الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كفانا قوتاً من الكلام
(1)
عندما أخذت طريقي لزيارة شيخ الأزهر الجديد -فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين-، ووصلت إلى حجرة مكتبه في داره، كان الشيخ الجليل قد انتهى من أداء فريضة الظهر، إلا أنه بقي جالساً على سجادة الصلاة، يقرأ في كتاب "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة" وهنا سألت الأستاذ الأكبر: هل اعتاد القراءة عقب الصلاة؟ أجاب: إنني أقرأ يا بني في كل وقت، وأعيد ما أقرأ؛ لأنني أجد لذة وطلاوة في الإعادة. تماماً كما تسمع أنت قطعة موسيقية جديدة، فلا تتذوقها إلا بعد أن تستعيد سماعها مرات ومرات.
* القراءة رياضة:
ولما طلبت من الشيخ الوقور أن يحدثنا عن نوع الكتب التي يفضلها، أجاب بأنه يحب كتب الأدب القديمة والحديثة، ويعتبر كتاب ابن القيم، في الرد على المنطقيين أحسن كتب المنطق على الإطلاق، وعندما جاء ذكر بعض الكتب الحديثة، ابتسم في طيبة وهو يقول: هذه يُسأل عنها الشباب مثلكم .. ثم أطال الشيخ النظر إلى الكتاب الذي في يده ذاكراً أنه يعتبر القراءة رياضة فكرية لازمة، لا مجرد هواية، وهو يقرن هذه الرياضة الفكرية برياضة أخرى بدنية يمارسها، وهي المشي لمسافات طويلة.
(1) مجلة "المصور" العدد 1459 تاريخ 26 - 9 - 1952 م - القاهرة.
* هذه مؤلفاتي:
وعندما أردنا أن نحصل على المزيد من المعلومات حول حياة الشيخ العلمية، سألناه: هل يهوى الكتابة أيضاً؟ فأجاب باسماً: وهل هناك من يجيد القراءة ولا يكتب؟
ثم قام إلى رفوف الكتب ليتناول منها بعضاً قائلاً: هذه مؤلفاتي، هذا الكتاب رد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، وهذا نقد لكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي"، وهذه "رسائل في الإصلاح"، وهذه مجاميع مجلة "السعادة" التي كنت أصدرها في تونس، وهذه مجلدات مجلةا الأزهر" التي رأست تحريرها سنوات، إنني كما ترى صحفي مثلكم.
* رسالة رجل الدين:
وقمنا إلى الصالون المتواضع -وكل شيء في دار الشيخ يتحدث عن البساطة والتواضع-، وإذا بالشيخ يسرع بغلق (الراديو) الذي كان يعلن عن إذاعة أغنية طائشة، والتفت إلينا شيخ الأزهر يقول: إن الناس يسمون المناداة بالإصلاح -من قبل رجال الدين-: رجعية وتعصباً، ويسمونها: حسماً وحزماً إذا ما أتت من رجال الحكم، ولذلك أرى أن رسالة رجل الدين تقتضيه أن ينبه الحكام إلى الشر، ويترك لهم مكافحته والقضاء عليه.
* لن أذيع برنامجي عن الأزهر:
وقلنا للأستاذ الأكبر: ما هو برنامجك الإصلاحي في الأزهر؟ فأجاب في بساطة: ليس لدي برنامج مدروس، إذ كنت لا أتوقع أبداً أن أكون يوماً شيخاً للأزهر، بعد أن قضيت عمرأ طويلاً أدرس علم السياسة الشرعية في كليتي الشريعة وأصول الدين، ثم أحلت على المعاش بعد عشرين عاماً في
هذا العمل، ولزمت بيتي.
واليوم فإني ساعد برنامجاً للأزهر، ولكني لن أذيعه، فأنا لا أرضى لنفسي أبداً أن يخيب في أمل أو رجاء، أو أتهم بالكذب والخدل، إذا ما اعترضت مشروعاتي العقبات، ولم أستطع تنفيذها. إنني أفضل أن أترك أعمالي المنجزة تتحدث بدلاً من أن أذيع برامج مفصلة قد تتم، وقد لا أتمكن من إتمامها.
* لست عجوزاً:
وسكت الشيخ لحظة، ثم استطرد يقول: ولعلكم تنظرون إلي نظرتكم إلى رجل عجوز هرم، ولكن هذه الشيخوخة البادية هي نتيجة الكفاح السياسي، أما القلب والرأس، فما زالا فتيين.
ولما حدثت الشيخ عن الوقود الذي تحتاج إليه الثورة الإصلاحية؟
ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يقول: "أليس الحطب اليابس هو وقود النار، والعيدان الخضراء الطرية لا تستطيع أن تشعل النار وحدها أبداً
…
لقد تخرجت وطنياً متطرفاً في مدارس الثورات، قبل أن أتخرج عالماً دينياً في جامع الزيتونة بتونس".
وهنا حاولنا أن نحمل الشيخ على أن يتحدث فيما شاب مشيخة الأزهر من أخطاء قديمة، فأجاب:(لا حق لي في أن أنصب نفسي قاضيا على أعمال الناس، وإنما علي أن أعتبر من هذه الأخطاء).
* الأفندية الثلاثة:
ولما دعونا الأستاذ الأكبر أن يحدثنا عن ظروف اختياره للمنصب الديني الكبير، قال: "كنت أتأهب للنوم بعد العاشرة مساء، عندما جاءت الخادم
تنبئني أن (ثلاتة أفندية) جاؤوا لزيارتي، وفوجئت بهذا؛ لأن أحداً لا يزورني في مثل هذه الساعة، خصوصاً وأنا أعيش -مع زوجتي- وحيدين معتكفين، ولم يرزقنا الله بأولاد".
وخرجت إلى الزائرين، فعرفت منهم: فضيلة الشيخ الباقوري وزير الأوقاف، الذي أعرفه معرفة وثيقة قديمة، فسارع يقول: لقد وقع الاختيار عليك لتكون شيخ الأزهر، وقد جئت مع زميلي -ثم قدمهما إلي-؛ لنبلغك هذا القرار، ولما حاولت الاعتذار بعدم استحقاقي للمنصب الخطير؛ لضعف صحتي، قال الشيخ الباقوري:"هذا أمر تجنيد، وفي هذا العهد المبارك تجند الكفاءات النزيهة لخدمة مصر" فأجبت: "وأنا لا أهرب من الجندية، وليوفقنا الله"، وودعني الوزراء الثلاثة الكرام، بعد أن ألقوا إلي بهذه المهمة الكبيرة
…