الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشيخة الأزهر في أكمل ما شهدنا من عهود
(1)
إذا أراد الله بطبقة من أهل هذه الملة الإسلامية خيراً، هيأ لمستقبلهم القريب الحكم الصالح، ويسر لهم الإمام الذي انطوت سيرته النقية الطاهرة في جميع أدوارها على ما تستقيم لهم به القدوة، وتحسن به الأسوة، وتشيع به عدوى الإخلاص لله عز وجل في السر والعلن والقول والعمل.
وأحسب أن طلبة الأزهر الشريف لهذا العهد سيكون منهم لهذه الملة في مستقبلها القريب الخير الكثير، ولذلك كان من حظهم أن قيَّض الله لهم الحكومة التي تتحرَّى للولاية أكفاءها، كما قيض لهم القدوة والأسوة في سيرة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مدَّ الله في عمره وأدام النفع به.
إنهم الآن ليسوا أمام مركز رسمي تولاه كفؤه بالعلم والصلاح فحسب، بل هم أمام مَثلٍ أعلى للمسلم الكامل الذي ابتدأ حياته بنية الكفاح عن الإسلام وأهله، والاضطلاع برسالته، وتحمُّل أماناته كاملة وافية. و (النية) هي الإبرة المغناطيسية التي يتوجه بها المسلم إلى هدفه من الحياة. ولذلك قال معلم الناس الخير صلوات الله وسلامه عليهه "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، والحياة وتصرفات المرء باتجاهاته في جميع أدوارها هي جماع
(1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الرابع والعشرين.- صفر 1372 اكتوبر، تشرين الأول 1952.
الأعمال، فهي أحوج إلى النية الوثيقة الثابتة الصادقة ليكون ما يصدر عن الإنسان من الأعمال في حياته تبعاً لها لا تحيد عنها مهما غالبته الظروف، ولا ينحرف عن اتجاهها ما استطاع، وإن انحرفت به الأهواء والمؤثرات. وطالب العلم الإسلامي إذا نوى من بدء حياته أن يقتصر على مطالب العيش ومتاع الدنيا بقي هدفه محدداً بهذا النطاق الضيق، وعاش على هامش الحياة عيشة تتناسب مع نيته، وكان في نظر نفسه -ثم في أنظار الناس- موزوناً بهذا المقدار، لا ينخدع به الناس بأكثر من ذلك، ولا يستطيع أحد أن يخدعه عن نفسه بأنها فوق ذلك. أما إذا نوى طالب العلم الإسلامي أن يعيش مكافحاً عن حقائق الإسلام -مهما كانت- وعن حقوق المسلمين حيثما كانوا، فإن حياته كلها تصبح حينئذ حياة عبادة، ويكون قدره عند الخالق والخلق متناسباً مع قدر النية القدسية التي عاش على ضوئها، وعوَّل على السير في الحياة بتوجيهها.
يقول فضيلة الأستاذ الأكبر شيخنا السيد محمد الخضر حسين متعه الله بالقوة والعافية والتوفيق:
ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى
…
لفتشت عن واد أعيش به وحدي (1)
ونحن تلاميذه، ومعنا إخواننا من طلبة الجامع الأزهر وكلياته ومعاهده
(1) ديوان الإمام "خواطر الحياة" البيت الأخير من أبيات تحت عنوان (الصداقة والعزلة) يقول في مطلعها:
أريد أخاً كالماء يجري على الصفا
…
نقياً فيصفو لي على القرب والبعد
وفي هذا المعنى، له أبيات قالها (في الحبس) عندما سجنه جمال باشا في دمشق لأسباب سياسية ومنها:
أنا لولا همة تحدو إلى
…
خدمة الإسلام آثرت الحماما
الذين يعدون بالألوف، ينبغي لنا أن يكون لنا في حياة شيخنا القدوة الصالحة، وأن تكون لنا فيه الأسوة الحسنة، فيكون أول ما نرتاح إليه هو النضال عن الهدى، ولا يناضل عن الهدى إلا الذي تحرى معرفته، وتتبع ما جل أو دق من علوم أئمته وتراث علمائه، وجعل من نفسه حلقة متواضعة في سلسلته الذهبية التي أولها عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وآخرها عند شيخنا الجليل إمام الهدى السيد محمد الخضر حسين بارك الله في جهاده.
إنه أحسن النية لله منذ البداية فاتخذ منها إبرة المغناطيس التي توجه سفينة حياته في سيرها، فما تعارضت دنياه وآخرته إلا اختار ما يبقى له في آخرته على ما هو زائل من بهرج دنياه. ومن عادة الله فيمن يؤثر الآجلة على العاجلة أن يجعله راضياً عن نصيبه في دنياه.
وقد يعلن الله كرامته لأوليائه بمكافأتهم حتى في إعلان مقامهم في الدنيا جزاء إيثارهم ما يرضاه لهم في يوم الدين.
أيها الطلبة الأزهريون، إنكم تستقبلون في أول سنتكم الدراسية المباركة إن شاء الله مناهج لتثقيف عقولكم بعلوم الشريعة التي عليها رسالة دينكم، وما يعين عليها من علوم العربية والسنن الكونية. ثم إنكم تستقبلون في هذا العام ما لا يفترق عن هذا أعني به خلاصته، وثمرته الناضجة، وغايته العليا، وهو الأخلاق المحمدية ممثلة بسجايا أستاذنا الأكبر وسيرته في أكثر من سبعين عاماً، وكفاحه في سبيل حقائق الإسلام وحقوق المسلمين وتستقبلون مع هذا وهذا، عهداً يتحرى الحق والخير، والحق والخير جناحا الإسلام ومادة رسالته.
فهنيئاً لكم سنتكم الجديدة، وبارك الله لنا ولكن بحياة شيخنا وشيخكم، وكونوا في عهد الحق والخير من خاصة أهلهما، ومن أنشط الأعوان على تأهيل هذا الشعب للإفادة منهما، وبذلك إن شاء الله أمة صالحة، وبذلك نكون من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، والله يتولى الصالحين.