الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضية فلسطين وإخلال ألمانيا الغربية بحيادها في اتفاقية التعويضات لإسرائيل
(1)
قال مندوب "الأهرام" الخاص:
أتيح لي أن أقضي بعض الوقت مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر، وهو رجل أحبه، وأوثره المودة والتقدير؛ لما جبل عليه من صفات الرجل المؤمن، وكان على غير عادته؛ إذ كان يبدو غضبان أسفاً. وقد أعرب حقاً عن ألمه البالغ حين تحدث إلي في مسألة إسرائيل، والتعويضات التي رأت ألمانيا الغربية أن تمدها بها.
قال الشيخ الأكبر في عنف وغضب:
لو أن المؤرخين أرادوا أن يؤرخوا أسوأ مثل لأقبح حادث أسيء به إلى الإنسانية ومبادئها في القرن العشرين، لما وجدوا أبلغ من تاريخ هذا الحادث المروع الذي تألبت فيه بعض دول الغرب، وعاونت على إخراج أهل فلسطين الشرعيين من بيوتهم وبساتينهم وحقولهم، ومتاجرهم ومصانعهم؛ ليحلوا
(1) مجلة "الأزهر" الجزء السادس -المجلد الرابع والعشرون- غرة جمادى الثانية - 1372 هـ = فبراير شباط 1953 م.
* "جريدة الأهرام" العدد 24175 تاريخ 21 - 1 - 1953 م تحت عنوان: "التفتح ألمانيا الغربية أبوابها لليهود، وليعد المشردون من عرب فلسطين إلى وطنهم الشرعي، أما التعويضات التي يراد إعطاؤها لإسرائيل، فإخلال صريح بالحياد".
إن هتلر طردهم من بلاده- عن الخسائر التي تكبدوها، مع أن هؤلاء اليهود الذين طردوا من ألمانيا كانوا رعايا ألمانيين.
والقوانين الدولية لا تلزم أية حكومة بدفع تعويضات من غير طريق القضاء، في الدعاوى التي تقام من أشخاص كانوا من رعايا تلك الدولة، وفضلاً عن ذلك، فإن إسرائيل التي يراد دفع هذه التعويضات إليها ليست هي التي تستحقها، وكان الوضع السليم يقضي على ألمانيا -بدلاً من أن تدفع هذه التعويضات- أن تفتح أبوابها ليعود إليها كل يهودي يثبت أنه أخرج من ملك كان له في ألمانيا، وأن يعود إلى فلسطين كذلك كل عربي يثبت أنه أخرج من ملك كان له في فلسطين، أما العدول عن ذلك إلى أن تعطي ألمانيا الغربية مئات الملايين من الدولارات لإسرائيل، وهي في حالة حرب مع مصر والدول العربية والعالم الإسلامي، فإن ذلك يعد من ألمانيا الغربية إخلالاً بقواعد الحياد، ويصورها في صورة الضالع مع أحد الطرفين المشتبكين في حرب ضروس سجال، وتعده الدول العربية تهديداً لها، وإطالة لحياة حكومة إسرائيل عشرة أعوام أخرى أو أكثر، بينما هي تعيش الآن على الصدقة والاستجداء، وسيكون هذا العمل من ألمانيا الغربية سابقة تستعين بها إسرائيل على أخذ تعويضات أخرى من بلاد يزعمون أن بني جلدتهم اضطهدوا فيها أيضاً، ومنها: النمسا، وألمانيا الشرقية، وهنغارية، ورومانيا، وبولندا
…
إلخ.
ويجب أن تعلم ألمانيا الغربية: أن مساعدتها هذه لإسرائيل ستخل بالتوازن الحالي في الشرق الأدنى، وتمكن إسرائيل من القيام بعدوان جديد على البلاد العربية، بينما الذين يدعون أنهم الأوصياء على السلام العام واقفون يتفرجون على هذه المهزلة التي لم يسبق لها نظير في العالم.
إن إسرائيل ليست وريثة لحقوق اليهود المزعوم أنهم تضرروا من حكومة هتلر، لذلك لا يجوز أن تعتبر طرفاً في تسوية مع ألمانيا الغربية، على حقوق يهود لم يكونوا يومئذ من رعايا إسرائيل، بل لم تكن حكومة إسرائيل هذه موجودة في الدنيا يوم وقع الاضطهاد المزعوم من ألمانيا على رعاياها اليهود.
وحكومة إسرائيل هذه لا تعترف بحق التعويض في القانون الدولي، ولو كانت تعترف بهذا الحق الموهوم بالنسبة لليهود الألمان الذين كانوا قبل وجودها، لكان ينبغي لها أن تعترف بالحق الأبلج الماثل أمام أعينها وأعين رجال حضارة القرن العشرين للاجئين العرب الذين أخرجوا من ديارهم وبساتينهم وحقولهم، ومتاجرهم ومصانعهم، وقررت الأمم المتحدة التعويض لهم، فهزأت إسرائيل بقرارات الأمم المتحدة، وألقت بها في سفط المهملات.
إن يهود ألمانيا الموجودين الآن في فلسطين، وتزعم إسرائيل أنها تتقاضى التعويضات من ألمانيا الغربية باسمهم، قد هاجر معظمهم إلى فلسطين قبل اضطهاد هتلر لليهود، وقسم كبير منهم جاء إلى فلسطين بعد انقضاء حكم النازيين في ألمانيا، وقد جاؤوا إلى فلسطين في الحالتين عندما كانت فلسطين آهلة بأصحابها الشرعيين من العرب، فكان مجيئهم الاختياري إلى فلسطين اضطهاداً منهم للعرب، ويغياً عليهم، واغتصاباً لوطنهم، حتى بلغ عدد العرب الفلسطينيين الذين شردوا من وطنهم الشرعي تحت ضغط الصهيونية العالمية أكثر من مليون نسمة نساء ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، فانتزعت منهم ديارهم في غير شفقة ولا رحمة، ولأول مرة في التاريخ يشرد سكان متوطنون في بقعة ما؛ ليحل محلهم أناس غيرهم يزعم أنهم شردوا من بقاع أخرى.
إن النازي غير موجودين اليوم، فأعيدوا المشردين الألمان إلى وطنهم ألمانيا، وأعيدوا المشردين من عرب فلسطين إلى وطنهم فلسطين، وإلا، فإن دعوى الإنسانية والحق في بلاد الغرب المتمدنة تكون من أكبر الأكاذيب التي سيسجلها التاريخ لتخجل منها الأجيال الآتية ما دام للإنسانية ومبادئها أنصار صادقون في العالم.