الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
والحصر الخاص: مثل أن يحبسه سلطان، أو غريم ظلماً، أو بحق لا يقدر على إيفائه. والعبد إذا منعه سيده، والزوجة يمنعها زوجها، كالعام في جواز التحلل، لعموم الآية [وتحقق المعنى فيه، فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة ففيه روايتان:
إحداهما: له التحلل لعموم الآية] . ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كسر أو عرج، فقد حل وعليه حجة أخرى» رواه النسائي. ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو.
والثانية: ليس له التحلل؛ لأن ابن عباس وابن عمر قالا: لا حصر إلا حصر العدو. ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال من حاله، والتخلص من الأذى به، بخلاف حصر العدو.
[باب الهدي]
يستحب لمن أتى مكة أن يهدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «أهدى في حجته مائة بدنة» [رواه البخاري ولم يقل في حجته] ويستحب استسمانها واستحسانها؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . قال ابن عباس: هو الاستسمان، والاستحسان، والاستعظام، أفضل الهدي والأضاحي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة» متفق عليه.
ويجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان وصغيره، وغير الحيوان، استدلالاً بهذا الحديث، إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة، والأفضل: بهيمة الأنعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى منها. فإن كانت إبلاً سن إشعارها، بأن تشق صفحة سنامها اليمنى حتى
يسيل الدم، ويقلدها نعلاً، أو نحوها، لما روى ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها في صفحة سنامها اليمنى، وسلت الدم عنها بيده» ، رواه مسلم، ولأنها ربما اختلطت بغيرها، أو ضلت فتعرف بذلك فترد، وإن كانت غنماً قلدت آذان القرب والعرى؛ لقول عائشة:«كنت أفتل القلائد للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقلد الغنم. ويقيم في أهله حلالاً» [أخرجه البخاري ومسلم ونحوه] ولا يشعرها لضعفها، ولأنه يستتر موضع الإشعار. بشعرها وصوفها.
فصل:
ولا يجب الهدي بسوقه مع نيته، كما لا تجب الصدقة بالمال، بخروجه به لذلك، ويبقى على ملكه وتصرفه، ونمائه له حتى ينحره، وإن قلده وأشعره وجب بذلك، كما لو بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه. وإن نذره، أو قال: هذا هدي لله وجب؛ لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فأشبه لفظ الوقف، وله ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به؛ لأن أبا هريرة روى «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها فقال: يا رسول الله، إنها بدنة. فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» ، متفق عليه. وفي حديث آخر قال:«اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً» رواه أبو داود، فإن نقصها الركوب، ضمنها؛ لأنه تعلق حق غيره بها، وإن ولدت، فولدها بمنزلتها يذبحه معها، لما روي أن علياً رضي الله عنه رأى رجلاً يسوق بقرة معها ولدها، فقال: لا تشرب من لبنها، إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها ولأنه معنى تصير به لله تعالى، فاستتبع الولد، كالعتق، وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها لحديث علي، ولقول الله تعالى:{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] . ولا يجوز أكثر من ذلك للخبر. ولأن اللبن غذاء الولد، فلا يجوز منعه منه. كما لا يجوز منع الأم علفها، فإن لم يمكنه المشي، حمله على ظهرها؛ لأن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها، فإن لم يمكنه حمله ولا سوقه، صنع به كما يصنع بالهدي الذي يخشى عطبه، وإن كان عليها صوف في جزه صلاح لها، جزه وتصدق به؛ لأنها تسمن بذلك، فتنفع المساكين، وإن لم يكن في جزه صلاح لم يجز أخذه؛ لأنه جزء منها وينفع الفقراء عند ذبحها، وإن أحصر نحره حيث أحصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحديبية، وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه؛ لأنه أمانة عنده، فلم يضمنه من غير تفريط كالوديعة، فإن تعيب ذبحه وأجزأه؛ لأنه لا يضمن جميعه، فبعضه أولى.
فصل:
وإن عجز عن المشي أو عطب دون محله، نحره موضعه وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه، فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء، وخلى بينه وبينهم، ولم يأكل منه هو، ولا أحد من رفقته. لما روى ذؤيب أبو قبيصة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: إن عطب منها شيئاً فخشيت عليها موتاً فأنجزها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك رواه» مسلم، ولأنه متهم في التفريط فيها ليأكلها، أو يطعمها رفقته فمنعوا من أكلها لذلك. فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ضمنها؛ لأنه فرط فيها، فلزمه ضمانها كالوديعة، إذا رأى من يسرقها فلم يمنعه.
وإن أتلفها ضمنها؛ لأنه أتلف مالاً يتعلق به حق غيره، فضمنه، كالغاصب، ويلزمه أكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي مثلها؛ لأنه لزمته الإراقة والتفرقة، وقد فوتهما فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين، وإن كانت قيمتها وفق مثلها، أو أقل، لزمه مثلها، وإن كانت أكثر، اشترى بالفضل هدياً آخر، فإن لم يسع اشترى به لحماً وتصدق به؛ لأنه أقرب إلى المفوت، ويحتمل أن يتصدق بالقيمة، وإن أكل مما منع من أكله، ضمنه بمثله لحماً لما ذكرنا. وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها؛ لأنه لا تلزمه الإراقة، فلزمته قيمتها كغيرها، ويشتري بالقيمة مثلها، فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا فيما إذا أتلفها صاحبها.
وإن اشترى هدياً فوجده معيباً فله الأرش، ويحتمل أن يكون للمساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى، فكان للمساكين، كعوض ما أتلف منه بعد الشراء، ويكون حكمه حكم الفاضل عن المثل، ويحتمل أن يكون له؛ لأن النذر إنما صادف المعيب بدون الجزء الفائت، فلم يدخل في نذره، فلا يستحق عليه بدله.
فصل:
ولا يزول ملكه عن الهدي والأضحية بإيجابهما، نص عليه. وله إبدالهما بخير منهما.
وقال أبو الخطاب: يزول ملكه، وليس له بيعه، ولا إبداله؛ لأنه جعله لله تعالى، فأشبه المعتق والموقوف.
ووجه الأول: أن النذور محمولة على أصولها في الفرض، وفي الفرض لا يزول ملكه، وهو الزكاة. وله إخراج البدل، فكذلك في النذور، وأما بيعها بدونها، فلا يجوز؛
لأن فيه تفويت حق الفقراء من الجزء الزائد فلم يجز، كما لو أخرج من الزكاة أدنى من الواجب. ولا يجوز إبدالها بمثلها؛ لأنه تفويت لعينها من غير فائدة تحصل.
فصل:
ومن وجب في ذمته هدي فعينه في حيوان تعين؛ لأنه ما وجب به معين جاز أن يتعين به ما في الذمة، كالبيع، ويصير للفقراء، فإن هلك بتفريط، أو غيره رجع الواجب إلى ما في الذمة، كما لو كان له عليه دين، فباعه به طعاماً، فهلك قبل تسليمه، فإن تعيب أو عطب فنحره، لم يجزئه لذلك، وهل يعود المعين إلى صاحبه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يعود، ذكره الخرقي. فقال: صنع به ما شاء؛ لأنه إنما عينه عما في ذمته، فإن لم يقع عنه عاد إلى صاحبه، كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه.
والأخرى: لا يعود؛ لأنه صارت للمساكين بنذره، فلم تعد إليه، كالذي عينه ابتداء، وهل تعود إلى ذمته، مثل المعين، أو مثل الواجب في الذمة؟ ينظر، فإن تلف بغير تفريط لم يلزمه أكثر مما في الذمة؛ لأن الزائد إنما تعلق بالعين، فسقط بتلفها، وإن تلف بتفريط، لزمه أكثر الأمرين؛ لأنه تعلق بالمعين حق الله تعالى. فإن أتلفه فعليه مثل ما فوته. وإن ولد هذا المتعين تبعه ولده، لما ذكرنا في المعين ابتداء، فإن تعيبت الأم فبطل تعيينها، ففي ولدها وجهان:
أحدهما: يبطل تبعاً كما ثبت تبعاً.
والثاني: لا يبطل؛ لأن بطلانه في الأم لمعنى اختص بها بعد استقرار الحكم في ولدها، فلم يبطل فيه، كما لو ولدت في يد المشتري ثم ردها لعيبها.
فصل:
وإذا ذبح هديه، أو أضحيته إنسان بغير أمره في وقته أجزأ عنه؛ لأنه لا يحتاج إلى قصده، فإذا فعله إنسان بغير إذنه وقع الموقع، ولا ضمان على الذابح؛ لأنه حيوان تعين إراقة دمه على الفور حقاً لله تعالى، فلم يضمنه كالمرتد.
فصل:
ويجوز الأكل من هدي التمتع والقران؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن متمتعات إلا عائشة، فإنها كانت قارنة لإدخالها الحج على عمرتها، وقالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، قالت: فدخل علينا بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل:
ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه» . رواه مسلم. ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية، ولا يجوز الأكل من واجب سواها؛ لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه، ككفارة اليمين، وعنه: له الأكل من الجميع، إلا المنذور، وجزاء الصيد، ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور في الذمة؛ لأنه نذر إيصاله إلى مستحقيه، فلم يجز أن يأكل منه، كما لو نذر لهم طعاماً، وما ساقه تطوعاً استحب الأكل منه، سواء عينه أو لم يعينه. لقول الله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وقال جابر: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة. فجعلت في قدر، فأكل منها وحسا من مرقها» . ولأنه دم نسك فأشبه الأضحية. قال ابن عقيل: حكمه في الأكل، والتفريق حكمها. وقال جابر:«كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا» ، رواه البخاري ومسلم ونحوه. والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في بدنه. وإن أطعمها كلها فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات، ثم قال:«من شاء اقتطع» رواه أبو داود. وظاهر هذا أنه لم يأكل منها شيئاً، ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه، ويجوز إطلاقه للفقراء، استدلالاً بهذا الحديث.
فصل:
إذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع، ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية. ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها. وإن عينه بنذره ابتداء أجزأه ما عينه كبيراً أو صغيراً أو حيواناً أو غيره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«فكأنما قرب دجاجة، وكأنما قرب بيضة» وإذا أطلق بالنسبة إلى مكانه، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم. لأن ذلك المعهود في الهدي. وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك، ما لم يكن فيه معصية، لما روي «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر ببوانة. قال: هل بها صنم قال: لا. قال: أوف بنذرك» رواه أبو داود.
فصل:
ومن وجب عليه دم أجزأه ذبح شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لقول ابن عباس: في هدي المتعة شاة، أو شرك في دم، فإن ذبح بدنة احتمل أن يكون جميعها واجباً، كما لو اختار التكفير بأعلى الكفارات، واحتمل أن يكون سبعها واجباً وباقيها تطوعاً؛ لأن سبعها يجزئه فأشبه ما لو ذبح شياه.