الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كتاب الحج]
الحج من أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ولما روينا فيما مضى، وروى مسلم عن أبي هريرة قال:«خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم» وتجب العمرة على من يجب عليه الحج؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت: إني أسلمت يا أمير المؤمنين، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما. فقال: هديت لسنة نبيك. رواه النسائي.
ويجب ذلك في العمر مرة؛ لحديث أبي هريرة، ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام؛ لما روي عن ابن عباس قال: لا يدخل مكة إلا محرم، إلا الحطابين. إلا أن يكون دخوله لقتال مباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.» متفق عليه. ودخل أصحابه غير محرمين. أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد، فلهم الدخول بغير إحرام؛ لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين، وقسنا عليهم من هو
في معناهم. ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجاً فينتفي بقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناهى، فسقط لذلك.
فصل:
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم، والحرية، والاستطاعة لقول الله تعالى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع، والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له، ومنافعه مستحقة، فهذا أعظم عذراً من الفقير.
وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يشترط للصحة وهو: الإسلام والعقل، فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم.
وقسم يشترط للإجزاء، وهو البلوغ والحرية؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى» . رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما. ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب، كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت، وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله، أجزأهما عن حجة الإسلام، لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما، كما لو وجد ذلك قبل الإحرام. وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضاً لذلك، وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال.
الثالث: شرط الوجوب حسب، وهو الاستطاعة، فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه؛ لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً؛ لكن إن كان في الحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم، كره له؛ لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه، وإن لم يكن كلاً على أحد؛ لقوته على المشي
والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه، فهو مستحب له لقول الله تعالى:{يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل.
فصل:
والاستطاعة في حق البعيد: القدرة والزاد والراحلة؛ لما روى ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد.
والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه.
فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج؛ لأن عليه في غربته ضرراً ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه.
وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص، أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه، وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة، ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحملها، ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء؛ لأنه لا يستغنى عنها. ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء، وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به عادة مثله، وما لا يتخوف الوقوع منه، ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل، ونفقة عياله إلى أن يعود، وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم؛ لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي، فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه.
وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت، قدم؛ لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة، وإن لم يخف وجب الحج؛ لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب، ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب من العلم يحتاج إليها؛ لم يلزمه صرفه في الحج؛ لأنه لا يستغنى عنه، أشبه النفقة، ومن كان من ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه، فعليه
صرف ذلك في الحج، ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به؛ لم يلزمه قبوله، وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله؛ لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبياً.
فصل:
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة، ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة، وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه؛ لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة.
فصل:
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء. وهي إمكان المسير، وهو أن تكمل الشرائط فيه، وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه. وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره. والمحرم للمرأة، فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها؛ لأنه لا يستطاع فعله بدونها، فكانت شرطاً للوجوب كالزاد والراحلة.
وعنه: أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب؛ لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط، فلم تمنع الوجوب كالمرض، وإذا قلنا: هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها، فلا شيء عليه كالفقير، وإن قلنا: هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس، حج عنه كالمريض. وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة، فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه؛ لأن فيه مشقة وتعزيراً.
وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها، بعيدة كانت أو قريبة، براً أو بحراً الغالب السلامة فيه، فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه، كالبر إذا كان فيه مانع، فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء؛ لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد، فإن كانت يسيرة؟.
فقال ابن حامد: يلزمه لأنها غرامة ممكنة، يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد.
وقال القاضي: لا يلزمه؛ لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه، كسائر الواجبات.
فصل:
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء
خاصة، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه، أو كبر، أقام من يحج عنه ويعتمر؛ لما روى أبو رزين أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حج عن أبيك واعتمر» وهو حديث حسن، فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ. وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب؛ لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة، كالصحيح الفقير، فإن استناب ثم مات؛ لم يجزئه ووجب الحج عنه؛ لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج، كما لو برئ، وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأنها حجة لا يلزمه أداؤها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب.
والثانية: لا يجوز؛ لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة.
فصل:
ومن كملت الشرائط في حقه؛ لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» رواه ابن ماجه. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي، ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام.
فصل:
وحج الصبي صحيح؛ لما روى ابن عباس قال: «رفعت امرأة صبياً فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» رواه مسلم. والكلام فيه في أربع أمور:
أحدها: في إحرامه، إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، ولا يصح من غير إذنه؛ لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع. وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله، ومعنى إحرامه عنه: عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون
الولي، كما يعقد له النكاح، فلذلك صح أن يحرم عنه الولي، محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج، فإن أحرمت عنه أمه، صح في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: يحرم عنه أبواه، وهو ظاهر حديث ابن عباس.
وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله، وفي سائر عصباته وجهان، بناء على القول في الأم، فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً.
الثاني: أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله، وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه؛ لما روى جابر رضي الله عنه قال:«كنا إذا حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم» رواه ابن ماجه، وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولاً، فقد روى الأثرم عن أبي إسحق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة. ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه.
الثالث: أن ما فعله من محظورات الإحرام، إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه، فلا فدية فيه؛ لأن عمد الصبي خطأ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية، وفي محلها روايتان:
إحداهما: تجب في مال الصبي؛ لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي.
والثانية: تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله. وإن وطئ الصبي أفسد حجه. ووجبت البدنة ويمضي في فاسده، وعليه القضاء إذا بلغ، وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة؛ لو صلحت أجزأت، وهو أن يبلغ في وقوفها، أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا.
الرابع: أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقة الحضر فهو في ماله؛ لأن الوالي لم يكلفه ذلك، وما زاد ففي محله روايتان، كالفدية سواء.
فصل:
وفي حج العبد وهو صحيح؛ لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر، وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة:
أحدها: أنه إن أحرم، صح إحرامه، بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة، فإن أحرم بإذن سيده لم يجز تحليله؛ لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان، وإن أحرم بغير إذنه،
فقال أبو بكر: لا يملك تحليله لذلك، وقال ابن حامد: له تحليله، وهو أصح؛ لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه، كالاعتكاف، فإن أذن له ثم رجع قبل إحرامه فهو كمن لم يأذن، فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان، بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به؟ على روايتين.
الثاني: إذا نذر العبد الحج انعقد نذره؛ لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر، فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به؛ لأنه أذن في التزامه، وإن كان بغير إذنه فله منعه، ذكره ابن حامد.
وقال القاضي: لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده، فمتى عتق فعليه الوفاء به، ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام.
الثالث: أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط؛ لأنه كالمعسر وأدنى منه، فإن ملكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا: إنه يملك، فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام، وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه؛ لأن النسك له، فكانت الفدية عليه، كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها.
وقال القاضي: هو على سيده؛ لأنه بإذنه.
الرابع: أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة، ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه، وإن لم يكن مأذوناً فيه فله تحليله؛ لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً، فحكمه في ذلك حكمه.
فصل:
في حج المرأة ثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر،
أن تسافر مسيرة يوم، إلا ومعها ذو محرم» متفق عليه. والمحرم زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح، كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها، فأما عبدها فليس بمحرم لها؛ لأنها تحل له إذا عتق، وليس بمأمون عليها، ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم؛ لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع، فأشبه التحريم باللعان، ونفقة المحرم عليها؛ لأنه من سبيلها، فكان عليها نفقته كالراحلة، ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء؛ لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير، وإن مات المحرم في الطريق، مضت إذا كانت قد تباعدت، وإن كانت قريبة رجعت. وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت، وأجزأها حجها، كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج.
الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض؛ لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان، ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين، وله منعها من حج التطوع؛ لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد، فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه.
الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة؛ لأنها واجبة في المنزل، تفوت، فقدمت على الحج الذي لا يفوت. وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها، مضت في سفرها؛ لأنه لا بد من سفرها، فالسفر الذي يحصل به الحج أولى، وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها.
فصل:
ومن وجب الحج عليه فمات قبل فعله، وجب الحج عنه؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما «أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، مات ولم يحج، قال: حجي عن» أبيك رواه النسائي، ولأنه حق مستقر تدخله النيابة فلم يسقط بالموت، كالدين، ويحج عنه من رأس ماله؛ لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين.
فصل:
ويستناب عنه، وعن المعضوب من حيث وجب عليهما، إما من بلدهما، أو من الموضع الذي أيسرا منه، ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات؛ لأن الحج واجب عليه من بلده، فوجب أن تكون النيابة عنه منه؛ لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه، فيؤدي من حيث وجب.
وإن خرج للحج فمات في الطريق، استنيب عنه من حيث انتهى إليه؛ لأنه أسقط عنه ما ساره.
وإن مات بعد فعل بعض المناسك، فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه كالزكاة، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره، فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده، حج عنه من حيث تبلغ، نص عليه أحمد في الوصية بالحج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه، كمن قدر على الصلاة قاعداً.
وذكر القاضي أنه لا يحج عنه؛ لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال، والأول أولى.
فصل:
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي، احتمل تقديم الدين؛ لتأكده بحاجة الآدمي إليه، وغنى الله عن حقه، واحتمل أن يتحاصا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال:«أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فالله أحق بالوفاء» رواه النسائي. فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة.
فصل:
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالحج عنه ولا إذن له، علم أن الإذن غير معتبر، ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه؛ لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة، وتجوز النيابة عنهما في حج التطوع؛ لأن ما جاز
فرضه جاز نفله كالصدقة، فأما القادر على الحج بنفسه، فلا تجوز له الاستنابة في الفرض؛ لأنه عليه في بدنه، فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه.
فصل:
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شبرمة؟ قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» . رواه أبو داود. ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما، ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما؛ لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام، فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره، فإن أحرم عن غيره أو نذره أو نفله قبل فرضه، انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه.
وعنه: يقع عن غيره ونذره ونفله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما لامرئ ما نوى» والأول المذهب؛ لحديث ابن عباس في الحج عن غيره، ووجود معناه في النذر والنفل. ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعاً أو نفلاً أو نذراً وعليه حجة الإسلام انصرف إليها؛ لأن فعل نائبه كفعله، وهكذا إن حج عن الميت نذراً أو نفلاً قبل حجة الإسلام، وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح؛ لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام، وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها، وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه؛ لأنه يتعذر وقوعه عنهما، وليس أحدهما أولى به من الآخر.
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته؛ لأن الإحرام يصح مبهماً، فصح عن المجهول، وله صرفه إلى من شاء منهما، فإن لم يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحد منهما؛ لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ، وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه، انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به.