الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما: تبطل لما ذكرنا.
والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك.
وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر.
[باب صفة الصلاة]
وأركانها خمسة عشر:
القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري.
فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله.
ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود.
فصل:
ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته: «إذا
قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح.
والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة.
فصل:
ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات
محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فصل:
فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال:«السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.
فصل:
ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال:«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي
بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر به.
فصل:
ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فصل:
ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال:«صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها.
والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك
نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين
…
إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها.
فصل:
ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه.
ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره.
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته، فقال:«اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين.
ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت
طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة.
ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة.
فصل:
فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ:«إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها.
وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.
فصل:
فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين:
أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي.
والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها.
والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال:«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.
فصل:
ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال:{وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .
فصل:
ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي
المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم.
وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود.
وعنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه.
ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث.
فصل:
ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.
وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته:«وإذا فرغ من القراءة سكت» .
فصل:
ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان:
إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها، وقد قال:«صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: لا يجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.
ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته:«ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ:«ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح.
فصل:
ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: ليس بواجب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي
العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار.
فصل:
ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته:«ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة.
ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله:«إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه.
فصل:
في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى:{اسْجُدُوا} [البقرة: 34]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي:«ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه.
وفي الأنف روايتان:
إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة.
والثانية: تجب، لإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين:
إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال:«شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم.
والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال:«كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد» . رواه أبو
داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ:«سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده.
فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي:«ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم:«ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله
بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس:«هو سنة نبيك صلى الله عليه وسلم» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود.
فصل:
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض.
والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر:«وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد
على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود.
فصل:
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي:«ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان:
إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة.
والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم.
ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه.
فصل:
ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ:«فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم.
وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ:«وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ:«وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود.
فصل:
ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم:«كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.
فصل:
فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به
وعلمه ابن مسعود، ثم قال:«فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه:«فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري.
وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد:«جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» .
وقال ابن الزبير: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه.
فصل:
ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها روايتان:
إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» .
والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث.
فصل:
ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم:«إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال:«قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.
فصل:
ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام.
فصل:
ثم يسلم، والسلام هو الركن الرابع عشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم.
ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته.
فصل:
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي صلى الله عليه وسلم صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج.
فصل:
فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه،
نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، قال فيه:" ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح.
وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير.
فصل:
وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ:«أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه.
وقال ثوبان: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس:
إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه.
فصل:
ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم.
وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود:«لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه.
فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة:«إن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه
مسلم.
فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه.
فصل:
ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر رضي الله عنه، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى.
فصل:
وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.
وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين.
وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع:
سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر.
النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما.
والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه.
فصل:
ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عمر رضي