الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفاق والملق والمداراة أمام الحكام
(1)
للفضائل حدود تنتهي عندها، فإذا تجاوز المرء بفضيلة من الفضائل الحدود التي تنتهي عندها خرج بها عن مدلولها، وأوشك أن ينزلق في مهاوي الرذيلة التي تناقضها.
ومن هذه الفضائل (المداراة). وقد التبست على كثير من الناس، فاطلقوها على ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال هي أدخل في باب (المداهنة) وأشبه بها. والمداهنة ما شاعت في جماعة إلا تقلصت الكرامة من ديارهم، وكانت الاستكانة شعارهم، ومن ضاعت كرامتهم، وداخلت الاستكانة نفوسهم. جالت أيدي الطغاة في حقوقهم، وكان الموت أقرب إليهم من حبال أوردتهم.
إن الناس خلقوا للاجتماع لا للعزلة، والتعاون لا لينفرد كل واحد بنفسه، وللإنسان عوارض نفسية من الرضا والغضب، والحب والبغض، والاستحسان والاستهجان. فلو أنه كاشف الناس بكل ما يعرض له من هذه الشؤون في كل وقت وعلى أي حال، لاختلَّ المجتمع، ولانقبضت الأيدي عن التعاون، فكان من آية الله في خلقه أن هيأ لهم أدب المداراة، ليتحاموا به ما يحدث التقاطع بينهم أو يدعوهم إلى التخاذل.
(1) جريدة (الأهرام) - العدد 24185 تاريخ 31/ 1/ 1953.
والمداراة، يبتغى بها رضا الناس وتأليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون. ولا ينافيها القضاء بالقسط ولا إلقاء النصيحة في رفق. ومن ذلك قول أبي حازم، من أعلام التابعين للخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، حين فى خل عليه ووعظه، فقال له:(إنما أنت سوق، فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر، فاختر أيهما شئت).
وينبغي أن تكون مداراة العاقل لمن يرجو منه العود إلى الرشد، ويأنس من فطرته شيئاً من الطيب، فوق مداراته لمن شاب على لؤم الخلق وعوج العقل، حتى انقطع رجاؤه من أن يصير ذا خلق كريم أو عقل سليم.
والمداراة خصلة كريمة يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء، والحكيم يراعي في مقدراها وطريقتها ما ينبغي أن يكون. قال الإمام سحنون، في وصيته لابنه محمد (وسلّم على عدوك وداره، فإن رأس الإيمان بالله مداراة الناس). وفي سيرة القاضي يحيى بن أكثم، أنه كان يداعب خصمه وعدوه. وقد تبلغ المداراة إلى إطفاء العداوة وقلبها إلى صداقة، قال محمد بن أبي الفضل الهاشمي، قلت لأبي: لم تجلس إلى فلان وقد عرفت عداوته؟، قال: أخبي ناراً وأقدح وداً.
أما المداهنة فهي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل أو عمل مكروه، وهي تضم تحت جناحها الكذب وإخلاف الوعد. أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه منه، ومن دخل إلى الكذب من باب، سهل عليه بعد ذلك أن يأتيه من سائر الأبواب.
وأما إخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، وليس من الصعب عليه -وقد مرن على الكذب- أن يخلف الوعد
ويختلق لإخلافه عذراً.
والمداهنون يجعلون ألسنتهم طوع مرضاة القوي والوجيه، فيعجلون إلى قول ما يشتهي أن يقولوا، يمدحون ما يراه حسناً وإن لم يكن في الواقع حسناً، ويذمون ما يعدّه سيئاً، وإن لم يكن في الواقع سيئاً. أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على يد من في استطاعته الخير، فيربؤون بالسنتهم أن تساير أحداً في غير حق، ويؤثرون نصح القوي والوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين.
إن العبور إلى النفع على جسر من المداهنة يحرم صاحبه من أفضل الأخلاق وأعلاها وهو الصدق، بعد أن يحرمه من أطيب لذة وهي ارتياح الضمير. وإذا كان في الناس من يحرص على أن يكون صديقاً للطوائف المتباينة، فإن الرجل الطيب منهم يأبى أن يلوث صدره بصداقة من يتملق الرجل الخبيث.
قال رجل لعبد الله بن عمر بن الخطاب: إنا ندخل على أمرائنا، فنقول القول، فإذا خرجنا قلنا غيره، فأجابه عبد الله بن عمر:(كنا نعد ذلك نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). ومن عظماء الرجال من يبغض المداهنة ولا يقبل من جليس مبالغة في مدح أو مسايرة. ومن المثل الكامل لهؤلاء العظماء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإنا نقرأ في سيرته، أنه قال لجرير، الشاعر حين دخل عليه بقصيدة يهنئه فيها بالخلافة: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً. وقال له رجل مرة: طاعتكم مفروضة، فقال له: كذبت، لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله.
وكتب طاهر بن الحسين في كتاب وصيته الذي بعث به إلى ابنه عبد الله بن طاهر: وليكن كرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر، وإعلامك بما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك.
ولما ابتنى الخليفة عبد الرحمن الناصر، الأموي صرح (القبيبة) في قصر الزهراء، اتخذ لسطحه قراميد من ذهب وفضة، وجلس فيه أعيان الدولة، وكان مما قاله لهم مفتخراً: هل رأيتم أو سمعتم من فعل هذا قبلي؟ فقالوا: إنك الأوحد في شأنك كله. ثم تكلم القاضي المنذر بن سعيد، فوعظ الخليفة وعظأ بليغاً، وتلا عليه قول الله عز وجل {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. فأطرق الناصر ملياً، ثم أقبل على المنذر بن سعيد وقال له: جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيراً، وعن الدين والمسلمين أجل جزاء، فالذي قلت هو الحق. وقام من مجلسه ونقض سقف (القبيبة) وأعاد قرمدها تراباً. والأجلاء من علماء الإسلام الذين كانوا يداخلون رجال السياسة فينعقد بينهم التئام أو صداقة، كانوا يأخذون بسنة المداراة، ولم يكونوا فيما قرأناه من سيرتهم، يتلطخون برجس المداهنة، ولو شئنا أن نضرب الأمثال على ذلك من التاريخ لامتلأت بفضائلهم المجلدات.
ويحدثنا التاريخ أن بعض المنتمين إلى العلم من عبيد الدنيا، كانوا يتملقون أولي الأمر من المسلمين، وقد يفتونهم بغيو ما أنزل الله، ومنهم من يتملق الغاصبين ويرضى أن يكون جسراً يعبرون عليه إلى قضاء مآربهم التي يكيدون بها للإسلام والمسلمين.
وقد يسمي المنتمي للعلم من هؤلاء تملقه للظالمين أو المخالفين الغاصبين مداراة ليقضي بعض المآرب الشخصية، وربما زعم أنه يقضي بهذا التملق مصالح وطنية، والواقع أن اتصال العالم بالمخالفين الظالمين، وهو يستطيع أن لا يتصل بهم، وصمة في عرضه لا يغسلها ماء، وجناية على الدين خاصة والأمة عامة، أما أنه وصمة في عرض هذا العالم، فلما عرف عن الظالم أو الغاصب أنه لا يقبل بوجهه ولا يضع يده إلا في يد من اختبر سرائرهم ووثق من إخلاصهم، وأما أنه جناية على الدين، فلأن ذلك الاتصال الآخذ اسم الصداقة للغاصب خروج عن الدين الذي ينهي عن مودة أعدائه، وأما أنه جناية على الأمة عامة، فإن هذا المنتمي للعلم لا يتحامى أن يرضي المتغلبين المخالفين بالمساعدة على أعمال يفسدون بها على الأمة أمر دينهم أو دنياهم.
إن واجبات أساتذة التربية ودعاة الإصلاح في هذا العهد، أن يعنوا بتطهير نفوس النشء وقلوب الشباب من هذا الخلق الذميم، خلق المداهنة، وينفوه من أرضنا وتكون أوطاننا ومدارسنا منابتها نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في أدب رقيق وشجاعة نبيلة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق ولا يكتمهم الحقائق متى اتسع المقام لأن يحدثهم بها في صراحة ووضوح.
وسكت الشيخ الأكبر، وعاد بعد هنية يقول: أظن أنني قد أوضحت رأي الشريعة الإسلامية في هذا الخلق الذميم الذي يمشي به بعض الناس في هذا العصر، وما دروا أنهم يجنون على أنفسهم بآثاره، قبل أن يجنوا على غيرهم من الناس.