعلى قدر ما تمس إليه الحاجة.
ويالفعل صار هذا (الاستعداد) من آداب الإسلام، ومن شيمة المسلمين.
لقد كان من نظام الإسلام العسكري في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم: أن يستعرض النبي بنفسه أبناء المسلمين مرة في كل عام، فمن بلغ منهم الخامسة عشرة، عدّه من الرجال المكلفين بضريبة الدم، وأجازه ليحمل السلاخ تحت إشراف القيادة، وأمره بالاستعداد لإبراز نشاط رجولته، ومن كان دون الخامسة عشرة، ردّه إلى أن يبلغ هذه السن، وكان غلمان المهاجرين والأنصار يتنافسون في هذه الشهادة لهم بأنهم صاروا رجالاً، وأنهم نالوا شرف الانخراط في سلك المجاهدين، ويحزن الغلام منهم أشد الحزن إذا أرجئ إلى سنة أخرى، حتى إن سمرة بن جندب لما ردّه النبي- صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبلغ الخامسة عشرة، قال له: يا رسول الله أجزت فلاناً، ورددتني، ولو صارعني، لصرعته فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال له:"صارعه"، قال: فصارعته، فصزعته، فأجازني.
وهكذا كان المسلمون أمة دفاع وكفاح، وجهاد وتحرير، من يوم يبلغون الحلم إلى أن يلقوا الله. فهم في حربهم أمة عسكرية لا يتخلى فيها عن ضريبة الدم أحد من عالم، أو تاجر، أو سري، أو عامل، أو زارع، إلا أن تشغله الدولة في جهاد آخر هو من لوازم الجهاد العام، وفي حالة السلم يتمرنون باستمرار على فنون الحرب واستعمال السلاح.
روى البخاري في "صحيحه" من حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -
خرج على نفر من قبيلة أسلم وهم ينتضلون (أي: يترامون بالسهام على سبيل التمرين)، فقال لهم:"ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع بني فلان"، فلما قال ذلك، أمسك الفريق الآخر عن الرمي، فقال لهم:"ما لكم لا ترمون؟ "، قالوا: كيف نرمي وأنت معهم، قال:"ارموا وأنا معكم كلكم".
وفي كتب السنن من حديث عقبة بن عامر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه، والرامي به، والممد به -أي: الذي يناول الرامي النبل للرمي به-"، ثم قال:"ارموا، واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إلي من أن تركبوا، كل لهو باطل إلا ثلاثاً: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله. ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه، فإنها نعمة تركها".
وفي "صحيح مسلم" من حديث عقبة بن عامر أيضاً: أن فقيماً اللخمي قال له: تختلف بين الغرضين -أي: بين الهدفين اللذين تسدد السهم نحوهما- وأنت شيخ كبير يشق عليك؟ فقال له عقبة: لولا كلام سمعته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم، لم أعانه، سمعته يقول:"من علم الرمي ثم تركه، فليس منا".
وفي "صحيح البخاري ومسلم"، وغيرهما من حديث عروة بن الجعد: أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير -الأجر والمغنم- إلى يوم القيامة".
وفي "سنن أبي داود" من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب: أن النبي- صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل يسابق بها.
والاستعداد للجهاد من تمام الجهاد. بل هو كالسلاح، عنصر أساسي
من عناصره، وممارسة الاستعداد بنية الجهاد عبادة كعبادة الجهاد؛ لأن المجاهد إذا لم يستعد للجهاد بالتمرين، وممارسة استعمال السلاح، لا يقوى على هذه المهمة عند الحاجة إليها.
والمسلمون الأولون كانوا دائماً على قدم الاستعداد لكل طارئ حربي، فلم يستطع عدو أن يفاجئهم بسوء وهم على غرة.
وإن النبي- صلى الله عليه وسلم كان مفطوراً على اليقظة للطوارئ، وهو أعظم استعداداً لاستقبالها منهم جميعاً.
روى البخاري ومسلم، وأصحاب السنن، ومؤلفو كتب السيرة النبوية: أن أهل المدينة فزعوا ذات ليلة لصوت استغاثة سمعوه، فانطلق ناس منهم إلى جهة الصوت، فما راعهم إلا أن رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم راجعاً قد سبقهم إلى جهة الصوت، واستبرأ الخبر على فرس عُرْي لأبي طلحة، والسيف في عنقه وهو يقول:"لن تراعوا".
وتنظيم الصفوف عند القتال، وفي التمرين للاستعداد له من أعظم القربات عند الله. والنبي- صلى الله عليه وسلم كان يقوم به بنفسه، ويندب له خاصة رجاله.
وقد ذكر الإمام أبو منصور الماتريدي وغيره في تفسير آية: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121]: أنها تشريع في تعاهد ولاة الأمر أحوال الجند، وتنظيمهم، ودفع الخلل والضياع عنهم، وأن على الأمة طاعة الأئمة في هذا التنظيم.
وللإمام أبي الوليد الطرطوشي فصل في تفصيل ذلك بحسب نظام الجند في زمانهم، وهو في كتاب "سراج الملوك" وهو يقول: إن على كل أمة إسلامية أن تقوم بالتنظيم العسكري اللائق بزمانها. ونقل قول الحكماء:
"الملك بناء، والجند أساسه، فإذا قوي الأساس، دام البناء، وإذا ضعف الأساس، انهار البناء".
وكل الذي تقدم خاص بالاستعداد والتمرين في زمن السلم، أما الجهاد عند وقوع الحرب، فهو أعلى مراتب العبادة في الإسلام، والنصوص على ذلك تملأ الكتب.
روى البخاري ومسلم من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت بآيات ربه لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع".
وروى البخاري من حديث عبد الله بن عباس: أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: "ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار".