الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رأي الإسلام في شروط من يعينون في الوظائف
(1)
جرى حديث لمندوب "المصري" مع فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر عن رأي الإسلام في شروط التوظف، والسن التي يجب توافرها فيمن يلي الوظائف في الإسلام، فأجاب فضيلته على ذلك بقوله:
ولاية الأمور العامة في الإسلام يتوخى فيها شرطان أساسيان:
أحدهما: الكفاية العلمية التي تناسب العمل العام الذي يراد ممن يتولاه أن يقوم بأعبائه.
والآخر: العنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص.
ومهما تتبع الدارس الشروط والمؤهلات التي يطلبها الإسلام فيمن يلي الأمور العامة، ويصف بها ولاة الأمر المثاليين، وعمال الحكومة الصالحين، فإنه يجدها لا تخرج عن هذين الشرطين.
وانظر ما وصف الله به أنبياءه الذين تولوا شؤون أممهم؛ كنبي الله يوسف عليه السلام؛ فقد جاء في كتاب الله عز وجل على لسانه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} {يوسف: 55].
(1) مجلة "الأزهر" الجزء الثالث -المجلد الخاص والعشرون- غرة ربيع الأول 1373 هـ - نوفمبر تشرين الثاني- 1953 م.
فذكر العلم، وفيه الإشارة إلى الكفاية العلمية، وذكر الحفظ، وهو يستلزم العنصر الخلقي المطلوب في مثل هذا العمل، وهو الأمانة والإخلاص.
وقال الله سبحانه وتعالى مخاطباً داود: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فذكر الحكم بين الناس بالحق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم ومعرفة الأحكام، وشرط الانتهاء عن اتباع الهوى، وفي ذلك إشارة إلى العنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص.
وتاريخ الولاية في الإسلام يدور في نصوصه وتطبيقها في أصلح عهوده حول هذين الشرطين، من غير نظر إلى السن والقدم؛ لأن المطلوب في العمل: الكفاية للقيام به والإخلاص فيه، وهذه هي الأهلية لولاية العلم العام في الإسلام. وقد ورد في "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة".
إن العلم واسع ومتشعب، ولا حدود له، والمطلوب منه في ولاية الأمور العامة: ما يحتاج إليه في حسن إدارتها، وتوخي المصلحة في شؤونها. ففي الأمور العسكرية والحربية يكون العلم المطلوب هو العلم العسكري، وفنون الحرب، وفي الأمور المالية: علوم الحساب، وتدبير المال، وفي الأمور الإدارية أو الهندسية أو الطبية أو القضائية: الإلمام الكافي بكل واحد منها لمن يتولاه بقدر ما يلزم للإحسان فيه.
ومما يدل على أن المعرفة والإخلاص هما اللذان كان الإسلام يتوخاهما في تولية العمال دون السن أو القدم: ما ذكره التاريخ من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تم له فتح مكة -وهي يومئذ أعظم أمصار الإسلام، وفيها بيت الله، وهي وطن مولد النبي صلى الله عليه وسلم اختاره للولاية عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن
أمية، وكان عمره حين تولاها نيفاً وعشرين سنة، فأحسن الولاية عليها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر عليها إلى أن مات يوم مات. وقد برهن طول مدة ولايته على كمال الكفاية الإدارية، والإخلاص لله. روى عبد الله بن يسار عن عمرو بن أبي عقرب: أنه سمع عتاب بن أسيد وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: "والله! ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان!.
ومن أمثلة ولاية اكفاء للعمل، وإن كانوا حديثي السن: تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش كان من جنوده أبو بكر وعمر وأمثالهما، لميزات توفرت لأسامة في ذلك العمل، وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واختار المسلمون أبا بكر للخلافة عليهم، فأقر ولاية أسامة على ذلك الجيش، وأراد أن يستبقي عمر في المدينة؛ ليكون مستشاره ووزيره، فلم يأمر أسامة بالتخلي عن عمر، بل (استأذنه) في ذلك باعتبار أن أسامة هو الآمر على عمر، فلا يجوز -ولا للخليفة- التصرف في أمره إلابإذن آمره المباشر، وهي سنّة من سنن الإسلام الحكيمة في نظام الحكم سنها ولاة أمور المسلمين في صدر تاريخهم، ولم تتوصل إلى مثلها الدول العريقة في تقاليد الحكم إلا بعد دهر طويل.
ومما يدل على التقدم بالكفاية دون السن والقدم: أن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب كان يُحضر عبد الله بن عباس، وهو شاب حديث السن في جملة كبار المهاجرين والأنصار، ويستشيره؛ لما بدا له من معرفته وإخلاصه.
والكفاية المطلوبة لكل عمل هي التي فيها مصلحة الدولة والأمة في مدة العمل.
قال القاضي أبو الحسن الماوردي في "الأحكام السلطانية": "إذا كان
أحد المرشحين للإمامة أعلم، والآخر أشجع، يراعى في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى؛ لانتشار الثغور، وظهور البغاة، كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء، وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق".
وقال في شروط تقليد الوزارة: "إنه يحتاج فيه إلى شرط زائد على شرط الإمامة، وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكل إليه من أمر الحرب والخراج خبرة بهما، ومعرفة بتفصيلهما؛ فإنه مباشر لهما تارة، ومستنيب فيهما أخرى، فلا يصل إلى استنابة الكفاة إلا أن يكون منهم، كما لا يقدر على المباشرة إن قصر عنهم، وعلى هذا الشرط مدار الوزارة، وبه تنتظم السياسة".
وقال في شرط ولاية كاتب الديوان: "المعتبر في صحة ولايته شرطان: العدالة، والكفاية، فأما العدالة، فلأنه مؤتمن على حق بيت المال والرعية، فاقتضى أن يكون في العدالة والأمانة على صفات المؤتمنين، وأما الكفاية، فلأنه مباشر لعمل يقتضي أن يكون في القيام به مستقلاً بكفاية المباشرين".
وأنت ترى أن مدار الولاية في الإسلام على الكفاية الممثلة في معرفة ما يلزم للعمل الذي يراد تولية العامل عليه، والعنصر الخلقي، ومناطه الإخلاص، والغرض من ذلك: أن يكون العامل جامعاً للصفات التي تتحقق بها مصلحة الدولة والأمة في ذلك العمل بحسب ظروفه الزمانية والمكانية.
ومن هنا يقال في تولية ولي الأمر أقاربه، فإن كانت ظروف العمل، والصفات التي يتحلى بها أقارب الإمام تقتضي توليتهم؛ لما يتوسم فيهم من الحرص على بقاء الدولة ونجاحها، والإخلاص في جلب المصالح لها، ودرء
المفاسد عنها، فتكون توليتهم من مقاصد الإسلام وسنته، واعتبر ذلك بجهاد مسلمة بن عبد الملك في خلافة أبيه صاخوته؛ فقد قام للإسلام بما لو حرمت الدولة من قيادته وولايته، لكان ذلك خسارة كبيرة على الإسلام، أما إذا كانت ظروف العمل، والصفات التي يتصف بها أقارب الإمام تنافي المصلحة في تعيينهم، فيكون من سنّة الإسلام اجتناب ذلك.
ولما طُعن أمير المؤمنين عمر، وأراد أن يجعل الأمر شورى في الستة الذين سماهم، اقترح عليه بعض الصحابة أن يستخلف ابنه عبد الله -وإن ابنه عبد الله من أعلم الصحابة وأكملهم-، ومع ذلك، فإنه عمر رأى الخير في الطريقة التي رسمها، وأبى أن يستخلف ابنه؛ لأنه كان يتوخى مصلحة الكيان الإسلامي على ما يحب أن يلقى الله عليه.
إن سنن الإسلام في تولية العمال قائمة -كما ذكرنا- على عنصري: المعرفة، والإخلاص، ومدار ذلك: على ما تتحقق فيه مصلحة الدولة والأمة، وقد كانت الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية في خير إلى أن خرج الأنانيون من الحكام عن هذه السنن، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.