الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعاهدات في الدول الإسلامية
(1)
كتب مندوب "الأهرام" يقول:
آثر الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن يستريح طيلة يوم أول أمس في منزله، وقد رأيت أن أقضي في صحبته بعض الوقت. وطاب له أن يطرق مع زائريه مختلف الأحاديث في عديد من الشؤون العامة الهامة. وقد رأيت أن أنتهز هذه الفرصة الطيبة؛ لأقف على رأي الإسلام حيال (المعاهدات) الدولية التي يبرمها الأقوياء مع الضعفاء، وحيال المعاملة التي يصح أن يعامل بها المسلمون ضيوفهم من (الأجانب) الذين يقيمون بين ظهرانينا، وقد تفضل فضيلته فاستهل حديثه بقوله:
* العهود بين الدول:
لا شك أن العهود بين الدول في أزمان السلم والحرب هي مناط الثقة في الحضارة الإنسانية، وعليها يتوقف الأمن الدولي العام، والاستقرار الاقتصادي، إذا قامت على أسس من العدل، والإخلاص في الوفاء.
* الدس الخفي:
غير أن مما لا ينكره أحد: أن أكبر العقول في كل فى دولة تتجه عند تدوين
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الرابع -المجلد الخامس والعشرون- غرة ربيع الثاني 1373 هـ - ديسمبر كانون الأول- 1952 م.
المعاهدات إلى الدس الخفي؛ ليكون حجة في التأويل عند الحاجة إلى ادعاء ما لم يكن واضحاً منه في وقت التدوين. وإذا كانت المعاهدات والعقود الدولية بين قوي وضعيف، أو بين غالب ومن قضت عليه الظروف أن يكون مغلوباً، فقد لا يبالي القوي بأن يحتمل عناء التأويل. وإن الإنسانية لا تنسى في الحربين العالميتين تسمية الأقوياء للمعاهدات؛ بأنها (قصاصات ورق)، ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا النوع من المعاهدات، وفي طليعتها: صك الانتداب على فلسطين الذي تعهد فيه أصحابه تعهداً رسمياً صريحاً بعدم المساس بحقوق العرب، وقد رأيت ما انتهى إليه ذلك الصك من الظلم الصارخ على أصحاب البلاد الذين سلبت منهم أوطانهم وأملاكهم وحقوقهم سلباً، وقذف بهم في العراء تحت الأمطار والعواصف.
* المعاهدة الملغاة:
بل إن معاهدة (سنة 1936) التي فرضت على مصر تحت ضغط الاحتلال منصوص فيها على أنه لا يسمح للإنجليز بأن يكون لهم في منطقة القنال إلا عشرة آلاف جندي، وخلافاً لذلك التعهد ضاعفوا عدد تلك القوة إلى ثمانية أضعاف ما تعهدوا به ووقعوا عليه.
* المثل العليا:
واستطرد فضيلته فقال:
إن المعاني الإنسانية العليا، ومدلولات الحق والعدل، هي آخر ما يخطر على البال عند الدول الحديثة عندما يجلسون إلى الموائد الخضراء ليكتبوا صيغ المعاهدات ونصوصها. أما الإسلام فقد كان في نصوصه، وتطبيقها العملي دلائلُ قائمة على أن المعاني الإنسانية لها شأن كبير في العهود التي
يعقدها المسلمون مع غيرهم في حالتي السلم والحرب. وأظهر ما تمتاز به هذه العهود إذا صدرت عن المسلمين أن تكون صريحة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام، وكثيراً ما يراعى فيها المقابلة بالمثل، صرف النظر عن قوة أحد الطرفين وضعف الطرف الآخر.
* الوفاء بالعهد:
ويرى فقهاء المسلمين: أن المسلم إذا كان أسيراً في يد العدو، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً، وإن عجز عن إحضار المال، عاد إليهم، لزمه الوفاء لهم؛ عملً بقول الله عز وجل:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم".
وفي منح الأمان للعدو من المعاني الإنسانية في الشرع الإسلامي ما لا يوجد في أي تشريع آخر قديم أو حديث. ومن المعقول أن يمنح الحاكم الأعلى أماناً للأعداء جميعاً، ومن المعقول أيضاً أن يمنح قائد جيش أماناً للجيش المقابل له، ولكن مما لا يعرف إلا في التشريع الإسلامي أن يصدر عن جندي عادي في جيش إسلامي لجندي من جنود العدو، أو لبضعة جنود، أو لقافلة كاملة، ثم يصبح الجيش الإسلامي كله ملزماً بقبول هذا الأمان، والعمل به. إن هذا لا يعرف في تاريخ الأمم إلا عند المسلمين، وفي تشريعهم، وإلى هذا يشير الحديث النبوي:"ويسعى بذمتهم أدناهم"، وقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من الأعداء، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ "، وهذا الخبر في "صحيح البخاري".
ومن عجائب التشريع الإسلامي، والمعاني الإنسانية العليا التي يرمي إليها: أن الجيش الإسلامي إذا كان محاصِراً لحصن، أو بلد، وتقدم له من
الحصن أو البلد من يتطوع بفتح الحصن في مقابل إعطائه الأمان، ثم بعد فتح الحصن اشتبه أمره، واختلط بغيره، كان على الجيش الإسلامي أن يمتنع عن قتل الجميع، والتعرض لحريتهم؛ لأن القاعدة الشرعية: أن المباح إذا اشتبه بالمحرم، وجب تغليب التحريم. وفي الحالات التي يترتب فيها على ذلك ضرر حربي عام: يؤخذ من أهل الحصن أي واحد بالقرعة، ويُعطى الأمان الذي كان موعوداً به ذلك الشخص المتطوع بفتح الحصن. وفي كل الأحوال ينبغي للمسلمين إذا وعدوا بوعد أن يفوا بوعدهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وفي مذهب المالكية: أن الوعد إذا كان مسبباً، ووقع السبب، وجب الوفاء به. أما إذا لم يكن مسبباً، فالوفاء به من مكارم الأخلاق.
وإذا تبينت للجيش الاسلامي قرائن واضحة على أن العدو المعاهد يريد خيانة العهد، فلا يجوز للمسلمين المبادرة إلى نقض العهد السابق بينه وبينهم؛ اعتماداً على تلك القرائن مهما كانت قوية، بل ينبذون إليهم عهدهم علانية، وهذا منتهى النبل في آداب الحرب بين الأمم.
* ما يجب على المسلمين نحو الأجانب:
إن المخالفين للمسلمين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: محاربين، ومعاهدين، وذميين.
فالمحاربون: هم الذين حدثناك ببعض أحكام الإسلام المتعلقة بهم.
والمعاهدون: تقوم عهودنا معهم على أنبل الأسس الإنسانية، وأقلها مراعاة قاعدة: المعاملة بالمثل.
والذميون: ضمن لهم الإسلام أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. وواجب
على الحكومة الإسلامية حفظهم، ومنع الغير من أذاهم، واستنقاذ من أسر منهم.
والبلاد التي فتحها المسلمون في زمن الصحابة كان في إمكان الفاتحين أن يلغوا الأنظمة الدينية التي وجدوها في البلاد، ولكنهم لم يتعرضوا لها، وأقروا رؤساء الأديان على ما كانوا عليه، بل أحسنوا معاملتهم أكثر مما كان يعاملهم به الحكام السابقون الذين كانوا من أهل دينهم، وأباحوا من الشعائر والطقوس والأحكام ما لا تبيحه الدول الأخرى غير الإسلامية حتى في زماننا هذا.
والمنصفون من المؤرخين وغيرهم يعترفون بهذه الحقائق، ولاسيما عند المقارنة بين الأنظمة والتشريعات. وكلما كان المواطنون -على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم- أكثر إخلاصاً لأوطانهم ومواطنيهم كانت السعادة أشمل لهم جميعاً، وعاشوا مع مواطنيهم في تعاون وتراحم، وتبادل للحقوق على أحسن الوجوه وأسعدها.
وإلى هنا رأيت أن الشيخ الأكبر قد أوفى على الغاية في وضوح، فاستأذنت فضيلته في نشر هذه الآراء الطيبة، فأذن مشكوراً مقدوراً.