الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتكار والربح الفاحش حرام كالربا
(1)
تحدث مندوب "الأهرام" الخاص إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر عن الأزمة المستحكمة التي تعانيها في هذه الأيام المواد الغذائية الضرورية، بسبب اختزان بعض هذه المواد طلباً للربح الفاحش، وطلب إلى فضيلته أن يوضح للناس حكم الشريعة السمحة في مثل هذا الإجراء، وقد تفضل فضيلته بإجابة هذا الطلب، وقال:
إن الاحتكار الذي حرمة الله عز وجل هو: إمساك شيء من الأغذية وضروريات الناس، والامتناع عن بيعها انتظاراً للغلاء، حتى إذا ازداد اضطرار الناس إليها، تحكم محتكرها ببيعها بالسعر الفاحش الذي يفرضه عليهم.
وهذا العمل حرام شرعاً، ولا يعد من البيع الحر الذي أحله الله، ولذلك كان الكسب منه كسباً خبيثاً، لا يباركه الله عز وجل، ولا يرضى عن صاحبه.
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الرابع والعشرون، غرة ربيع الأول- 1372 هـ
= نوفمبر، تشرين الثاني 1952 م.
جريدة "الأهرام" العدد 24104 تاريخ 11 - 11 - 1952 م تحت عنوان: "شيخ الأزهر يتحدث إلى الأهرام: الشرع يحرم احتكار الأغذية والامتناع عن بيعها -عاقبة المحتكر أن يضربه الله بالإفلاس وبمرض الجذام- الربح الفاحش حرام كالربا لا يباركه الله، ولا يرضى عن صاحبه".
إن مثل المحتكرين كمثل المرابين؛ من جهة استغلال الفريقين حاجة الناس، وتحكمهم فيهم بسبب الحاجة. غير أن المحتكرين يزدادون عند الله إثماً من جهتين:
إحداهما: أن استغلال حاجة الناس إلى الأقوات والأغذية وما أشبهها أفظع من استغلال الحاجة إلى النقود.
والثانية: أن استغلال المحتكرين لأقوات الناس وضروريا تهم يعم ضرره جماهير الناس، أما استغلال المرابين لحاجة من يحتاج إلى النقود، فإن نطاقه ضيق يخص عدداً قليلاً منهم، ولا يعم جماهيرهم؛ فإذا كان المرابي يأكل ربحه من الربا ناراً في جوفه؛ لاستغلاله حاجة عدد محدود من الناس، فالمحتكر يأكل ربحه من الاحتكار لهيباً من نار الجحيم بقدر ما ينال جماهير الناس من أذى جشعه الذي لن يبارك الله له بشيء منه.
وقد صح في الحديث النبوي: أن عاقبة المحتكر: أن يضربه الله بالإفلاس، أو بأخبث الأمراض، وهو الجذام.
روى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في "مسنده" بإسناد صحيح: أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى المسجد، فوجد طعاماً منثوراً، فقال: ما هذا الطعام؟ قالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه، وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين! فإنه قد احتكر. قال: ومن احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر.
فأرسل أمير المؤمنين إليهما، فدعاهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين! نشتري بأموالنا ونبيع. فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله
بالإفلاس، أو بجذام"، فقال فروخ عند ذلك: يا أمير المؤمنين! أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود -إلى الاحتكار- في طعام أبداً.
وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع. قال أبو يحيى المكي راوي هذا الحديث: فلقد رأيت مولى عمر مجذوماً.
ومما يلاحظ في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الأغذية المعروضة للبيع: طعام المسلمين؛ لأنه إذا كان للذي يشتريها حق الثمن الذي يشتري به، ثم يتقاضاه في البيع، فإن إباحتها في السوق من حق المسلمين؛ لأنها طعامهم وغذاؤهم ومن ضرورياتهم، فبيعها لهم بالثمن هو من حق رأس المال، وأما إباحتها وعرضها في السوق، فهو من الحق العام الذي هو حق الأمة، واحتكارها اعتداء على الحق العام، وهضم لحقوق الأمة.
وفي "مسند الإمام أحمد" أيضاً عن سعيد بن المسيب: أن معمر بن عبد الله بن فضلة القرشي رضي الله عنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحتكر إلا خاطئ".
والخطأ في الشرع: الخروج عن سبيل الشرع، وسبيلُ الشرع هو سبيل الله، ويا ويل من يخطئ سبيل الله لأجل كسب حرام غير مشروع يستغل به ضرورات الأمة في غذائها وقوت عيالها، فيستحق عليه ما أنذره به النبي صلى الله عليه وسلم من الإفلاس أو الأمراض الخبيثة، ويعاقب عليه يوم القيامة بما يستحقه الذين يُسخطون الله في إيذاء مخلوقاته.
وروى الإمام أحمد أيضاً في "مسنده" عن الحسن البصري عن معقل ابن يسار رضي الله عنه، وهو من أهل بيعة الرضوان، وهو الذي حفر نهر معقل بالبصرة بامر عمر بن الخطاب: أنه لم ثقل المرض على هذا الصحابي الجليل، جاءه
أمير البصرة عبيد الله بن زياد يعوده، فدار بينهما حديث، ثم قال معقل رضي الله عنه: أجلسوني. ثم قال: اسمع يا عبيد الله حتى أحدثك شيئاً لم أسمعه من رسول الله مرة ولا مرتين، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليه عليهم، فإن حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة". فقال عبيد الله لمعقل: أأنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غير مرة أو مرتين.
ومن هنا يعلم كل مسلم يتاجر في المواد الغذائية والضروية للمسلمين: أن احتكارها ليس من البيع الذى أحله الله، بل هو كسب حرام، وأشد ضرراً على عامة المسلمين من المراباة، والعياذ بالله. والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنذر مرتكبه بالإفلاس والأمراض، وبنار جهنم يوم القيامة. فليعلم المحتكر عاقبة عمله قبل أن يقدم عليه.