الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقليد والمحاكاة في نهضتنا الحاضرة
(1)
تفضل فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، فخص "الأهرام" بهذا المقال الذي ننشره فيما يلي:
نحن الآن في طور من أطوار التاريخ، عزمنا فيه على أن نعالج أسباب ضعفنا، وأن نأخذ -إن شاء الله- بجميع وسائل القوة؛ لنعود كما كنا أمة صالحة سليمة الاتجاه، سعيدة العيش، محترمة من الأمم، ومتبادلة معها صنوف المصالح والمنافع، ومتعاونة مع الجميع على التقدم بالإنسانية إلى أهدافها العليا.
وأول ما ينبغي لنا تمييزه في معالجة أسباب الضعف، والأخذ بوسائل القوة: أن نكون على بينة مما نأخذ عن غيرنا، وما ينبغي لنا التمسك به من أصولنا ومبادئنا، وما به قوام كياننا.
إن الإسلام يأمرنا أمراً دينياً بأن نكون أمة قوية بأخلاقها، قوية بعلومها النافعة، وصناعاتها التي عليها مدار العمران، قوية باستعدادها العسكري للدفاع دائماً وفي أي لحظة عن كل مالنا من حقوق، وما نؤمن به من حقائق.
فالأخذ بأسباب القوة من جميع هذه النواحي، والاضطلاع بالعلوم
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الثامن -المجلد الرابع والعشرون- غرة شعبان - 1372 هـ = إبريل نيسان 1953 م.
اللازمة له من طبيعة وكيمياء، وميكانيكا ورياضة، واقتصاد وإحصاء، فرض لازم على المسلمين؛ لأن دينهم أمرهم بأن يكونوا أقوياء، فأصبح ذلك واجباً عليهم، وكل ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
ومما ينبغي لنا في هذه الأمور: ألا نقتصر على المحكاة والتقليد، بل الواجب أن نعد الأذكياء من أبنائنا وشبابنا للتقدم فيها، حتى يكونوا من أئمتها المبتكرين، وعلمائها المخترعين، وقد وهبهم الله من الألمعية والذكاء وعظيم الاستعداد ما يساعدهم على ذلك في سنوات قريبة -إن شاء الله-.
هذا هو الجد، وبهذا تتم النهضة، فنأخذ في طريق الفلاح، ونبلغ مقام الإمامة في العلوم، ونتأهل لما وراء ذلك، مما استخلف الله به الإنسانية الكاملة في الأرض.
أما الأمور التي بها قوام كياننا، والعمل بمبادئنا، والرجوع إلى أصولنا، فهذا مما لا يجوز لنا محاكاة غيرنا فيه، بل إن كل أمة تحترم نفسها، وتعتز بكيانها، تترفع عن محاكاة غيرها في أصولها ومبادئها، وإننا لا نزال نذكر ما وقع في إنجلترا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فإن أعضاء حزب العمال في وزارة (تشرشل) كانوا يطالبون بتجديد الانتخابات النيابية، وكان (تشرشل) يحب أن يتأنى في ذلك، فكتب إلى (مستر أتلي) يقترح أن يستعاض عن تجديد الانتخابات بعمل استفتاء عام، فأجابه (مستر أتلي) بكتاب لا يزال يرن صداه في الآذان حتى اليوم، إذ قال فيه:"إن فكرة الاستفتاء (اختراع أجنبي)، وليس من الخير أن يسمح له بدخول البلاد البريطانية". ولقد كان (مستر أتلي) على حق في هذا؛ لأن كل أمة ذات أصول ومبادئ تتصل بنظامها الخاص بها، وبكيانها الذي تعتز به في تاريخها، لا يجوز لها أن تفرط في أصولها ومبادئها
لتحاكي غيرها في شيء من ذلك، وهذا الاعتزاز بأصول الأمة ومبادئها من مظاهر قوة الأمة، بل هو من وسائل تلك القوة.
أما التفريط في ذلك، والتلون بالألوان الغريبة، فإنه من مظاهر الضعف، ومن وسائله، وهذه الحقيقة الاجتماعية قررها ابن خلدون في مقدمة "تاريخه"، وبرهن عليه، ولا تزال من حقائق الاجتماع إلى الآن، على أنه لو لم يكن هذا من حقائق الاجتماع، فإن الإسلام حتمه على أهله، وألزمهم بالتزامه، وكان أسلافهم أقوياء يوم كانوا ملتزمين به، ولو قيض الله لهذه الأمة علماء من أهل البصائر النيرة، يدرسون ما عندنا من هذه الأصول والمبادئ دراسة علمية بلا تعصب ولا غرض، لتبين لهم أنها هي المبادئ السليمة، والأصول الصحيحة التي تقوى بها الأمة وترقى، وأن التفريط فيها من مدارج الضعف، وأعراض الانحطاط.
ونحن إذا عمدنا إلى التفريط فيها، نكون متناقضين مع أنفسنا فيما نحاوله من أسباب القوة في مرافقنا المادية؛ من زراعية وصناعية، واقتصادية وعسكرية، وغير ذلك؛ إذ لا معنى لذلك إلا الجمع بين أسباب الضعف وأسباب القوة في وقت واحد.
إن هذه القاعدة المزدوجة -وهي الأخذ بكل ما وصلت إليه الأمم من علوم القوة والتقدم العمراني وأسبابهما، مع التمسك بالأصول والمبادئ الخاصة بنا، والموروثة عن أسلافنا- هي التي ينبغي لنا أن نعمل بها في أنفسنا أفراداً، وفي بيوتنا وأسواقنا ومجتمعنا ودولتنا، فالفرد منا يجهز نفسه وبيته بكل ما يحتاجه مما توصل إليه العلم؛ كالأدوات الكهربائية، والتليفون، وأمثال ذلك، وفي الوقت نفسه يتوقى كل ما لا يتفق مع آداب دينه؛ كاختلاط النساء بغير محارمهن.
وفي مصانعنا نستعين بكل ما وصل إليه العلم من آلات دقيقة وسريعة؛ لننافس الأمم بتقدمنا وجودة إنتاجنا، وفي الوقت نفسه نتعامل مع عمالنا وعملائنا بكل ما أرشد إليه ديننا من رفق وتراحم، وتعاون وإخلاص وأمانة، وحفظ للمواعيد، وتمسك بالعهود، وتجنب لنقيصتي البخل والإسراف، والمحاباة والإجحاف.
وفي مجتمعنا نتحرى المبادئ والقواعد الخاصة بنا في كل ما نحاوله من تنظيم وعمل، مع ما نحرص عليه من أسباب القوة والتقدم والنجاح؛ ليتصل حاضرنا بماضينا، ولنكون به قدوة لمن يأتي بعدنا من الأجيال.
إن النهضة التي تقوم على هذين الأساسين هي النهضة الصادقة الثابتة الخطا، الوثيقة الدعائم، وهي التي تتقبلها الأمة بالاستبشار؛ لأنها توافق مصلحتها، وتتفق مع راحة ضمائرها، وتكون بذلك عبادة؛ لأنها جمعت بين سعادة الدنيا، وفضائل الدين.
أما الذين يشغلون الأمة عن سعادة الاستعداد للنهوض بالتعرض لأمور تراها الأمة ماسة بأصول ومبادئ عزيزة عليها، وهي في الوقت نفسه لا دخل لها فيما نحن آخذون به للنهوض بالمرافق الصناعية والزراعية والعسكرية؛ كمحاولة محاكاة الأمم الأجنبية في نظام الأسرة، وشؤون الزواج، والأمور الشكلية؛ كالأزياء وما إليها، فإن ذلك كله ليس من مصلحة الوطن، ولا خير فيه لهذه الأمة، وهي في هذا الطور العظيم من أطوار نهوضها وتقدمها.
ومما ينبغي لجمهور الأمة أن يكون على علم به: أن كل ما طرأ علينا من عدوى أجنبية في حياتنا الاجتماعية؛ كالإضراب عن الطعام احتجاجاً على أمر من الأمور، أو الإضراب عن العمل لاختلاف بين العمال وأصحاب الأعمال،
فإنه مما لا يليق ببلد إسلامي؛ لأن الإضراب عن الطعام انتحار، والانتحار يسخطه الله، وصاحبه يبتعد عن حياة الدنيا وحياة الرضا في الآخرة، والإضراب عن العمل قتل للوقت، وسخط للرزق، وتعطيل لمصالح الأمة، وما دامت أبواب العدل مفتوحة، ومرافق الدولة مستعدة للنظر في الشكاوى، والتوفيق بين المصالح، فذلك هو الطريق للوصول إلى الحقوق العادلة، وإن هذا الشرق الإسلامي في حاجة إلى أن يأخذ عن غيره أسباب القوة، لا وسائل التعطيل والانتحار، ومن أدق موازين الحكم على الوعي القومي، والنضوج الاجتماعي: مراقبة ما تأخذه الأمة عن غيرها من خير، وما تتجنبه مما لا خير فيه، ونحن اليوم في هذا الطور من أطوار التاريخ، والتاريخ يراقبنا في هذا الامتحان ليرى ما نأخذ وما ندع.