الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلق البيان، فهذا والله أعلم من ذاك. وبهذا كله اندفع مارجح به المعنى الأول وترجح المعنى الثاني فيكون الاستثناء متصلاً كما هو الأصل. والله أعلم.
وقوله تعالى: «عن تراض» نص في اشتراط رضا كلٍ من المتبايعين، والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدار الحكمة كالرضا ههنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط ههنا؟
بنى الأستاذ على أنه الصيغة أي الإيجاب والقبول كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين:
الأول: أن الصيغة قد علمت بقوله: «تجارة» .
الثاني: أنها ليست بواضحه الدلالة على الرضا إذ تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال قبل تمكن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلا مرة، ويحتاط الناس له ما لا يحتاطون للبيع، والشارع يتشوف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوف إلى تثبيت البيع، جاء في ال
حديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق
(1) » وجاء فيه: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» ومبنى البيع على المشاحة ومبنى النكاح على مكارمه، وأوضح من هذا كله أن في الحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة (2) ففرق هذا ثلاثة وبين غيرها كالبيع، على أن تعين الضابط غنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد تعيين الضابط التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول، وأما احتيار اللزوم، وأما أن يستمرا على ظاهر حالهما من التراضي مدة اجتماعهما ويتفرقا على ذلك، ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة
(1) في إسناده مقال ذكرته في «الارواء» . والحديث الذي بعده صحيح مخرج هناك. ن
(2)
حديث حسن بمجموع طرقه، وقد خرجتها في المصدر السابق. ن
للحكمة، أما اختيار اللزوم فواضح أنه بين في استحكام التراضي، وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتدار كه صاحبه قبل التفرق ولا سيما إا علم أن التفرق يقطع الخيار. فبان بهذا أن الحديث مفسر للآية التفسير الواضح المطابق للحكمة، لا مخالف لها كما زعم الكوثري، وراجع (تفسير أبن جرير) . ويؤكد هذا المعنى مافي (سنن أبي داود) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عت أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً:«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون الصفقة خيار ولا يحل له ان يفارق5 صاحبه خشية أن يستقيله» .
والمراد والله أعلم انه لا يحل لأحد هما أن يستغفل صاحبه فبفارقه وهو لا يشعر إذ قد لا يكون استحكم رضاه وكان يريد الفسخ إلا أنه أمهل اعتماداً على أن ذلك لا يفوت، حتى لورآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ. فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاًُ يعجبه فارق صاحبه، فمحمول على مبادرته بالمفارق وصاحبه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة، وقوله:«حتى يستقله» ، لا يدل على الزوم العقد، فإن الاستقاله بعد الزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة. إذا قد يستقله بعد أن يفارقه ويمضي زمان، وإنما المراد والله أعلم أن صاحبه قد يندم في المجلس فلا يبادر إلى الفسخ ويرى من حسن الأدب والعشرة أن يقول له:«أقلني» ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس.
أقول: قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكل من المتبايعينبعد تبايعهما غير مخالف لكتاب الله تعالى، وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري فالحديث غير محتمل له كما يأتي، ولو احتمله وحمل عليه لبقي ما في
القرآن في معنى المجمل لأن أحدهما «بعت» وقول الآخر فوراً: «اشتريت» لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال كما مر.
ثم حاول الأستاذ تقريب احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال: «وعلى هذا التقدير يكون لفظ «المتبايعين» حقيقة، إذ هذا اللفظ محمول على حال العقد في تقديرنا، وحمله على مابعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازاً كونياً. وفائدة الحديث أن خيار الرجوع ثابت لهما مادام أحدهما أو جب ولم يقبل الآخر في المجلس لاكا لخلع على مال والعتق على مال، لأنه ليس المزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة والعبد» .
أقول: فللمجيء إلى الفرارإلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنفية «المتبايعان» بالمتساومين والتفرق بالايجاب والقبول أبطل بوجوه، منها أنه أخرج للَّفظ عن حقيقة بلا حجة، ومنها أن الحديث يبقى بلا فائدة إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء. وستعلم أن هذا الفار كالمستجير من الرمضاء بالنار.
قوله: «يجعله مجازاً كونياً تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق يصدق على المةصوف حقيقة حين وجود المعنى المشتق منه، فإن لم يكن فىخر جزء منه، فأما قبل حصوله فمجاز كوني أي باعتبار ما سيكون، واختلف فيما بعد زواله فقيل حقيقة، وقيل مجاز كوني أي باعتبار ما كان. فأقول الأصل يقضي بأنه لا يصدق حقيقة على الإنسان لفظ «بائع» إلا حين وجود البيع حقيقة، وإنما يكون ذلك عند آخر حرف من الصغة المتأخر، والحديث يثبت أن لكل منهما حينئذ الخيار ويستمر إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا. وأو ضح من ذلك أن الذي الحديث «المتبايعان» والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربت رجلاً أنه لا يصدق أنه لا يصدق عليكما «متضاربان» ولا عليك أنك احد الضاربين، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربه لك فحينما تصيبك ضربته يوجد التضارب حقيقة فيصدق عليكما أنمكما متضاربان وأنك أحد المتضاربين. فإن قلت: كيف وقد زال
فعلي؟ قلت: الزائل هو ضربك والفعل المشتق منه هنا هو التضارب وهو الفعل واحد ضربك جزء منه والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضر زواله، ألا ترى أنه لا يصدق حقيقة على من يتكلم أنه «متكلم» عند آخر حرف من كلامه مع أن كثير الحروف قد زالت؟ فإنما يصدق حقيقة على المتبايعين أنهما «متبايعان» عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمراً أن يتفرقا، وهذا قولنا.
ووجه ثالث وهو أن الحديث كما في (الموطأ) و (الصحيحين) يثبت أن «لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا» فهو ثابت للمتأخر قطعاً يثبت له آخر حرف من صيغته مستمراً إلى أن يتفرقا، ولا قائل بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم فثبت له عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمراً إلى أن يتفرقاً، وهو قولنا. ولوقال المحتسب للعون وهو يرى رجلاً يضرب آخر: أمسك الضارب حتى تحضره عند الحاكم لكانت كلمة «الضارب» حقيقة لحكم بالإمساك مستمراً إلى غايته، وإن كانت الضرب ينقطع قلبها، وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك، فقد اتضح أن قولنا مبني على حقيقة، وضل سعي الأستاذ في زعمك أنه يكون مجازاً، فأما القولالذى اختاره فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازاً. فأما قولهخ: «وفائدة الحديث
…
.» فمبنى على القول الذي قد فرغنا منه، ومع ذلك فالحديث أثبت الخيار لكل واحدٍ من المتبايعين، وصيغة الموجب للبيع لا يتضمنمالا يحتاج إلى قبول بخلاف موجب الخلع أو العتق على مال فإن اجابه يتضمن الطلاق أو العتق، فإيجابه في معنى تعليق الطلاق أو العتق ولا رجوع في ذلك، فثبت أنه لا يتوهم في البادي بالصيغة من المتساومين أنه لا رجوع له، فحمل الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثل حمله على المتساومين في أنه لا يكون له فائدة.
هذا ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشهبه ما تجرئه على زعم كلمة «يتفرقا» في الحديث إن حملت إلى قولنا كانت مجازاً، وإن حملت على قولهم كانت حقيقة،، فعدل إلى قوله: «والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحوقوله تعالى:
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» وقوله تعالى وقوله تعالى «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» وقوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ (1) اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» وفي الحديث (افترقت اليهود - الحديث)(2) بل التفرق بالأبدان خروج من شأنه لإفساد العقود في الشرع لا إتمامها كعقد الصرف قبل القبض، وعقد السلم قبل القبض لرأس المال، والدين بالدين قبل تعيين أحدهما وفي حمل الحديث على التفرق بالأبد ان خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى وأما حملة على التفرق بالأقوال فليس فيه خروج عن الأصول ولا مخالفة لكتاب الله تعالى مع كونه أشهر في الكتاب والسنة» .
(1) وقع في (التأنيب) ص 79 «إن يتفرقا يغنى» واقتصر في إصلاح الأغلاط ص 190 على إصلاح «يغن» !
(2)
قلت: وتمامة «على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى علىاثنين وسبعين فرقة، وتفترق امتى على ثلاث وسبعين فرقة» هذا هو تمامن الحديث اختصره الكوثري عمداً ظنا منه في آخر: «كلها في النار» وهو يذهب ضعيفة بدعوى أنها منة ورواية محمد بن عمروولا يحتج به عنده! والحقيقة أن الحديث المذكور وهو من حديث أبي هريرة -هو ابن عمر المذكور، وهو مع كونه حسن الحديث عند المحقيقين، فليس في حديثه هذا الزيادة المذكورة خلافاً لدعوى الكوثري، ولكن الزيادة صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق خرجتها في «الأحاديث الصحيحة» رقم (203) ، ومن عجيب هوى الكوثري أنه في الوقت الذي يذهب إلى تضعيف هذه الزيادة يميل إلى تقوية الحديث بزيادة «كلها في الجنة إلا واحدة» وهي باطلة كما حققته في «الأحاديث الضعيفة» (1035) ، وكلام الكوثري فيما ذكرنا تراه في مقدمته على «التبصير في لدين» لأبي المظفر الأسفرايني ص 5-9، وردنا عليه في المصدرين السابقين. ن
أقول: التفرق فك الاجتماع، وهو حقيقة في التفرق بالأبدان بلا شبهة، وكثيراً ما يأتي الإجتماع والتفرق مجازاً في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن، ومن ذلك الشواهد التي ساقها الأستاذ، ومجيء الكلمة في موضع أو أكثر مجازاً بقرينته لا يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذه كلمة «أسد» كثر جدا استعمالها في الرجل الشجاع مع القرينة حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل أنه يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذا أصل قطعي ينبغي استحضاره فقد كثر تغافل المتأو لين عنه تلبيساً على الناس. نعم إذا ثبت ان الشارع نقض الكلمة الى معنى الآخر صارت حقيقة شرعيه في معنى الذي نقلة اليه وهذا هنا، إذ لا يدعي أحد أن الشارع نقض كلمة «التفرق» الى معنى غير معناها اللغوي. وأما كثرة مجيئها في القران في الأمور المعنوية فانما ذلك لأن تلك الامور مهمة في نظر الشارع فكثر ذكرها دون افتراق الابدان، ولها في ذلك اسوة بكلمات كثيرة كرقبه والكظم والزيغ والخيف واللين والغلظ وغير ذلك. ولا اختصاص للشواهد التى ذكرها الأستاذ بالقول بل كلها في تفرق معنوى قد يقع بالقول وقد يقع بغيره، فالتفرق عن الإعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض، ويبتدع ويجاهر بالعصيان بعض، وكل من كفر والابتداع والعصيان قد يقع بالإعتقاد وبالفعل، وبالقول وتفرق اهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم، وإشتداد كفر بعضهم ولا اختصاص لذلك بالقول، وتفرق الزوجين قد يكون بالفعل كارضاعها ضرة لها صغيرة، وبالقول من الجانبين، وبنية الزواج القاطعة على قول مالك، وافتراق اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبني عليها من الأفعال والأقوال.
ومع هذا فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق، وتعاقد متساومين اجدر بأن يسمى اجتماعاً بعد تفرق كما لا يخفى. لكننى أرفد الأستاذ فأقول: إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما وتحملهما الرغبة في لبيع على أن يبقيا مجتمعين ساعة، ثم إذا تعاقد زال سبب الأجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق فقد
يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك، لكن قد يقال: ليس التعاقد سبباً مباشراً، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع، ثم إن ساغ ذاك الاطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا ملجيء إليه، بل الحديث نص صريح في قولنا، فقفي (الصحيحين) من حديث الإمام الليث بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً
…
وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» .
قوله «بل التفرق بالأبدان من شأنه افساد العقود
…
» .
أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرق بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق وهي صيرورته رباً في الأولى، وبيع في بدين في الأخريين، وتفرق المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلاً لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يثبت العقد ويؤكده وهو تبين صحة التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيراً ما يناط بالأمر الواحد حكمان مختلفتان من جهتين مختلفيتين كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح، إذا كان الآخر كافراً، ويثبة إذا أسلم الآخر أيضاً، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف، وكإسلام المرأة الأيم يُحل نكاحها للمسلم ويحرمه للكافر، ويمنع إرثها من أرقابها الكفار، ويثبته لها من أرقابها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى.
على أن الأثر الحاصل بالتفرق في مسألتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور فإن العقد قد صح بالإيجاب والقبول وإنما أثر التفرق قطع الخيار، وإن شيءت فقل إفساد الخيار.
قوله «خروج عن الأصول ومخالفة لكتاب الله تعالى» .
أقول: أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس يسمونه خروجاً عن
الأصول تمويهاً وتهويلاً وتستراً وقد تقدم الجواب الواضح عماد ذكره الأستاذ من القياس. وبينما الأستاذ يتبجح في آخر ص 161 بقوله: «أجمع فقهاء العراق على ان الحديث الضعيف «يرجح على القياس» ويقول ص 181 في الحسن بن زياد «كأن يأبي الخوض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في المسألة القهقهة في الصلاة» يعنى ببعض المشاغبين الإمام الشافعي ورفيقاً له أورد على الحسن بن زياد أنه يرى أن قذف المحصنات في الصلاة لا يبطل الوضوء فكيف يرى أن القهقهة تبطله؟ فقام الحسن وذهب، (1) إذا بالأستاذ يرد أحاديث خيار المجلس زاعماً أنها مخالفة للقياس، هذا مع ضعف حديثه القهقهة ورضوح القياس المخالف له وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها.
وأما المخالفة للكتاب فقد تقدم تفنيد زعمها، وبينما ترى الأستاذ يحاول التشبت بدعوى مخالفة الكتاب هنا، إذا به يعرض في مسألة القصاص في القتال بالمثل ومسألة مقدار ما يقطع سارقه عن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث الصحيحة وموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص. إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلف بينه أمر واحد هو الذب عن المذهب، والغلو في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئة صاحبه من أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، واتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله؛ والله المستعان.
أقول: قد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث صريحاً في
(1) تقدمت القصة بتمامها في التعليق على الصفحة (444) . ن
إثبات خيار المجلس كما تقدم، وفي (صحيح البخاري) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً
…
الحديث، ثم قال نافع:«وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه» وفي (صحيح البخاري) من طريق الزهرى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «بعت من أمير المؤمنين عثمان
…
فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادّني البيع، وكانت السنة المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا
…
فلما وجب بيعي رأيت أني قد غبنته» .
فصراحة الحديث نفسه ثم جعله سبباً لمفارقة ابن عمر من يشتري منه ما يعجبه وقوله: «وكانت السنة
…
» وقوله: «فلما وجب بيعي وبيعه
…
» بغاية الوضوح في بطلان قول الأستاذ «قد يكون هذا منه
…
» .
قال الأستاذ: «ولأصحابنا حجج ناهضة» .
أقول: بل شبه داحضة. قال: «وعالم دار الهجرة مع أبي حنفية وأصحابه في هذه المسألة، ومن ظن وهناً بما انفق عليه إمام أهل العراق وإمام أهل الحجاز فقد ظن سواء» .
أقول: أما من اعتقد وهن قولهما المخالف لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة وعمل به وقضى به جماعة منهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم لهم مخالفة من الصحابة فإنما اعتقد ما يحب على كل مسلم أن يعتقده، فمن زعم أن هذا المعتقد قد ظن سواء فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه.
ثم ذكر الأستاذ كلمة ابن أبي ذئب وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وقد ذكرتها في ترجمتة في قسم التراجم.
وفي (تاريخ بغداد) 13/389 عن ابن عينية قال: «ما رأيت أجراً على الله من أبي حنيفة كان يضرب الأمثال لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فيرده. بلغه أني أروي
«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فجعل يقول: أريت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في السجن، أرأيت إن كانا في سفر كيف يتفرقان؟ قال الأستاذ ص 82:«هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق الافتراق بالأقوال لا الأبدان» .
أقول: مغزى تلك العبارة أننا إذا قلبنا الحديث ورد علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتأبيعان من التفرق. والجواب أن الحديث قد فتح لهما باباً آخر يتمكنان به من إبرام العقد وهو أن يختارا اللزوم فيلزم من غير تفرق، وإن أرادا أو أحدهها الفسخ فظاهر. وكان أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرحة بذلك. فإن قيل قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم ويأبي الآخر أن يختار اللزوم أو يفسخ فيتضرر والمبادر لأنه لا يمكنه إبرام العقد ولا فسخه.
قلت: هو المضيق على نفسه بمبادرته فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ، أو يطلقا أو أحدهما من السجن، أو ينقل أحدهما إلى سجن آخر، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من الانفراد والتباعد عن الرفقة. فإن قيل لكن المدة قد تطول مع جهالتها. قلت اتفاق أن يجتمع أن يبادر أحدهما ويمتنع التفرق وتطول المدة وتفحش الجهالة، نادر جداً، ويقع مثل ذلك كثيراً في خيار الرؤية، وكذلك في الصرف والسلم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق، فمثل ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يعتد به ففى التوفيق عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلالته نظر، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن الحديث بغاية الصحة والشهرة ووضوح الدلالة، فهو في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن ابن عمر، وصح عنه من قوله وفعله ما يوافقه، وهو في (الصحيحين) غيرهما من حديث حكيم بن حزام، وصح عن أبي برزة أنه رواه وقضى به، جاء من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرة ةغيرهم، وجاء عن أمير المؤمنين على القضاء به، ولا مخالف من الصحابة، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة وإبراهيم النخعي بالكوفة، واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له: إن مالكاً لا يأخذ بهذا الحديث، فقال:«يستتاب فإن تاب وإلا يقتل»
ومالك إنما اعتذر في (الموطأ) بقوله بعد أن روى الحديث «ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه» ؛ وتعقبه الشافعي وغيره بأن الحد معروف نقلا ونظراً، فإنه معلوم أن التفرق حقيقة في التفرق بالأبدان، وحده معروف في العرب، وقد اتفقوا على نظيرة في الصرف والسلم، والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من أئمة التابعين بالمدينة وغيرهما. وراجع كتاب (الأم) للشافعي أوائل المجلد الثالث (1) .
(1) الجزء الثالث الصفحة الرابعة، تحقيق الأخ الفاضل محمد زهري، طبع شركة الطباعة الفنية - زهير