الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرفق بالحيوان في الشريعة الإسلامية
(1)
كتب مندوب "الأهرام" الخاص يقول:
هذه مسألة لم يألف الناس أن يتحدثوا فيها؛ إذ الحيوانات عندهم لا حقوق لها، وهي عجماوات لا تفصح، وخرساء لا تبين، ونحن نضربها ضرباً مبرحاً أليماً؛ حتى لنكاد نمزق أجسادها بالسياط، ونحمل عليها ما يرهقها، وما يثقل كاهلها. وغايتنا أن نحمل أثقالنا، ولا يعنينا ماذا تكون.
ولقد أراد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أن يعطي هذه الناحية بعض عنايته؛ إذ الحيوانات خلق مثلنا، وعوالم تتعاون معنا في هذه الحياة.
قال فضيلته: وهل جهل هؤلاء الذين يعنفون الحيوانات أنهم يخالفون قواعد دينهم، ويخرجون على تعاليمه السمحة؟
ثم استطرد فضيلته فقال: لقد أقام الإسلام هدايته على أساس الرحمة
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الخامس - المجلد الرابع والعشرون -جمادى الأولى- 1372 هـ = يناير كانون الثاني 1953 م.
* جريدة "الأهرام" العدد 24157 تاريخ 3 - 1 - 1953 م تحت عنوان: "الحيوان في نظر الشريعة الإسلامية -الإسلام يأذن بقتل الحيوانات الضارة، ولكنه يأمر بالترفق في القتل- الأستاذ الأكبر يبين ضروب الرفق، ويعدد ما يجب نحو أنواع الحيوانات".
المحفوفة بالحكمة، والرحمة تبعث النفوس مبعث الرفق والإحسان، والحكمة تقف بالرحمة عند حدود لو تجاوزتها، انقلبت إلى ضعف ورعونة. وعلى هذا الطريق الوسط جاءت الأحكام والآداب الإسلامية الخاصة بالتصرف في الحيوان.
فقد أذن الإسلام في قتل الحيوان المؤذي؛ كالكلب العقور، والفأر، لكنه أمر بالإحسان في قتله، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان في كل شيء، فإذا قتلتم، فأحسنوا القتلة".
وأذن الإسلام في ذبح الحيوان؛ للاستمتاع بالطيب من لحومه، لكنه أمر بالإحسان في ذبحه، فقال صلى الله عليه وسلم:"وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
وقد ذكر أئمة المسلمين آداباً اقتبسوها مما جاءت به الشريعة في أصول الرفق بالحيوان، فقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من الإحسان للذبيحة أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها".
وقال ربيعة أحد فقهاء المسلمين وأئمتهم في المدينة: من الإحسان: أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها. ونص الفقهاء على: أنه يستحب للذابح أن لا يحد شفرته بحضرة الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف.
وأباحت الشريعة صيد الحيوان، ولكنها منعت أن ينصب الحيوان غرضاً (أي: هدفاً) ليرمى بالنبال والرصاص، وفي "صحيح مسلم" قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً"؛ أي لتتعلموا به الصيد والرماية. وفي "صحيح مسلم" أيضاً: أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وجعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم،
فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً.
ومن الرفق بالحيوان: تجنب أذيته في بدنه بنحو الضرب الأليم. وورد النهي عن خصاء البهائم، كما جاء في "شرح معاني الآثار" للإمام الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل. وحتى لو دعت الضرورة إلى ذلك في الحيوان الذي يخشى عضاضه، فإنه إذا وجد طريق لمنع أذاه من غير طريق الخصاء، فإنه لا خلاف في منع الخصاء حينئذ، لأنه تعذيب، وقد نهى الشارع عن تعذيب الحيوان.
ومن الرفق بالدابة: أن لا يتابع السير عليها متابعة ترهقها تعباً، فقد روى مسلم، وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إذا سافرتم في الخصب، فأعطوا الإبل حظاً من الأرض".
وورد في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان، وقال: إنه أمر بقطع القلائد من أعناق الإبل مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض؛ لأنها تضيق عليها نفسها ورعيها، وكراهة أن تتعلق بشجرة، فتخنقها، أو تعوقها عن المضي في سيرها. ومن المحظور: وقوف الراكب على الدابة وقوفاً يؤلمها؛ فقد ورد في "سنن أبي داود" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر؛ فإن الله إنما سخرها لكم؛ لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس"،
وحرمت الشريعة الإسلامية الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون أن من حمل دابة ما لا تطيق، حوسب
على ذلك يوم القيامة، حتى روى عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه قال لبعير له عند الموت: يا أيها البعير! لا تخاصمني عند ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك.
ولا يجوز الحمل على ما لم يخلق للحمل؛ كالبقرة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا خلاف في أن البقرة لا يجوز أن يحمل عليها، وذهب كثير من أهل العلم إلى المنع من ركوبها؛ نظراً إلى أنها لا تقوى على الركوب، إنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض، وسقي الحرث.
ومن الرفق بالدابة: أن لا يركبها ثلاثة أشخاص يكون عبؤهم عليها ثقيلاً. أخرج ابن أبي شيبة عن الكندي أحدِ علماء التابعين في الكوفة: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال: لينزل الثالث؛ فإن رسول الله لعن الثالث.
وأخرج الطبري عن علي رضي الله عنه: أنه قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة، فارجموهم حتى ينزل أحدهم".
ومجمل هذه الآثار على حال ما إذا كان ركوب الثلاثة يرهق الدابة، فإن كانت تطيق ذلك؛ كالناقة، أو البغلة يركبها رجل وصبيان -مثلاً-، فليس به بأس، ولاسيما ركوبها في مسافة قصيرة، وهذا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة راكباً على بغلته، فاستقبله أغيلمة من بني عبد المطلب، فحمل واحداً بين يديه، والآخر خلفه.
ومن الفنون التي يسلكها قساة القلوب في تعذيب الحيوان: تهييج بعض الحيوان على بعض؛ كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها، وهو من اللهو الذي حرمته الشريعة؛ لما فيه من إيلام الحيوان، وإتعابه في غير فائدة، وفي "سنن أبى داود"، والترمذي:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم"،
والتحريش بينها: إغراء بعضها ببعض.
وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرَة -وهي طائر قد يسمى القُبَّرَة- معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تعرش -أي: ترتفع، وتطل بجناحيها-، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال:"من أحرق هذه؟ "، قلنا: نحن، قال:"إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار".
ونص علماؤنا على حرمة تمكين الصبي من التلهي بالطير على وجه فيه إيلام له.
وروى الطبراني والبزار عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -رأى حماراً موسوماً على وجهه، فقال:"لعن الله من فعل هذا". وقال المقداد بن معدي كرب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن لطم خدود الدواب.
وفي "صحيح مسلم": أن امرأة كانت على ناقة، فضجرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بإعراء الناقة مما عليها، وإرسالها؛ عقوبة لصاحبتها، وفي رواية أنه قال:"لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة".
ووردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سقي الحيوان وإطعامه، وعدهما من عمل الخير الذي تنال به الزلفى عند الله، فجاء في "صحيح البخاري": أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال: "ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فتأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة".
وفي "صحيح البخاري" أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي
بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: قد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكره الله، فغفر له"، فقالوا: يا رسول الله! وإن لنا من البهائم أجراً؟ فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر".
وفي "صحيحي البخاري ومسلم"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عُذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض".
وقرر الفقهاء وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وصرحت طائفة منهم بأن القضاء الإسلامي يجبره على ذلك إذا قصر فيه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها ولي الأمر، ولم يتركها تحت يده تقاسي.
وفي "سنن أيي داود": أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال:"اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة -أي: التي لا تقدر على النطق-، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة".
وبلغ من تأثر الصحابة والمسلمين الأولين بهذا الأدب في الرفق بالحيوان أن كان عدي بن حاتم يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات، ولهن حق، روى ذلك النووي في "تهذيب الأسماء".
وبلغ من أدب إمام الشافعية أبي إسحاق الشيرازي في الرفق بالحيوان: أنه كان يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب، فزجره رفيق الإمام أبي إسحاق، فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك؟!.
وإذا كانت جمعية الرفق بالحيوان في إنجلترا قد تأسست سنة 1824 م، فإن الإسلام أيقظ عاطفة الرحمة بالحيوان في قلوب جميع المسلمين، فأسس منهم -منذ بضعة عشر قرناً- أعظم وأقدم جماعة في الدنيا للرفق بالحيوان، فضلاً عن الرفق بالإنسان، ولا يشذ أحد منهم عن ذلك إلا بعد أن يكون قد شذ عن آداب دينه وأوامر شريعته.