الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيخ الأزهر محكوم بالإعدام
(1)
كان أصحاب الفضيلة كبار رجال الأزهر يلعبون -طوال الأسبوعين الماضيين- لعبة الكراسي الموسيقية حول كرسي شيخ الجامع الأزهر.
كانوا يتنافسون على ضجيج الحوادث حول الجلوس على الكرسي المرموق، وكان كل منهم يتحين الفرصة للتربع على المقعد الكبير دون الآخرين، إلى أن هبط من السماء عالم لم يكن في المباراة. بل ولم يكن من المتفرجين، ولا ممن يعلمون قليلاً أو كثيراً عن هذا السباق.
وجلس الأستاذ محمد الخضر حسين على كرسي المشيخة دون أن يدور حوله، أو ينافس غيره، أو يسعى ليقف بين صفوف المتسابقين.
وأصبح الصبح على مفاجأة كبرى لم تخطر لأصحاب الفضيلة ببال، فقد غدا الرجل المتواضع الذي يقف على أبواب الثمانين، المتوسط القامة، الخفيض الصوت، بحيث لا يكاد يسمع وهو يتكلم، غدا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وإمام المسلمين في العالم أجمع.
* قصة طويلة:
وقصة الأستاذ الأكبر طويلة شاقة، مليئة بالمفاجآت، وهو من بيت
(1) مجلة (آخر ساعة) العدد 936 الصادر بتاريخ 11 المحرم سنة 1372= 1 أكتوبر سنة 1952. وقد أجرى المقابلة وحرر البحث الأستاذ أحمد لطفي حسونة.
علم ودين، فوالده الأستاذ الحسين بن علي (1) من الجزائر وكان متصوفاً لا يعرف إلا العبادة، وشيخاً للطريقة الخلوتية وله جامع باسمه في بلدة "نفطة" آخر بلاد تونس من جهة الجزائر، وهي البلدة التي ولد فيها الأستاذ الأكبر.
وله أخوان، أحدهما زين العابدين (2)، وقد اشتغل بالتدريس في دمشق وأحيل إلى المعاش وله ابن اسمه كاظم (3) يشتغل بالتدريس هناك، والثاني المكي بن الحسين (4) وهو أديب معروف في تونس.
* صحفي منذ نشأته:
وقد ولد الأستاذ الأكبر في سنة 1293 هجرية بنفطة، وانتقل منها، وعمره إحدى عشرة سنة، إلى تونس حيث التحق بجامعة الزيتونة ونال العالمية (5) وجذبته الصحافة، فأنشأ في تونس مجلة "السعادة"(6) وتفرغ لتحريرها وخدمتها إلى أن تولى القضاء في مدينة "بنزرت". ثم عاد إلى جامعة الزيتونة مدرساً
(1) الحسين بن علي بن عمر ولد في مدينة "طولقة" بالجنوب الجزائري سنة 1246 هـ وتوفي بمدينة تونس سنة 1309 هـ. من رجال الصلاح والتقوى والتصوف.
(2)
شقيق الإمام المربي اللغوي زين العابدين بن الحسين التونسي، هاجر مع أخيه إلى دمشق، وعمل في التربية والتوجيه، وله عدة مؤلفات في العلوم الإسلامية واللغة ولد في تونس وتوفي بدمشق (1305 - 1397 هـ = 1888 - 1977 م) وتصانيفه مذكورة في آخر الكتاب.
(3)
موسى الكاظم بن زين العابدين من رجال التربية في مدينة دمشق.
(4)
العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين ولد وتوفي بتونس (1301 هـ - 1382 هـ) له مؤلفات لغوية.
(5)
شهادة (التطويع).
(6)
مجلة "السعادة العظمى".
بها، وكان يقوم بتدريس النحو والفقه والأصول والبلاغة، وكان في نفس الوقت مدرساً بالمدرسة (الصادقية) وهي المدرسة الوحيدة في تونس.
وقد تزوج الأستاذ الأكبر في هذه المرحلة من حياته خمس مرات، وكان الموت أو الطلاق يفرق بينه وبين زوجاته، وظل عزباً إلى ما بعد هجرته إلى مصر، حيث بنى بزوجته السادسة التي تقيم معه الآن، وهي من عائلة مدكور، ولم يرزقه الله أولاداً من زوجاته الست (1).
* هجرة إلى الشام:
في سنة 1331 هجرية وعمره 38 عاماً، انتقل مع والده وإخوته إلى الشام، وكانت بلاد الشام في هذا الحين دولة واحدة تضم سورية ولبنان وفلسطين، ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ قرابة أريعين عاماً، لم يعد إلى تونس، وكانت هجرته لخدمة الإسلام ولضيقه بالحياة في موطنه، نظراً لفظائع الفرنسيين وسلوكهم المعوج، ورغبة منه في أن يعيش في كنف دولة إسلامية.
وتولى التدريس في المدرسة العربية السلطانية في دمشق، ثم أرسلته الحكومة إلى ألمانيا لحث أسرى الحرب من التونسيين والجزائريين والمراكشيين على الانضمام للجيش التركي ضد فرنسا، واستمرت رحلته في ألمانيا تسعة شهور عاد بعدها إلى سوريا ثم الآستانة، حيث تولى التحرير بالقلم العربي في وزارة الحربية التركية سنة 1917.
* يعود مع الصلح:
وفي سنة 1918، أثناء الهدنة، سافر الأستاذ الأكبر إلى ألمانيا مرة ثانية
(1) له ابنة من زوجته في تونس.
للدعاية لاستقلال البلاد العربية، وكان ممن سافروا معه على نفس الباخرة للغرض ذاته المرحوم عبد العزيز جاويش والدكتور عبد الحميد سعيد واللواء يوسف مصطفى، وكان يوم وصولهم إلى ألمانيا هو يوم عقد معاهدة الصلح، فمكثوا فيها سبعة شهور، عاد بعدها الأستاذ الأكبر إلى تركيا حيث اشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية، ثم سافر إلى دمشق، وكانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وظل فيها إلى أن نزل الإنجليز عن احتلالها للفرنسيين.
* حكم الإعدام يتعقبه:
وشيخ الأزهر الحالي محكوم عليه بالإعدام، حكماً لم يصدر عنه عفو حتى الآن، ولولا هذا الحكم ما كان لفضيلته نصيب في الجلوس على كرسي مشيخة الأزهر.
فقد أصدرت السلطات الفرنسية في سنة 1916 حكماً يقضي بإعدام الشيخ محمد الخضر حسين والشيخ صالح الشريف من تونس لاتهامهما بالتعاون مع الدولة التركية ضد فرنسا.
وقد ظل هذا الحكم يطارد الرجل المجاهد ويحول بينه وبين العودة إلى تونس أو الإقامة في بلد يحتله الفرنسيون، ومن ثم هاجر الشيخ سنة 1919 إلى مصر لاجئاً سياسياً بمجرد عودة الفرنسيين إلى احتلال دمشق.
* أول ليلة له في مصر:
ويروي الأستاذ الأكبر قصة إفلاته من أيدي الفرنسيين فيقول: إنه غادر دمشق بعد أن احتلها الفرنسيون بعشرة أيام، وكانت الأداة الإدارية ما تزال في يد الإنجليز، فتمكن من الحصول على جواز خروج من دمشق، ورحل بطريق البر إلى القاهرة، وقضى أول ليلة فيها في (لوكاندة دار السلام) قريباً من مسجد
سيدنا الحسين، وبات ليلته حتى الصباح.
وأشرق الصبح على اللاجئ الغريب، فأخذ يفكر. أين يذهب وهو لا يعرف مكاناً يذهب إليه في القاهرة؟ ومن يقابل وهو لا يعرف شخصاً واحداً بين ملايين المصريين؟ وماذا يعمل وهو لا يرى طريقاً واحداً يسلكه للحصول على عمل في مصر؟
* إلى الرواق:
وهبطت الفكرة مع وحي لا يدري مصدره، وحي يحثه على الذهاب إلى أحد الأروقة في الأزهر الشريف، ودخل الرواق فلم يعرف أحداً، ثم اتجه إلى رواق المغاربة حيث لم يهتد إلى وجه ليعرفه، ولكن المغاربة اشتبه عليهم أمره، ثم عرفوه ورحبوا به وزاملوه وأكرموه.
ويقول الشيخ في تواضع وطيبة: ثم بحثت عن مأوى آوي إليه، حتى اهتديت إلى حجرة في الربع قريبة من الجامع الأزهر إيجارها الشهري 25 قرشاً، فاستأجرتها وأقمت بها، وظللت أتردد بين مسكني والرواق، وأقطع وقتي في القراعة والتأليف، وأنفق من الدراهم التي أتيت بها إلى مصر.
* البحث عن العمل:
وظل الأستاذ الأكبر على هذه الحال قرابة السنتين، وهو ينفق من القليل الذي ادخره ويجهد النفس في البحث عن مصدر من مصادر الرزق.
فاتجه التفكير إلى الحصول على الشهادة العالمية، وقدم طلباً إلى شيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل، ليسمح له بدخول امتحان شهادة العالمية الأزهرية، غير أن نفراً من العلماء وقفوا في وجهه، وقالوا عنه أنه طريد سياسات مختلفة، ألمانية وتركية وعربية وفرنسية، فرفض طلبه، ولما تولى جعفر والي
وزارة المعارف، وكان يعرف الشيخ محمد الخضر عن قرب، عينه مصححاً في دار الكتب بمرتب شهري قدره تسعة جنيهات وكان مدير دار الكتب في ذلك الوقت أحمد صادق بك.
* بحر لا ساحل له:
وفي سنة 1922، شاء القدر أن يفتح أبوابه للاجئ الوحيد، ليدخره في جعبته، ويحمله بعد ثلاثين عاماً إلى كرسي المشيخة.
وشاء القدر أن يهيئ الفرصة أمامه، فيتعرف على المرحوم أحمد تيمور باشا، الذي كان حينئذ صديقاً للسراي. ومقرباً من المغفور له محمد توفيق نسيم باشا، واستعمل أحمد تيمور نفوذه ليهيئ للشيخ فرصة الامتحان، وهي كل ما كان يطلبه.
وتم للشيخ ما أراد، ووافق الأزهر على أن يتقدم الشيخ محمد الخضر لامتحان العالمية، وتشكلت لجنة من قساة الممتحنين ليؤدي امتحانه أمامها، وبهر الرجل الممتحنين بغزارة علمه، وفاض عليهم بما وهبه الله من معرفة.
ونال الشيخ شهادة العالمية من الأزهر، ونص في القرار على أن اللجنة (امتحنت الشيخ محمد الخضر فوجدته بحراً لا ساحل له
…
).
ثم عين مدرساً بتخصص كلية أصول الدين، ورئيساً لتحرير مجلة نور الإسلام (وهي مجلة الأزهر الآن) وظل يلقن دروس الدين والسياسة الشرعية في كليات الأزهر إلى أن أحيل إلى المعاش.
* عضو في جماعة كبار العلماء:
وكانت الخطوة الباقية أن يدخل الشيخ عضواً في جماعة كبار العلماء، وفي سبيل ذلك قدم رسالة موضوعها (القياس في اللغة العربية) حوت بحثاً
لم يطرقه أحد من علماء الأزهر من قبل، وفي 29 أبريل من سنة 1951 صدر أمر ملكي رقم 22 لسنة 1951 بتعيين الشيخ محمد الخضر حسين عضواً في جماعة كبار العلماء.
وكانت هذه العضوية هي سبيله إلى عرض اسمه على مجالس الوزراء، عندما أراد المجلس اختيار شيخ الأزهر من بين كبار العلماء.
* هل انتهى الصراع؟
ويتساءلون في الأزهر اليوم، هل انتهى الصراع الذي عاش في الأزهر سنين وسنين؟ واتخذ أشكالاً ومظاهر ما كان يجوز أن يكون مصدرها الأزهر الشريف وعلماءه الأجلاء.
إن الشيخ الجديد لا يعرف كيف يحب ولا يعرف كيف يكره، والشيخ الجديد ليس له في مصر أقرباء ولا محاسيب، والشيخ الجديد ليس من بحري ولا من قبلي، والشيخ الجديد ليس طرفاً في المنافسة والسباق حول الكرسي الكبير، والشيخ الجديد لم يفكر في المنصب العالي الخطير ولم يحلم به. ولكن هل يسلم من مناورات الذين سعوا للجلوس فوق الكرسي، فوجدوا أنفسهم فجأة يفترشون الأرض؟
نتمنى أن يسلم من هذه المناورات، فحياة الرجل قصة كفاح طويل، وقصة حياة كلها مفاجآت، والرجل مؤمن بالله، نقي القلب، طاهر السريرة، شريف القصد.