الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً
في (تاريخ بغداد) 13/391 حكايتان عن أبي عوانة «كنت عند أبي حنيفة جالساً فأتاه رسول من قبل السلطان
…
فقال يقول الأمير: رجل سرق ودياً فما ترى؟ فقال غير متعتع: ان كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه
…
» قال الأستاذ ص92: «قال الامام محمد بن الحسن الشيباني في (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمنة يومئذ عشرة دراهم ولا يقطع بأقل من ذلك
…
قال الإمام محمد في (الموطأ) : قد اختلف الناس فيما تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم ورووا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمروعن عثمان وعن على وعن عبد الله بن مسعود وعن غير واحد فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أن ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أم ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود مما يدراً بالشبهات فالأ خذ برواية عشرة دراهم في القطع أحوط فيؤخذ بها حيث لم يعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة» .
أقول: رأيت للحنفية مسالك في محاولة التخلص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة نشطت للنظر فيها هنا.
المسلك الأول هذا الذي تقدم، وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عمل بالناسخ،
فإن لم يعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يعلم الناسخ فتعين العمل بالراجح. ومن المرجحات نفي الحد ، أي أنه كان أحد الدليلين المتعارضين مثبتاً لحد والآخر نافياً له ، كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبتة للحد في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم نافية للحد فيما ذلك ، فجاء التعارض فيما يساوى ربع دينار أو يزيد عله ولكنه لا يبلغ العشرة ، ولم يعلم الناسخ فترجح النافي.
والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يثبت كما ستراه مفصلاً فليس بدليل أصلاً. هبه ثبت فعد نفي الحد من المرجحان فيه نظر ، وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هبه ثبت فلا حجه فيه للاتفاق على أن الحد يثبت بخير الواحد ونحوه مما يقول الحنفية أنه دليل فيه شبهة ، وإنما الشبهة التي يدراً بها الحد ما يقتضي عذراً ما للفاعل كمن أخذ ماله فيه حق ، فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي، وكالواطئ في نكاح بلا ولي فإن له أن يقول لم أزن وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول سرقت عالماً بأن السرقة حرام ، لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذا توجب الحد. فلا عذر له ، ولا يدرأ عنه الحد ، كما لا يدرأ عمن قال:«سرقت عالماً» بأن السرقة حرام ، ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى فإنه إذا لم يعذر بجهل وجوب الحد من أصله فكيف يعذر بالتردد ? هبه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح. فللمثبت مرجحات أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله.
المسلك الثاني للطحاوي. بدأ في كتاب (معاني الآثار) بذكر حديث ابن عمر «أ، رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنة ثلاثة دراهم» وهو في (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرها، رواه مالك وجماعة عن نافع عن أبن عمر فهو في أعلى درجات الصحة.
ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يقطع فيما دون ذلك. ثم روي من طريق أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رفعه «لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن» قال الطحاوي: «فعلمنا
بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفهم عند قطعة في المجن على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن» .
أقول: أبوواقد هذا ذكر بصلاح في نفسه وغزو، قال أحمد:«ما رأى به بأساً» لكنهم ضعفوه في روايته، قال ابن معين:«ضعيف الحديث» وضعفه أيضاً على أبن المديني والعجلي وأبو زرعة وأبو داود والنسائي وأبو أحمد والحاكم وابن عدي، وقال البخاري وأبو حاتم والساجي:«منكر الحديث» . وقال ابن حبان: «كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم، ويسند المرسل ولا يفهم، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحق الترك» ومما أنكروه عليه حديثه عم سالم عن أبيه عن عمرورفعه: «من وجدتموه قد غل فأحرقوا متاعه» قال البخاري: «وحديث الباطل ليس له أصل» وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في (مشكل الآثار) على ما في (المعتصر) ج2ص238، (1) وفي (المعتصر) عن الطحاوي:«وكتاب الله يخالف ذلك، قال الله تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا» فإذا لم يكن في سرقة مال ليس للسارق فيه شركة سوى قطع اليد لا جزاء له غير ذلك فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظ إحراق رحله» .
أقول: دلالة الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالة لا يقول بها الجمهور. وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغال قطع إذ يقال ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له فكيف يزاد الغال على مع أن له شبهة؟ . فإما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال على لشبهته قطع ولكن عليه عقوبة دون ذلك. فليس في هذا ما ينكر، كما أن الزاني المحصن الرجم فقط وليس على غير المحصن رجم ولكن عليه الجلد. وكما أن من ارتكب موجب الحد يحد ولا يعزر ومن ارتكب ما دون ذلك لم يحد ولكنه يعزر.
رد الطحاوي حديث أبي واقد في الغال بدعوى مخالفة لا حقيقة لها ، لدلالة لا
(1) الطبعة الثانية.
يقول بها الجمهور، ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفة محققة لدلالة متفق عليها من الآية نفسها ، فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحق على كل منهم اسم «السارق» وهم كل من كان مسروقة أقل من قسمة المجن والآية توجب بعمومها قطع كل من يحق عليه - 95-
اسم «السارق» ودلالة العموم متفق عليها بل يقول الحنفية أنها قطعية. ثم يبالغ الطحاوي فيقول «فعلمنا بهذا
…
» كأنه يرى أبا واقد معصومها يوجب حديثه العلم. ويجعل ذلك أمراً مفروغاً منه ، وإنما الشأن في معرفه قيمة المجن؟
ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في القيمة المجن. ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق. قال: «وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لايقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعداً ، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود (وهو إبراهيم بن سامان داود الأ سدي البرلسي) و (أبو زرعة) عبد الرحمن بن عمروالدمشقي قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال. ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال كان قيمه المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم»
أقول: ابن إسحاق متكلم فيه وفي حفظه شيء كما في (الميزان) ، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي فخبره هذا غير صالح للحجة أصلا فكيف يعارض به حديث (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرهما المتواتر عن نافع عن ابن عمر؟ ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود كما يشير إلى ذلك تقديم الطحاوي له، فأما، فأما الدمشقي فقال الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 378:«حدثنا أبو العباس محمد يعقوب (الأصم) ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد ابن خالد الوهبي ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم عشرة دراهم» . وهذا هو الصواب من حديث الوهبي كذلك أخرجه الدارقطني في (السنن) ص 369: «نا محمد بن إسماعيل الفارسي نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة نا أحمد بن خالد الوهبي» وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن)
ج8 ص 257: «ثنا أبوطاهر الفقيه أنبأ ابوبكر القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا أحمد بن خالد الوهبي
…
» كلاهما بلفظ الأصم عن الدمشقي إلا أن ابن نجدة قدم كلمة «يقوم» ذكرها بعد كلمة «المجن» فإن قيل فالمعنى واحد. قلت: كلاّ، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة «المجن الذي قطع
فيه النبي صلى الله عليه وسلم» والمحفوظ وهو لفظ الدمشقي وأبن نجدة والسلمي يجعلها قيمة المجن مطلقاً كما تقوم: كانت الغنم رخيصة في عهد فلان، كان ثمن الشاة يقوم درهمين. فإن قيل وكيف يستقيم ذلك والمجان تختلف جودة ورداءة، وجدة وبلى، وسلامة وعيباً، وترخص في وقت وتغلوفي آخر؟ قلت: كأن قائل ذلك بلغه أن أقل ما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم مجن ورأى أنه لا ينبغي القطع في أقل من ذلك، وأعوزه أن يعرف ذاك المجن أو يعرف قيمته على التعين أو يجد دليلاً يغنيه عن ذلك، ففزع إلى اعتبار جنسه ليحمله على أقصى المحتملات احتياطاً، أو على أولاها في نظره، فرأى أن العشرة أقصى القيم أو أو سطها أو غالبها أو أقصى الغالب أو أو سطه. فإن قيل فهلا تحمل كلمة «المجن» في لفظ الجماعة على ذلك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فتوافق لفظ الطحاوي؟ قلت: يمنع من ذلك أمور.
الأول: أن الظاهر إرادة الجنس.
الثاني: قوله «كان
…
يقوم» وهذا يقتضي تكرار التقويم ولا يكون ذلك في ذاك المجن المعين.
الثالث: أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذ بما يخالف الحديث الثابت المحقق وهو حديث ابن عمر. فإن قيل قد يكون ابن عمر قوم باجتهاده فقال: عشرة. قلت: هذا باطل من أوجه.
الأول: أن الواجب في التقويم أنه إذا رفعت إلى الحاكم سرقة فكان المسروق مما لا يعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يقطع فيه أو لا أن يبدأ الحاكم فيأمر العدول
العارفين بتقويم المسروق، وابن عمر في دينه وتقواه وورعه وعلمه بأنه سيبنى على خبره قطع أيد كثيرة لا يظن به أن يجزم إلا مستنداً إلى ما جرى به التقويم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن أثبت الرويات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ: «ثمنه» كما تراه في (صحيح البخاري) مع (فتح الباري) وأصل الفرق بين الثمن والقيمة أن الثمن هو ما يقع عوضاً عن السلعة، والقيمة ما تقوم به السلعة فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم، وكانت تساوي أكثر أو أقل فالثلاثة ثمنها، والذي تساويه هو قيمتها، فإذا أتلف رجل سلعة الآخر فقومت بثلاثة دراهم فقضى بها الحاكم فقد لزمت الثلاثة عوضاً عن السلعة، فصح أن تسمى ثمناً لها فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال:«ثمنها ثلاثة دراهم» إلا إذا كانت قومت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم فقضى بحسب ذلك. وكأن هذا هو السر في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم «ثمنه» وبعضهم «قيمته» مع أن قول بعضهم «قيمته» لا يخالف ما تقدم، لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى «قيمته» لكن مالم يعلم أنه وقع به التقويم فالقضاء، فإنه لا يصح أن يسمى ثمناً فتدبر.
الثالث: أن ابن عمر لوبنى على حدسه لكان الغالب أن تتردد.
الرابع: أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قيم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر، يقول هذا: ثلاثة. ويقول الآخر: عشرة. قال ابن حجر في (الفتح) : «محال في العادة أن يتفاوت هذا فقد جاء في بعض الروايات عن أبن عمر كما في (سنن أبي داود) والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد السارق سرق ترساً صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم (1) وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفة بها فهو المقدم على غيره.
هذا كله على فرض صحة خبر ابن
(1) د قلت: وإسناد هذه الرواية صحيح عل شرط الشيخين. ن
إسحاق، وقد علمت أنه لا يصح، وسيأتي تمام ذلك والصواب مع صرف النظر عن الصحة أن القائل عشرة دراهم إنما نظر إلى الجنس على ما تقدم بيانه.
فإن قيل فقد قال أبو داود في (السنن) : «حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» .
قلت: هذا لفظ ابن أبي السري كما صرح به أبو داود، وابن أبي السري وإن حكى أبن الجنيد أن ابن معين وثقة فقال قال أبو حاتم «لين الحديث» وقال مسلمة:«كان كثير الوهم وكان لا بأس به» وقال ابن وضاح: «كان كثير الغلط» ، وقال ابن عدي «كثير الغلط» . والمحفوظ عن ابنن نمير كما تقدم نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير
…
» والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا.
فإن قيل: فقد قال ابن أبي شيبة في (المصنف 9: «حدثنا عبد الأعلى عن محمد عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم» وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27 عن عياش عن عبد الأعلى نحوه. فكلمة «المجن» الأولى للعهد فكذلك الثانية.
قلت: ليس هذا بلازم با الثانية للجنس كما في غالب الروايات، على انه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضاً، ويمكن أن تكونا معاً للعهد، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدم لا تحقيقي.
فإن قيل: فقد قال ابن التر كماني «قال صاحب (التمهيد) : ثنا عبد الوارث ثنا قاسم ثنا محمد يوسف ثنا ابن إدريس ثنا محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قاتل: «قوم المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .
قلت: المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني ص 368: «ثنا ابن صاعد
ثنا ابن خلاد بن أسلم ثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قال: «كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» سند الدارقطني أقصر وأثبت فإن محمد بن وضاح كان ممن يخطئ وقاسم بن أصبغ اختلط باخرة» .
هذا وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا فرواه مرة عن عطاء عن ابن س كما هنا، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مر، وقال مرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي، ومرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول:«ثمنه يؤمئذ عشرة دراهم» أخرجه النسائي وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27، ورواه مرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلاً كما في (الفتح) ، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلاً، لم يذكر فيهما ابن عباس رجعله من كلام عطاء، ذكر النسائي الثانية قال:«أخبرني محمد بن وهب قال: حدثنا محمد بن سلمة قال: حدثني ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء، مرسل» .
فإن قيل فقد قال أبو داود: «ورواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده» ظاهر هذا الوصل.
قلت: لم يذكر أبو داود من حدثه عن محمد بن سلمة، والنسائي ذكر ذلك وحققه فهو أولى. وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال فإنه فإنه قال عقب ذلك:«أخبرني حميد بن مسعدة عن سفيان –هو ابن حبيب –عن العرزمى –هو عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن. قال: وثمن المجن يؤمئذ عشرة دراهم» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوم المجن في زمانهم ديناراً أو عشرة دراهم» . وقال ابن التركماني: «في (كتاب الحجج) لعيسى بن أبان
…
» ثم قال: «وفي (كتاب الحجج) عن
مصعب بن سلام ويعلى بن عبيد قلا: ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل ما يقطع فيه السارق؟ قال ثمن المجن. وكان في زمانهم يقوم ديناراً أو عشرة درهم» .
وهذا الحديث في حكم مختلف فيه تعم به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمر، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلم به وألزم له ايوب بن موسى وعمرو بنشعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم.
وهذا عبد الكلك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا عبد الملك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال: «لزمت عطاء سبع عشرة سنة) 9 وقال: «جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء» زكان يدلس عن غير عطاء فأما عن عطاء فلا، قال:«إذا قلت: قال: عطاء فأنا سمعه منه وإن لم أقل سمعت» ، وإنما هذا لإنه كان يرى أنه قد استوعب ماعند عطاء فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء. وهذا كما قال أبو إسحاق:«قال أبو صالح (ذكوان) و (عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا أصادق هو أم كاذب» يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علما أنه كاذب، لأحاطتهما بحديث أبي هريرة. وقال الإمام أحمد:«ابن جريج أثبت الناس في عطاء» وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب، قال ابن التركماني:«في (مصنف عبد الرزاق) عن ابن جريج قال كان يقول: لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم» . مع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه، قال:«حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا ابن عاصم ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم» وهذا يشعر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب، وهذا عكس ما زعمه ابن إسحاق، أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فيترك أن يقول: كان قول عطاء على قول ابن عباس. ويعدل إلى عمرو بن شعيب؟
وقد كان لابن عباس أصحاب حفاظ فقهاء كأنه ألزم له وأعلم به من عطاء ولم يروأحد منهم عنه في هذا الباب شيئاً، فأما ما روى عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن أبن عباس قال:«ثمن المجن الذي يقطع فيه دينار» ذكره ابن التركماني، فليس بشيء، إبراهيم ساقط ولا سيما إذا لم يصرح بالسماع، وأما حسن ظن الشافعي به فكأنه كان متماسكاً لما سمع منه الشافعي ثم ظهر فساده، وقد قال ابن أبي شيبة في (المنصف) : «حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد (بن مهران الحذاء) عن عكرمة قال: تقطع اليد في ثمن المجن. قال قلت له: ذكر لك ثمنه؟ قال أربعة أو خمسة وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين. أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم فيعدل عنه إلى مالا يدري عمن أخذه مع شكة فيه؟ فهذا كله يبين أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قط، وأن عطاء لم يحدث به عن ابن عباس قط، وإنما هو قول عطاء، وقد علمت مع ذلك أنه مبنى على الحدس. والله الموفق.
فإن قيل: فقد قال البخاري في (التاريخ) : «وقال الوليد بن كثير حدثني من سمع عطاء عن ابن عباس –مثله» . قلت: وصله الدارقطني ص369 «حدثنا أحمد نا شعيب بن أيوب نا أسامة عن الوليد بن كثير حدثني عن سمع عطاء عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة»
قلت: أبو أسامة كان يدلس ثم ترك التدليس بأخرة ولا يدرى متى حدث بهذا؟ وشيخ الوليد لا يدرى من هو، ولو كان به طرق لما كنى عنه، وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدث عن عطاء محمد بن عبد الله العرزمى الهالك ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه فليس في هذا ما يجدى، والصواب ما تقدم.
قال الطحاوي: «حدثنا أبن أبي داود وعبد الرحمن بن عمروالدمشقي قال ثنا الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -مثله» يعنى مثل حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن
عطاء عن ابن عباس وقد أقمنا الحجة على أن ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق فيأتي مثل ذلك هنا، وقد قال الدارقطني ص369:«نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحأبي نا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. نا محمد بن مخلد نا محمد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبونشيط نا أحمد بن خالد الوهبي نا محمد بن إسحاق بإسناده نحو» .
وفي (نصب الراية) ج3 ص359 ابن أبي شيبة روى في (مصنفه) عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن. قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (تفسير ابن كثير) أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن أبن إسحاق –فذكر مثله.
والذي وجديه في النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: القطع في ثمن المجن» وفيها «حدثنا عبد الأعلى وعبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قال: كان يقول: ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (سنن البيهقي) ج8 ص269 من طريق أبي يعلى «ثنا أبن نمير ثنا أبي ثنا محمد بن إسحاق «عن عمرو بن شعيب (1) » عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» . وقال الدارقطني ص 368: «حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عبد الله بن إدريس وعبد الله بن نمير عن ابن إسحاق ح ونا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحاربي عن محمد ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على
(1) سقطت من الأصل. ن
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» . وفي (مسند أحمد) ج2ص18 «ثنا ابن إدريس ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم) . وقال النسائي في (السنن) «أخبرنا خلاد بن أسلم عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» . وفي (نصب الراية) ج3 ص 466 عن (مسند إسحاق بن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مابلغ ثمن لمجن ففيه القطع. وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. قال. وسئل عن اللقطعة؟ فقال: عرفها سنة» هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطعة وغيرها. وفي (مسند أحمد) ج2ص302 «ثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاً من مزينة يسأله عن ضالة الإبل
…
وسأله عن الحريسة التي توجد في مراتعها قال: فقال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، قال: فما أخذ من أعطانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن، فسأله فقال: يا رسول الله اللقطة نجدها في سبيل العامر؟ قال: عرفها سنة
…
» وفي (المسند) ج2 ص 207 «ثنا يزيد (بن هارون) أنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلاً من مزينة وهو يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -فذكر نحوالحديث ابن إدريس - قال: وسأله عن الثمار
…
فقال
…
ومن وجديه قد احتمل ففيه ثمنه مرتين وضرب نكال، فما أخذ من جرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن
…
» فأما الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن ففي (المسند) ج 2 ص 204 «حدثنا نصر بن باب عن الحجاج (بن أرطاة) عن عمرو بن شعيب عنأبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا قطع فيما دزن عشرة دراهم» . وأخرج الدارقطني ص 369 من طريق أبي مالك الجني عن حجاج بسنده بإسناده: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» ؛
والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء وفيه كلام غير ذلك وفي (نصب الراية) : «قال في (التنقيح) : والحجاج بن أرطاة مدلس ولم يسمع من عمروهذا الحديث» . وابن إسحاق أيضاً مدلس وهو ممن يروي عن الحجاج فأخلق به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب فرواها عن عمروابن شعيب تدليساً عل تدليس. لكن قال البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص27 «قال لنا على حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن أبن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب أن شعيباً حدثه أن عبد
حدثه عبد الله بن عمروكان يقول - وحدثني أن مجاهداً أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة» . فهذا اللفظ الذي في هذه الرواية قوي لتصريح أبن إسحاق بالسماع، وقال الدارقطني ص 368:«نا أحمد علي بن أبي العلاء نا أبو عبيدة بن أبي السفر نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن عشرة دراهم» . وأبو أسامة كان أولاً يدلس كما سبق، فإن سلمت هذه الرواية من تدليسه كانت متابعة جيدة لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرح فيه بالسماع.
فإن أغمضنا عن اضراب ابن إسحاق وعن تدليسه أبي أسامة قلنا: إنه يثبت أن عمروابن شعيب روى عن أبيه عن جده هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن أبي إسحاق المصرحة بالسماع ورواية أبي أسامة عن الوليد عن الوليد بن كثير وهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» .
ويبقى النظر في عمرو بن شعيب، وقد لخص ابن حجر كلامهم فيه بقوله: ضعفه ناس مطلقاً، ووثقه الجمهور، ومن ضعفه مطلقاً فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة
…
. فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها
…
. وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله بن عمروفي أماكن
…
. لكن هل سمع منه ما روى عنه أم سمع بعضها والباقي صحيفة؟ الثاني أظهر عندي وهو الجامع لاختلاف الاقوال فيه وعليه ينحط كلام الدراقطني
وأبي زرعة» .
فإن قيل فإذا لم يصرح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمروفغاية ذلك ان يكون من الصحيفة، وقد قال ابن حجر:«قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه وما روي عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل وهو ضعيف من قبل انه مرسل، وجد شعيب كتب عبد الله بن أبي عمروفكان يرويها عم جده إرسالاً وهي صحاح عن عبد الله بن عمروغير أنه لم يسمعها» قال ابن حجر: «فإذا شهد له ابن معين ان أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي ان يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل» وذكر بعد ذلك كلاماً ليعقوب بن شيبة وفيه: «وقال علي ابن المديني وعمرو بن شعيب عندنا ثقة وكتابة صحيح» قلت: الساجي لم يدرك ابن معين، وقول ابن المديني:«كتابه صحيح» لعله أراد كتابه الخاص الذي قيد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة، وقد قال الامام أحمد:«له أشياء مناكير وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا» . وقال مرة: «ربما احججنا به وربما وجس في القلب منه شيء» مأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكراً، وفي كلام أبي زرعة «ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر» وهذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة. وبذلك صرح ابن حبان في (الثقات) وراجع (أنساب ابن السمعاني) الورقة 319 الف، وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن تكون تلك الصحيفة مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرولم تحفظ كما يجب فوقع العبث بها. وإما أن يكون عمروأو أبوه اوكلاهما كما يدلس عن الصحيفة يدلس عن فير الصحيفة.
فالذي يتحصل أم ما صرح في عمروبالسماع من أبيه، وبسماع أبيه من عبد الله بن عمروفإنها تقوم به الحجة، وما لم يصرح بذلك ففيه وقفة، ولم أر في شيء. من طرق الحديث التصريح بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو، فأما سماعه من أبيه فوقع التصريح به في لفظ «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» في رواية ابن إسحاق عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن الوليد بن
كثير عن عمرو، إلا أن فيه اضطراب ابن اسحاق وتدليس أبي أسامة مع عدم التصريح بسماع شعيب. وقد قال الشافعي لمن ناظره من الحنفية:«عمرو بن شعيب قد روى أحكاماً توافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم عن الثقات فرددتموها ونسبتموه الى الغلط فأنتم محجوجون، إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها وخالفتموها، اواكثرها، وهي نحوثلاثين حكماً حجة عليكم، وإلا فلا تحاجوا به» .
وبعد اللتيا والتي إن أصبح شيء عن عبد بن عمروفهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس كما توضحه أكثر الروايات «كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» وقد مر انه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة ان المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كانت قيمته ثلاثة دراهم.
فأما الجملة المرفوعة ولفظها فيما نسبه الزيعلي وابن كثير الى (مصنف ابن أبيشيبة)
«لا يقطع السارق في دون ثمن المجن» وفي النسخة التي وقفت عليها من (المصنف)«القطع في ثمن المجن» وفي رواية ابن راهويه عن ابن إدريس عن ابن إسحاق عن عمرو «ما بلغ ثمن المجن ففيه القطع» فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل، كما وقد تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو. ورواه النسائي من طريق ابن عجلان عن عمرو «عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق قال
…
.ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة، ومن يسرق شيئاً بع أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع
…
.» ومن طريق ابن وهب «أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروأن رجلاً من مزينة اتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع الا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد
…
.» ومن طريق عبيد الله ابن الاخنس «عن عمرو بن الاشعب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم في كم تقطع اليد؟ قال: لا تقطع اليد في ثمرة معلق فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولاتقطع جريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن» . وأخرجه أبو داود في «اللقطة» من طرق عن عمرو، ويظهر من أن الحديث أطول مما ساقه النسائي. فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث. ولم أر في شيء من طرقه التصريح بسماع عمرومن أبيه ولا بسماع أبيه من عبد الله ابن عمرو، وقد ذكر البيهقي في (السنن) ج 8 ص 263 حديث رافع بن خديج مرفوعاً «لا قطع في ثمرة ولا كثر» وحديث عمرو بن شعيب هذا فقال ابن التركماني:«ذكر الطحاوي أن الحديث الاول تلقت العلماء متنه بالقبول وأحتجوا به، والحديث الثاني لا يحتجون به ويطعنون في إسناده ولا سيما ما فيه مما يدفعه الاجماع من غرم المثلين» .
أقول: وإنما الطعن في إسناده لمكان عمرو بن شعيب عب أبيه عن جده، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من الحديث ولا بشيء من هذا رواية عمروعن أبيه عن جده وقد أخرج مالك في (الموطأ) قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي الحسين المكي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن أبي حسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرح به مالك في رواية الشافعي عنه كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 255.
وعلى فرض صحة حديث اللقطة فالمراد بكلمة «المجن» ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل فاستشعر من سؤاله حرصه على الالتقاط وما يقرب من السرقة أو يكونها، فشدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بذكر غرامة المثلين وجلدات النكال، ثم ذكر له القطع وعدل عن أن يقول:«ما بلغ ثلاثة دراهم» أو «ما بلغ ربع دينار» ليتنبه السائل لموضع العبرة، ويعلم أن ذلك أمر مفروغ منه، قد نفذ به الحكم وجرى به العمل، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من ردعه. ولمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الأمم السابقة. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة (فصلت) فلما بلغ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» بادر عتبة فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحم أن يكف (1) . وكأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا ولم يبحث عن قيمة ذاك المجن، ولا بلغه ما يغني عن ذاك فلما سئل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اضطر الى الحدس باعتبار الجنس كما تقدم شرحه، وقد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
أقول: هذا بهذا اللفظ من غريب هذا الوجه، وابن الاصبهاني كثير الغلط، (2) وقد قال النسائي في (السنن) : «حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا معاوية قال:
(1) أخرجه البغوي في «تفسيره» (7 / 327) من طريق الحماني ثنا ابن فضيل عن الأجلح عن الذيال حرملة عن جابر بن عبد الله. وأعله الحافظ ابن كثير فيتفسيره (3197) بلأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي فقال: «وقد ضعف بعض الشيء» . قلت: والذيال هذا ترجمة أبي حاتم (1 / 2 / 45) ولم يذكر فيه جرماً ولا تعديلاً. والحماني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي قال الحافظ: «صدوق يخطأ» . وسيأتي كلام المصنف فيه ص 110. ن
(2)
كذا الأصل وهو سهو من المصنف رحمه الله تعالى، أراد أن يقول:«معاوية بن هشام» فسبقه القلم وقال: «ابن الأصبهاني
…
.» ثم لم ينتبه لذلك، فأعاده في الموضع الآخر ص 110 س 5، وجل من لا يسهو امن لا ينسى. أقول هذا لأن ابن الأصبهاني متفق عليه توثيقه، وهو من شيوخ البخاري في «الصحيح» ولم يجرحه أحد البتة، ولذلك قال الحافظ في ترجمته من «التقريب» :«ثقة ثبت» .
…
وأما معاوية بن هشام فهو الذي ينطبق عليه قول المصنف: «كثير الغلط» ، وهو أخذ من قول أحمد فيه:«كثير الخطأ» وقول الحافظ: «صدوق له أو هام» فهو علة هذا اللفظ، حفظه عنه ابن الأصبهاني. ن
حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد وعطاء (1) عن أيمن قال: لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم السارق إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار» . محمود أثبت جداً من أن ابن الاصبهاني. وأخرجه النسائي من طريق ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أيمن «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وقيمته يومئذ دينار» ومن طريق محمد بن يوسف عن سفيان عن الحكم عن مجاهد عن أيمن مثله. ادخل في هذه الرواية الحكم بين منصور ومجاهد وكذلك رواه الحسن وعلي ابنا صالح عند النسائي، وكذلك رواه أبو عوانة وشليبان عند البخاري في (التاريخ) ج 1 قسم 2 ص27 كلهم عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن أيمن. ورواه جرير عن منصور فلم يذكر الحكم اخرجه النسائي، وكذلك رواه شريك كما ياتي، والمحفوظ ذكر الحكم، والحكم مدلس ولم يصرح بالسماع، وايمن هو ايمن الحبشي كما صرح به في الرواية، ولفظ البخاري في (التاريخ) : قال «قال لنا موسى (بن اسماعيل) عن أبي عوانة - وتابعه شيبان - عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن الحبشي
…
» فاما ان يكون هو ايمن الحبشي والد عبد الواحد كما يدل عليه ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن داود: «سمعت عبد الواحد بن ايمن عن أبيه- قال: وكان عطاء ومجاهد قد رويا عن أبيه. ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين واما ان يكون آخر لا يعرف.
فإن قيل فقد قال النسائي: «أخبرنا على بن حجر قال أنبأنا شريك عن منصور عن عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن - قال أبو الوليد: رفعه: لا يقطع السارق الا في مجن أو حجفة قيمته دينار» .
(1) في النسخة «عن مجاهد عن عطاء» .
قلت: شريك على فضله سئ الحفظ كثير الغلط، ونسبه الدارقطني وعبد الحق الى التدليس، وأيمن بن أم ايمن ليس بجبشي بل هو كما نسبه غير واحد أيمن بي عبيد بن زيد
…
أبن عوف بن الخزرج. فهو عربي أنصاري.
فإن قيل: لعله قيل له: الحبشي، لأن أمه حبشية.
قلت: هذا بعيد، ومع ذلك أختلف في أم أيمن، نسبها غير واحد كابن عبد البر في (الاستيعاب) : «
…
بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان» . فعلى هذا هي عربية لا حبشية.
فإن قيل: لعل أمها كانت حبشية.
قلت: وما الموجب لهذا التعسف؟! وقد ذكر أهل المغازي وغيرهم أن أيمن أبن أم أيمن أستشهد يوم حنين، وشريك قد تقدم حاله، وقد تفرد بقوله:«أبن أم أيمن» ، ويجوز أن يكون زاد ذلك وهما، أو يكون قال:«أيمن بن أم أيمن» كما يقال: «أحمد أبن أم أحمد، وإن لم تكن كنية أمه أم أحمد، وفي محاورة جرت بين سلمان وحذيفة أن حذيفة قال: يا سلمان أبن أم سلمان. فقال سلمان: يا حذيفة أبن أم حذيفة.
فلهذا الخبر علتان: الأول: قد ليس الحكم. الثانية: أن أيمن تابعي لم يدرك الخلافاء الراشدين، أو غير معروف.
هذا وقد تفرد شريك بقوله: «قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم» وشريك قد تقدم حاله، والائمة الاثبات لا يذكرون ذلك ورواية الطحاوي عن فهد عن أبن الاصبهاني عن سفيان شاذة بل باطلة. وأبن الاصبهاني كثير الغلط جداً (1) .
فإن قيل: فقد قال الطحاوي: «ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك عن منصور عن عطاء عن أيمن عن أم أيمن قالت: قال
(1) قلت: بل هو ثقة حجة، والعلة من معاوية بن هشام كما بيناه ص 108 ن
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع السارق إلا في جحفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم» .
قلت: زاد ابن الحماني ضغتاً على أبالة، وهو متكلم فيه وإن الح ابن معين في توثيقه. وفي كتاب (العلل) لأبن أبي حاتم ج 1 ص 457: «سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح
…
قال قال أبي: هو مرسل، وارى انه والد عبد الواحد بن ايمن وليست له صحبة.
قلت لأبي: قد روى هذا الحديث يحيى الحماني..؟ قال أبي: هذا خطأ من وجهين:
احدهما: ان اصحاب شريك لم يقولوا: عن ام ايمن
…
والوجه الآخر: ان الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن قوله» .فأما المتن في رواية الجماعة ففيه جملتان:
فالأولى: في رواية سفيان: «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية علي بن صالح: «لم تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية جرير: «لا يقطع السارق الا في ثمن المجن» . وفي رواية الحسن بن صالح وأبي عوانة وشيبان: «يقطع السارق في ثمن المجن» . وسفيان إمام، وعلي ثقة، والباقون جماعة وقد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول:«ما رأيت أحداً إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح» .
والجملة الثانية: لم تقع في رواية جرير، ولفظة في رواية سفيان:«ثمن المجن يومئذ دينار» .وفي رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن صالح فلفظها عنده: «كان ثمن المجن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً أو عشرة دراهم» ، ولعل هذا هو الاصل، فاختصره الجماعة.
وعلى كل حال فهذا من قبيل ما تقدم من اعتبار الجنس، وقد ثبت التحقيق
بحديث ابن عمر فسقط الحدس.
أقول: قد علمت أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه لا قطع فيما دون قيمة ذاك المجن، ولا يصلح دليلاً يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم.
ثم قال الطحاوي: «وقد ذهب آخرون الى أنه لا يقطع الا في ربع دينار فصاعداً، واحتجوا على ذلك بما حدثنا يونس أخبرنا به أبن عيينة
…
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعداً. قيل لهم: ليس هذا حجة لأن عائشة إنما أخبرت عام قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» .
أقول: روى ابن شهاب الزهري وجماعة عن عمرة عن عائشة في القطع في ربع دينار واختلفوا، ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري، وهذا الذي ذكر الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الاعلى عن ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة، وهكذا رواه جماعة عن ابن عيينة منهم يحيى بن يحيى عند مسلم، وأحمد في (مسنده)، وإسحاق وقتية عند النسائي. وخالفهم جماعة عن ابن عيينة. قال ابن حجر في (الفتح) :«أورد الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقطع اليد _ الحديث» . ولفظ الشافعي كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 254: «أن رسوالله صلى الله عليه وسلم قال: القطع في ربع دينار» . ولفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي فيما بعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي فيما بعد من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة ولفظه: «قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: السارق إذا سرق ربع دينار قطع» .
ولنجب على قول الطحاوي: ليس هذا بحجة» ثم ننظر في الروايات.
فأما الجواب: فإن أراد أن الحديث بذلك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، فجوابه مبني على رأي أصحابه في اهدار مفهوم المخالفة ولا شأن لنا به الآن. وإن أراد ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم فقد أبطل. قوله:«يحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» . قلنا: وعلى هذا الاحتمال يكون حجة.
فإن قيل: قد خالفها غيرها.
قلنا: كلا، لم يخالفها أحد، فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غير حديث ابن عمرووهو موافق لهذا الحديث لأن صرف الدينار كان حينئذ أثني عشر درهماً. وقول الحنفية: كان صرفه عشرة دراهم مردود كما بين في محله، وهب أنه كان صرفه في وقت ما عشرة، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر. وهب أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم، فالفرق نصف درهم وليس في حديث ابن عمر نفي للقطع فيما دون ثلاثة دراهم. وهب أن عائشة قومت ذاك المجن درهمين ونصفاً فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم لأنه إذا قطع فيما قطع فيها.
وأما الروايات، فالواجب ان يبدأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم برواية غير الزهري عن عمره. والطحاوي عدل عن هذا، فأخذ احدى الروايتين عن ابن عيينة وهي المخالفة لرواية غيره، وانما بدأ بها الطحاوي ثم قال: «حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب قال: اخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يد السارق في ربع دينار
فصاعداً» (1) ثم قال: «يونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة» ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، وانهم اختلفوا، فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه، وحاول ترجيح الوقت، ثم عاد فذكر رواية الحميدي والحجاج بن منهال عن ابن عيينة ورواية ابراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها ثم قال:«فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا واختلف على غيره من عمرة على ما وصفنا ارتفع ذلك فلم تجب الحجة بشيء منه اذا كان بعضه بنفي بعضاً» كذا قال حسيبة الله! فلندعه ولنسلك الجادة.
اما الروايتان عن ابن عيينة فقد ترجح رواية الشافعي الحميدي ومن وافقها بأمور:
الأول: ان رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديماً وقد جاء عن يحيى القطان «قلت لأبن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدث اليوم وتزيد في اسناده أو تنقص منه. فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت» كأنه يريد سئم من مراجعة اصوله.
الوجه الثاني: ان من رواتها عن الشافعي والحميدي وكان لهما مزيد اختصاص به، وجاء عن الحميدي انه لزمه سبع عشرة سنة. وقال الأمام أحمد «الحميدي عندنا إمام» وقال أبو حاتم:«هو اثبت الناس في ابن عيينة وهو رئيس اصحابه وهو ثقة إمام» .
الوجه الثالث: ان الحميدي لما روى هذا في مسنده عن ابن عينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث فقال كما ذكره الطحاوي - وقرأته في نسخة من (مسند الحميدي) : «عن سفيان قال: حدثنا اربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه، عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى، وعبد ربة بن سعيد، والزهري
(1) قلت: هذا أخرجه مسلم أيضاً في «صحيحه» (5 / 112) من طرق أخرى قالوا: حدثنا ابن وهب به مرفوعاً بلفظ: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» .
أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع:«ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فهذا يدل ان ابن عيينة لما حدث الحميدي اعتنى بالحديث واحتفل له وذلك احرى ان يتحرى التحقيق في روايته ولعله راجع اصل كتابه.
الوجه الرابع: أن الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري اومعناه.
الوجه الخامس: أن الذين رووه عن عمرة غير الزهري، رواه اكثرهم بلفظ الحميدي أو معناه أيضاً.
الوجه السادس: أن في (الصحيحين) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ادنى من ثمن المجن ترس اوحجفة وكان كل واحد منهما ذا ثمن» (1) فقولها: «ترس أو حجفة» يدل أنها لم تعرفه، واذا لم تعرفه لا يمكنها ان تقومه.
وقولها: «وكان كل واحد منهما ذا ثمن» ظاهر في أنها لم تعرف ثمن ذاك المجن والا لبينته لتتم الفائدة المقصودة.
فإن قيل لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجن أن لا تعرف قيمته غيره مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان وكان ثمنه ثلاثين درهماً، وقطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي وتجحده. وهاتان الواقعتان ليس فيها ربع دينار فكيف تأخذ عائشة منهما أو من احدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار.
(1) قلت ورد حديث عائشة بلفظين آخرين، حقق المصنف أنهما شاذان. وذلك في آخر هذهالمسألة ص (138) . ن
فإن قيل لعلها اخذت ذلك من واقعة اخرى غير هذه الثلاث.
قلت: لا يعرف ذلك، ولو كان ذاك عندها لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عرفت قيمته فذلك اوفى بمقصودها من ذكر ما لم تعرف ولا عرفت قيمته.
فإن قيل قد قال النسائي: «اخبرنا قتيبة ثنا جعفر بن سليمان عن حفص بن حسان عن الزهري عن عروة عن عائشة، قطع النبي صلى الله عليه وسلم في ربع دينار»
قلت: جعفر فيه كلام، وحفص مجهول.
فإن قيل، فقد يعكس عليك الأمر فيقال، لو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اونحوه لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها.
قلت: هناك مسألتان:
الأولى: هل يقطع في ربع دينار؟
الثانية: هل يقطع فيما دون ذلك؟
فحديثها مرفوعاً «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» يدل علىالمسألة الأولى بمنطوقة، ولا يدل على الثانية الا بمفهوم المخالفة، فكأنها لما أرادت الإحتجاج على أنه لا يقطع في الشيء التافه، استضعفت ان تخصص القرآن بمفهوم المخالفة، فلم تحتج بهذا الحديث وعدلت الى ما رواه هشام عن أبيه عنها وكأنها كانت تجوز أن تكون قيمة ذاك المجن كانت أقل من ربع دينار، فأخبرت بما عندها، وهو أنه أقل ما يقطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتركت النظر لغيرها.
فإن قيل فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقطع اليد الا في ربع دينار فصاعداً» وهذا واضح الدلالة على
المسألة الثانية.
قلت: هذا اللفظ مرجوح، والمحفوظ «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اما في معناه كما يأتي بيانه ان شاء الله، وكأن من روى بلفظ: «لا تقطع
…
» انما روى بالمعنى فصرح بمقتضى مفهوم المخالفة اذ تقرر هذا فلوصح عنها انها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع اليد في ربع دينار» لوجب حمله على انها انما اخذته من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» بناء على ان من شأنه صلى الله عليه وسلم ان يوافق فعله قوله، فإذا قال، «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» علم منه انه كان اذا رفع اليه في سرقة ربع دينار قطع، فإن لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع فهو واقع بالقوة.
والحق ان ذاك اللفظ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع فير ربع دينار فصاعداً» لا يثبت عن عائشة، ولكن يمكن ان تكون تلك حال ابن عيينة سمع الحديث بلفظ «) تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) فرواه تارة كذلك وذلك حين اعتنى بالحديث عنه تحديثه للحميدي كما مر، وتارة بلفظ «القطع في ربع دينار» ، وتارة «السارق اذا سرق ربع دينار قطع» وتارة:«قالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع في ربع دينار فصاعداً» والثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى، اما الثاني والثالث فظاهر، واما الرابع فلما استقر في نفس ابن عيينة ان النبي صلى الله عليه وسلم اذا قال شيئاً فقد عمل به اوكأنه قد عمل به، وقد ذكر الطحاوي في (مشكل الآثار) ج 2 ص 270 حديثاً من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده: قال رجل يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك - ثلاث مرات. قال: ثم من؟ قال أبوك. ثم رواه من طريق ابن عيينة وفيه ذكر كلام الأم مرتين فقط ثم قال الطحاوي: «قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه شجاع لأن ابن عيينة كان يحدث من كتابه» وعَبَّرَ صاحب (لمعتصر) (ج 2 ص
286) (1) بعبارة منكرة. وفي (المعتصر) ج 2 ص205 في الكلام على حديث «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» أن ابن عيينة روى «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» ثم قال في (المعتصر) : «ففيه غلط من ابن عيينة لأنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أن يكون جعل مكان اليهود والنصارى المشركين إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميز بين ذلك» كذا في (المعتصر) وقوله: إذ لم يكن
…
.» عبارة بشعة لا أرى الطحاوي يتفوه بها، وإنما هي من تغيير المختصر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة كما فعل ابن عيينة كما فعل المختصر في المرضع السابق. والمقصود إنما هو ابن عيينة كان كثيراً ما يروي من حفظه ويروي بالمعنى. هذا وصنيع مسلم في (صحيحه) يقتضي أنه لا فرق في المعنى، فإنه صرح أولاً بلفظ ابن عيينة الأول: «قالت عائشة كان رسول الله
…
» ثم ساق الإسناد عن معمر وإبراهيم ابن سعد وسليمان بن كثير وقال: «كلهم الزهري بمثله» مع أن لفظ معمر وإبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة ولفظ سليمان الشافعي عن ابن عيينة.
أما البخاري فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة كأنه يقول: أختلفت الرواية عنه، وفي رواية غير الكفاية. والحق أن رواية الحميدي ومن وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة وأنه لو لم يعرف أرجح بصرف النظر عن رواية غيره فإنه يعرف بالنظر في رواية عيره فنقول مثلاً: يونس وابن عيينة من جانب، وابن عيينة وحده من جانب أيهما أرجح؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي. وفي (فتح الباري) : «وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس، فليس متفقاً عليه عندهم، بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري، وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة، وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مراراً،
(1) طبعة ثانية.
وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاثة وعشرون ومائة، ورجع الزهري فمات في التي بعدها» .
أقول: أما الحفظ فابن عيينة أحفظ، وأضبط بلا شك ولا سيما فيما رواه قديما إلا أنه كثير الرواية بالمعنى، ويونس دونه في الحفظ ولكن كتابه صحيح كما شهد له ابن المبارك وابن مهدي. وعلى كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا، ولكن الطحاوي لأمر ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة وعقبها برواية يونس، ونصب الخلاف بينهما. وقد علمت ان الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب وروايته الراجحة ويونس من جانب، فأي معى للموازنة بين الرجلين؟
أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة:
الأول: يونس بن يزيد. تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن مهب عنه، وبنحوه رواه البخاري في (الصحيح) عن ابن أبي أويس عن ابن وهب، وكذلك رواه عن ابن وهب الحارث بن مسكين عند النسائي، وابن السرح ووهب بن بيان وأحمد بن صالح عند أبي داود، ورواه مسلم عن حرملة والوليد بن شجاع عن ابن وهب وقالا في المتن:«لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة، والاولون أكثر وأثبت. وأخرج الامام أحمد (المسند) ج 6 ص 311 عن عتاب، وأخرج النسائي عن حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعاً:«تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وهذا أثبت مما تقدم لأن أبن المبارك أثبت من ابن وهب وكان يقول: كتاب يونس صحيح. وكان من عادة ابن المبارك تتبع أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه، ويشد لذلك أنه لم يذكر عروة، وبقية الرواية عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة، وحديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ، وفي (الفتح) :«يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة، وهذا يقع لهم كثيراً» .
أقول: إنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدث من حفظه أو من فرع خرجه من أصوله، فأما إذا حدث من أصله فإنما يكون على الوجه. فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه، ولقوة هذه الرواية ذكرها الامام أحمد عقب رواية ابن عيينة كأنه يشير الى أن رواية يونس هذه هي الصواب.
الثاني: إبراهيم بن سعد عند البخاري في (الصحيح) عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس. وكذلك ذكره الطحاوي «ثنا ربيع المؤذن ثنا أسد ثنا إبراهيم، وأخرجه مسلم في (الصحيح) عن أبي بكر بن أبي شيبة «ثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان ابن كثير وإبراهيم
…
» ولم يسق المتن. وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «القطع في ربع دينار فصاعداً» وهذا لفظ سليمان.
الثالث: سليمان بن كثير تقدمت روايته قريباً.
الرابع والخامس والسادس: قال البخاري في (الصحيح) عقب رواية إبراهيم «وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر» وفي (الفتح) : «أما متابعة عبد الرحمن.. فوصلها الذهلي في (الزهريات) عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحورواية إبراهيم
…
. وأما متابعة ابن أخي الزهري
…
فوصلها أبو عوانة في (صحيحه) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي شهاب عن عمه
…
. وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، ووصلها هو أيضاً وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب
…
. وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه. رواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه، أخرجه النسائي» .
أقول: رواية أحمد في (المسند) ج 6 ص 163، ورواية مسلم هي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن عبد الرزاق، ورواية النسائي هي عن إسحاق
عن عبد الرزاق، وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 254 من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق. ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه، وقد عدوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن أبي عروبة، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط وبعده، وهذا لا يضر هنا فإن قول سعيد «نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب» يقضي بأن سعيدا روى هذا قديماً، فإن معمراً ولد سنة ست أو سبع وتسعين، وسعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143، واشتد به قليلاً سنة 145 واستحكم سنة 148. هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك فأما المنقطعة فلا عبرة بها. فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي عن سويد بن نصر عنه، وسويد مات سنة 240 وعمره 91 سنة فقد أدركه الشيخان ولكنهما لم يخرجا عنه في (الصحيح) وإنما روى له النسائي والترمذي ووثقه النسائي ومسلمة ابن قاسم وقال ابن حبان:«كان متقناً» فالله أعلم. وقد روى النسائي عنه ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع في ربع دينار فصاعداً. وأثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك وابن عيينة عنه عن عمرة عن عائشة: «ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فإن لم يكن وهو في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر. وقد قال الامام أحمد: «حديث عبد الرزاق عن معمر أحب الي من حديث هؤلاء البصريين (عن معمر) ، كان (معمر) ، يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن (حيث سمع منه عبد الرزاق) ، وكان يحدثهم حفظاً بالبصرة» . وسعيد بن أبي عروبة أقدم سماعاً، فإن لم يكن الوهم من سويد فكأن معمراً حدث بالحديث مرة من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشك في الرفع فقصر به كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد. وقد حدث به معمر قبل ذلك حيث سمع من ابن أبي عروبة فرفعه وحدث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه، والإمام أحمد إنما سمع عن
عبد الرزاق من أصوله كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من (التهذيب) .
السابع: زمعة بن صالح. في (مسند أبي داود الطيالسي) ص 220 «حدثنا زمعة عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» .
فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي والشافعي وغيرهما عن ابن عيينة الزهري، وإنما هناك اختلاف على ابن عيينة ومعمر، وأرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين. وهب أن الاختلاف عنهما ضارُّ فبروايتهما فقط، ويثبت الحديث برواية الباقين وليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ مع اتحاد في المعنى، فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمى اضطراباً، فضلاً عن أن يكون اضطراباً مسقطاً كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة، مع تشبثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله!
وأما بقية الرواة عن عمرة فجماعة:
الأول: ابن ابن أخيها محمد بن عبد الرحمن عبد الله بن الرحمن بن سعدة بن زرارة الأنصاري. قال البخاري في (الصحيح) : حدثنا عمران بن ميسرة ثنا عبد الوارث حدثنا الحسين (المعلم) عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثه أن عائشة حدثتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقطع اليد في ربع دينار» .
ورواه عن عبد الوارث أيضاً أبنه عبد الصمد وصرح بسماع يحيى بن أبي كثير، ورواه عن يحيى أيضاً حرب بن شداد وهمام بن يحيى كما في (الفتح) عن الإسماعيلي، ورواية حرب في (مسند أحمد) ج 6 ص 252 وكذلك رواه هقل بن زياد عن يحيى كما في (الفتح) عن (مسند أبي يعلى) . وقال النسائي «أنا حميد بن مسعدة ثنا عبد الوارث ثنا حسين يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري ثن ذكر كلمة معناها عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» . لم يتقن حميد بدليل قوله: فذكر كلمة معناها» والصواب «تقطع اليد في ربع دينار» كما مر.
وروى النسائي من طريق إبراهيم بن عبد الملك أبي إسماعيل القناد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عمرة عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع اليد في ربع دينار. والقناد ليس بعمدة، وذكر الساجي أن ابن معين ضعفه. وقال العقيلي:«يهم في الحديث» وقال ابن حبان في (الثقات)«يخطئ» فقد وهم في السند بقوله: «بن ثوبان» ووهم في المتن كما رأيت.
الثاني: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه عنه جماعة، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في (صحيحه) من وجهين، وعند الطحاوي من وجهين آخرين، ومنهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي، ومنهم ابن إسحاق عند الطحاوي والبيهقي، وقال في المتن المرفوع «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» وفي رواية البيهقي ج 8 ص 255 من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر «أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلي عمرة بنت عبد الرحمن أي بني إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقطع في دون ربع دينار» وفي (مسند أحمد) ج 6 ص 80 و (سنن البيهقي) ج 8 ص 255 من طريق محمد بن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني قال: «قدمت المدينة فلقيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل على المدينة فقال: أتيت بسارق (زاد البيهقي: من أهل بلادكم حوراني قد سرقة سرقة يسيرة. قال) فأرسلت إلي خالتي عمرة بنت عبد الرحمن أن لا تعجل
…
قال: فأتتني فأخبرتني أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقطعوا في ربع الدينار ولاتقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» .
الأثبت عن عمرة لفظ (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) وقد دل حديث عروة كما تقدم على أن هذا هو اللفظ الذي كان عند عائشة، فما وقع في هذه الرواية (تقطع اليد إلا
…
) ونحوه من الرواية بالمعنى. والمقتضى لذلك هنا والله أعلم أن الحديث يدل على حكمين:
الأول: اثبات القطع في ربع دينار.
الثاني: نفي القطع فيما دون ذلك.
فإذا كان الاول هو الاهم فحقه أن يقال مثلا ً: (تقطع اليد في ربع دينار) . وإذا كان الثاني هو الاهم فحقه أن يقال مثلاً: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) . وإذا كانا سواء جمع بين اللفظين فلما كان الاهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني وقع التعبير لما يوافقه. والاشبه أن التصرف من أبي بكر، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني.
فثبت في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني فعبر بذلك، ثم كأنه أستشعر حيث أخبر النسائي أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء فجمع بين اللفظين، وأنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الاول، والمقام يقتضي أهمية الثاني فتدبر.
الثالث: سليمان بن يسار. أخرجه مسلم في (الصحيح) من طريق ابن ووهب مخرمة ابن بكير بن الاشج «عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي عن يونس عن ابن وهب مثله إلا أنه قال «يد السارق»
قال الطحاوي: أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم عن خاله موسى ابن أبي سلمة قال سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئاً؟ فقال: لا» .
اقول: قال ابوداود: «لم يسمع من أبيه الا حديثاً واحداً وهو حديث الوتر» فقد سمع من أبيه في الجملة، فان كان ابوه اذن له ان يروي ما في كتابه ثبت الإتصال والا فهي وجادة، فان ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر، ويدل على صحة الكتاب ان مالكاً كان يعتد به، قال أحمد:«اخذ مالك كتاب مخرمة فكل شيء يقول: بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان» . وربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج. وقد قال ابوحاتم: «سالت اسماعيل بن أبي اويس قلت: هذا هو الذي يقول مالك: حدثني الثقة - من هو؟
قال: مخرمة بن بكير» .
واخرج النسائي من طريق ابن اسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع اليد الا في ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار» . ومن طريق مخرمة عن أبيه «سمعت عثمان بن الوليد الأخنسي يقول، سمعت عروة بن الزبير يقول: كانت عائشة تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: لا تقطع اليد الا في المجن اوثمنه، وزعم ان عروة قال: المجن اربعة دراهم. وسمعت سليمان بن يسار يزعم انه سمع عمرة تقول: سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه» .
أقول: ابن إسحاق في حفظه شيء ويدلس، وكأنه اومن فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه فخلط الحديثين، والصواب حديث مخرمة، فذكر المجن إنما هو من رواية بكير عن عثمان بن الوليد عن عروة، ورواية سليمان لا ذكر فيها للمجن، وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في (الثقات) وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال لما عرف من قاعدة ابن حبان لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه فإنها تقويه، فقد قال أحمد بن صالح:«إذا رأيت بكير بن عبد الله (بن الأشج) روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه» . وهذه العبارة تحتمل وجهين:
الأول: أن يكون المراد بقوله: «فلا تسأل عنه» . أي: عن ذاك المروي. أي: لا تلتمس لبيكير متابعاً فإنه أي بكيراً الثقة الذي لا شك فيه ولا يحتاج الى متابع.
الوجه الثاني: أن يكون المراد فلا تسأل عن ذاك الرجل فأنه الثقة. يعني أن بكيراً لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه. والله أعلم.
وعلى كل حال فالصواب من حديث عروة ما في (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى
من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن» .
الرابع: أبو الرجال وهو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان. قال النسائي: «أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع يد السارق في ثمن المجن، وثمن المجن ربع دينار» . ذكر ابن حجر هذه الرواية في (الفتح) بقوله: «أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة» كذا وقع في النسخة والصواب إسقاط كلمة «عن» الواقعة قبل «محمد» .
هذا وأبوالرجال ثقة عندهم وعمرة أمه، وأبينه عبد الرحمن وثقة أحمد أبن معين وغيرهما، لكن لينة أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود.
وقال ابن حبان في (الثقات) : «ربما أخطأ» ، وأراه خلط حديثين فإنه لا يعرف عن عمرة ذكر المجن. وقد دل حديث (الصحيحين) عن عروة أن عائشة لم تكن تحق ثمن المجن كما تقدم شرحه.
الخامس والسادس والسابع. قال الطحاوي: «حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا عبد الله ابن صالح. قال: ثنى يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة عن العلاء بن الأسود بن جارية ويقال: الأسود ابن العلاء بن جارية) وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خميس أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها فقالت: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع إلا في ربع دينار» .
قال الطحاوي: «أما أبوسلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعاً، ولا نعلمه لقيه أصلاً» .
أقول: ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جزء، وعبد الله توفى سنة 86 على الراجح. وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل بعدها
بسنتين فيشبه أن يكون مولد جعفر نحوسنة 75. وقد أختلف في وفاة أبي سلمة وقيل سنة 94 وقيل سنة 104 فاللقاء ممكن. والله أعلم.
وكان في المدينة ربيعة الرأي الفقيه وكان قوله: القطع فيما يبلغ درهماً فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ «لا تقطع اليد
…
» أو نحوه ذلك كما وقع في رواية سليمان بن يسار وغيرها.
الثامن: أبوالنضر فيما رواه ابن لهيعة «ثنا أبوالنضر عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه. قالت عمرة بنت عبد الرحمن: فقلت لعائشة: ما ثمن المجن يومئذ؟ قالت: ربع دينار» . أخرجه البيهقي ج 8 ص 256 وابن لهيعة ضعيف.
التاسع: يحيى بن يخيى الغساني فيما أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) ص 3 وص 89 عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري وعن خالد بن أبي روح الدمشقي كل منهما عن إبراهيم بن هاشم بن يحيى بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن عمرة عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القطع في ربع دينار فصاعداً» . قال الطبراني: «لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده» ، زاد في الموضع الثاني «وهم ثقات» . وإبراهيم بن هاشم ذكره أبن حبان في (الثقات) وأخرج له في (صحيحه) ، لكن طعن فيه أبو حاتم وذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة. والله أعلم.
العاشر: يحيى بن سعيد الانصاري. وهو من أجل من كثير من الذين تقدموا، وإنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه الى الخطأ كما يأتي. قال النسائي:«أخبرنا الحسن بن محمد (بن الصباح الزعفراني) قال: حدثنا عبد الوهاب (بن عطاء) عن سعيد (بن أبي عروبة) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» .أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل قال: أنبأنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا أبان قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن
عمرة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وقال الطحاوي: «حدثنا محمد بن خزيمة ثنا مسلم بن إبراهيم
…
» فساقه مثله.
الحسن ثقة من رجال البخاري، وعبد الوهاب من رجال مسلم، وثقة جماعة مطلقاً ولينة آخرون، وقدموه في روايته عن سعيد، قال الأمام أحمد:«كان عالماً بسعيد» . وسأل ابوداود عنه وعن السهمي في حديث ابن أبي عروبة؟ فقال: عبد الوهاب اقدم. فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط (يعني اختلاط سعيد) فقال: من قال هذا؟ ! سمعت أحمد يقول: عبد الوهاب اقدم» . وقال ابن سعد: «لزم سعيد ابن أبي عروبة، وعرف بصحبته، وكتب كتبه
…
» . وقال البخاري: «يكتب حديثه» قيل له: يحتج به؟ قال: «ارجوا إلا انه كان يدلس عن ثور واقوام احاديث مناكير» . وسعيد ثقة جليل إلا انه اختلط بأخرة، وسماع عبد الوهاب منه قديم.
وأما السند الثاني فشيخ النسائي لم يوثق ولكن قد تابعه محمد بن خزيمة كما رأيت، ومسلم ثقة متفق عليه. وأبان من رجال مسلم. واخرج له البخاري في (الصحيح) بلفظ: «قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان
…
» وبالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتماً. لكن اعله بعضهم بأن مالكاً وابن عيينة رويا عن يحيى عن عمرة: قالت عائشة: «ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار» وبنحوه رواه جماعة عن يحيى، وروى أخوه عبد ربه وعبد الله بن أبي بكر ورزيق بن حكيم عن عمرة: قالت عائشة: «القطع في ربع دينار» . بل حاول الطحاوي إعلال من أصله، وأجاب البيهقي وغيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة فتخبر به تارة وتستفتى فتفتي بمضمونه أخرى. وفي (الموطأ) عن عبد الله ابن أبي بكر عن عمرة قالت: «خرجت عائشة
…
إلى مكة ومعها مولاتان لها
…
فسئل العبد عن ذلك فأعترف، فأمرت به عائشة
…
فقطعت يده وقالت عائشة: القطع في ربع دينار فصاعداً ويؤيد الجمع أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . ولفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذ: «القطع في
ربع دينار فصاعداً» وزاد يحيى قبله: «ما طال علي ولا نسيت» .
والمدار في هذا الباب على غلبة الظن، ولا ريب أن من تدبر الروايات غلب على ظنه غلبة واضحة صحة كل من الخبرين وأنه لا تعارض بينهما، وعلم أن الحمل على الخطأ بعيد جداً. هذا وقد قال أبن التركماني:«قال الطحاوي: حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي ثنا مؤمل بن إسماعيل الرملي (كذا) عن حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب: وحدث يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه، فقال له عبد الرحمن: أنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه» . وبمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد (1) لكن يظهر أن له أصلاً، فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد عن يحيى عن عمرة عن عائشة مرفوعاً باللفظ الذي رواه الإثبات الذيثن رفعوا الحديث «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وروى مالك وابن عيينة عن يحيى عن عمرة ان عائشة قالت: ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار. وقوله:«القطع في ربع دينار» هو اللفظ الذي رواه الواقفون فهذا يدل انه كان عند يحيى كلا الخبرين، فكان يحدث بالمرفوع فأنكر عليه بعض من لم يسمعه وسمع الموقوف، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صوناً لنفسه عن ان يتهمه من لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ.
هذا، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق (2) ثم قال: «إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيت ولا طال علي، القطع
(1) قلت: يعني لأن مؤمل بن إسماعيل سيء الحفظ كما سبق في ترجمته من الكتاب برقم (252) وهو بصري نزيل مكة، فالظاهر أن الذي عند الطحاوي (الرملي) صوابه:(الملكي) . والله أعلم. ن
(2)
بالراء ثم الزاي مصغراً، ويقال فيه بتقديم الزاي، وهكذا وقع عند الطحاوي وقد اخرجه (2 / 94) من طريق الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة، وقد مضى بالكتاب قريباً ص 113. ن
في ربع دينار» . اعترف به الطحاوي بقوله: «قد يجوز أن يكون معناها في ذلك ما طال علي ولا نسيت ما قطع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مما كانت قيمته عندها ربع دينار» .
أقول: قد مر دفع الاحتمال وبيان أنه لا يعرف فيما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ما هو قليل إلا المجن، وقد دل حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المجن ولا قيمته. وبهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق تدل أيضاً على الرفع، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي، ولا يعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ثم جعجع الطحاوي بما علم رده مما تقدم ثم قال: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، وأختلف على غيره عن عمرة كما وصفنا، أرتفع ذلك كله فلم تجب الحجة بشيء منه إذا كان بعضه ينقض بعضاً» .
كذا قال، وقد أقمنا الحجة الواضحة على انه لا اضطراب ولا تناقض (1) ثم
(1) قلت، ومما يسهل على القارئ المنصف تبين سقوط كلام الطحاوي أنه لو سلمنا جدلاً بصحة ما ادعاه من الاضطراب في الحديث فهي محصورة في الطرق التي ساقها هو إلى الزهري، ومن تابعه في روايته عن عمرة، ولكن الطحاوي لم يستوعب الطرق كلها أو جلها إليه وإليها. كما فعل المصنف جزاه الله خيراً فقد ذكر متابعة عشرة من الثقاة للزهري عن عمرة عن عائشة. وكلهم أتفقوا على رفعه، إلا يحيى بن سعيد في إحدى الروايات عنه، وهي في حقيقتها لا تخالف الروايات الأخرى المرفوعة، وهب أن الرواية عند يحيى مضطرية أيضاً، ففي الروايات التسع ما يكفي ويشفي، وكلها متفقة على الرفع، وبأقل من ذلك يثبت الرفع كما لا يخفى على المصنف، وهي وإن اختلفت في ضبط الكتن، هل هو: «تقطع اليد
…
» أو «لا تقطع
…
» والمؤلف رجح الأول، وقد يمكن ترجيح الآخر بقاعدة «زيادة الثقة مقبولة» ، وسواء كان هذا أو ذاك، فالحجة في الحديث قائمة على أن اليد تقطع في ربع دينار، وذلك ما لا يقوله الطحاوي تبعاً لمذهبه. والله المستعان. ن.
قال: «ورجعنا إلى أن الله عز وجل قال في كتابه: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» فأجمعوا أن الله عز وجل لم يعن بذلك كل سارق وإنما عنى به خاصة
…
فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه، وقد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم» .
أقول: عليه في هذا أمور:
الأول: دعواه الإجماع غير مقبولة وفي (الفتح) في تعداد المذاهب: «الأول يقطع في كل قليل وكثير تافهاً كان أو غير تافه، نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري، وبه قال أبو عبد الرحمن أبن بنت الشافعي
…
. الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئاً تافهاً لحديث عروة الماضي. لم يكن القطع في شيء من التافه، ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع أبن الزبير في نعلين. أخرجها أبن أبي شيبة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه في مد أو مدين. الرابع: تقطع في درهم فصاعداً وهو قول عثمان البتي
…
من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة
…
» .
وأقول لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقة على إبقاء الآية على عمومها، وإنما المدار على تحقق أسم «السارق» فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحق عليه أسم «السارق» وهذا لازم للمذهب الأول، إذ يمتنع أن يقول عالم أن من أخذ حبه بر مثلاً حق عليه أسم «السارق» . وأما المذهب الثالث فلعل قائله نحا هذا المنحي أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحق على آخذه أسم «السارق» لا يتبين دخوله في الآية، والقطع إنما هو على من يتبين دخوله فيها. وأما المذهب الرابع فالبتي وربيعة الرأي كانا ممن يتفقه ويتعانا الرأي والنظر، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبين بها الدخول في الآية معنى غير منضبط فرأيا ضبطها بالدراهم.
الأمر الثاني: هب أنه سلم للطحاوي ما ادعاه من الإجماع، فقد علمنا أن ظاهر القرآن وجوب القطع على كل سارق، وظاهر القرآن حجة قطعاً، ويوافقه حديث (الصحيحين) :«لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» ، وهذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة، فإن لا يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع فإن كان هناك إجماع على خروج شيء، فأما ما أختلف فيه فقيل بخروجه وقيل ببقائه فهو باق على ظاهر القرآن، لأن القائلين بخروجه بعض الأمة، وليس في قول بعض الأمة حجة يترك بها ظاهر القرآن.
فإن قيل: فقد أختلف النظار في العام الذي قد خص، فقال بعضهم: إنه لا يبقى حجة في الباقي.
قلت: هذا قول مخالف لإجماع السلف، وقد رغب عنه الحنفية أنفسهم، وتمام الكلام في رده في أصول الفقه.
الأمر الثالث: هب أنه قويت دعوى الإجماع، وقوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة، ففي السنة الثابتة ما يكفي، فقد صح حديث ابن عمر، واندفع ما عورض به، وصح حديث عائشة، وبطلت دعوى اضطرابية، فثبت القطع في ثلاثة دراهم وفي ربع دينار، وبقي النظر فيما هو أقل من ذلك، وليس هذا موضع البحث فيه.
ثم ذكر الطحاوي خبر المسعودي عن القاسم عن أبن مسعود: «لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم» ورواه بعضهم عن المسعودي عن القاسم عن أبيه والمسعودي أختلط. ثم هو منقطع لأن القاسم لم يدرك أبن مسعود، وكذلك أبوه عبد الرحمن نفى جماعة سماعة من ابن مسعود، وأثبت بعضهم سماعة منه لأحرف معدودة ذكرها أبن حجر في (طبقات المدلسين) ص 13، ثم قال: «فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه (أبن مسعود) أربعة أحدها، موقوف وحديثه
عنه كثير
…
معظمها بالعنعنة هذا هو التدليس» .
أقول: وليس هذا الخبر من تلك الأربعة.
وروى الثوري عن «حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لا تقطع اليد إلا في ترس أو حجفة. قلت لإبراهيم: كم قيمته؟ قال: دينار» .والثوري يدلس، وحماد سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت:«وكان حماد يقول: قال إبراهيم: ط فقلت والله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ» . وقد قال حماد نفسه لما قيل له: قد سمعت من إبراهيم؟ : «إن العهد قد طال بإبراهيم» . وإبراهيم عن عبد الله منقطع، وما روي عنه (1) أنه قال: إذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. لا يدفع الانقطاع لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه وليس بثقة، (2) واحتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته،
(1) قلت: تصدير المصنف رحمه الله لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر إصطلاحاً - بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6 / 190) : أخبرنا عمروا بن الهيثم أبوقطن قال: حدثنا شعبة عن الأعمش قال: قلت: لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان» . وهذا إسناد صحيح رجال ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق 131 / 2) : حدثنا أحمد بن سيبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنه قال:«فحدثني وحده» .
أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم «من غير واحد من الصحابة» يتبين له ضعف بعض الإحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: قال ابن مسعود، فأن قوله:«من أصحابه» يبطل قول المصنف «أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبد الله» ، كما هو ظاهر. وعذره في ذلك، أنه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب» ، ولم يقع فيه قوله:«من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال. ن.
(2)
قلت: هذا فيه بعد. فأننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين من ليس بثقة، ثم أن عبارته المتقدمة منا آنفاً صريحة في أنه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا الذي كان حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه. فكون الأكثر منهم - لا الواحد - غير ثقة بعيد جداً. لا سيما وإبراهيم إنما يروي كذلك مشيراً إلى صحة الرواية عن ابن مسعود. والله أعلم.
واحتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ «قال عبد الله» ، ثم يحكى عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف فلا يتنبه من بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ «قال عبد الله» ولا سيما إذا كان فيمن بعده من هو سيئ الحفظ كحماد. وفي (معرفة علوم الحديث) للحاكم ص108 من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدومن مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فأشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي
…
وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة، وسهم بن منجاب، وخزامة الطائي، وربنا دلس عنهم» .
وقد ذكر الأستاذ ص 56 قول يحيى الحماني: «سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول القرآن مخلوق» فقال الأستاذ: «قول الراوي سمعت الثقة يعد كرواية عن مجهول، وكذا الثقت» . (1) وما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: «لا تقطع اليد في أقل من ثمن الحجفة، وكان ثمنها عشرة دراهم» قول إبراهيم، وقد يكون إنما أخذ من عمروأبن شعيب أو مما روي عن مجاهد وعطاء وقد تقدم ما فيه.
وقد روي الثوري أيضاً عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن أبن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه خمسة دراهم. قال أبن التركماني: «فيه ثلاثة علل، الثوري مدلس وقد عنعن، وابن أبي عزة ضعفه القطان وذكره الذهبي في كتابه في (الضعفاء) ، والشعبي عن أبن مسعود منقطع» .
أقول: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فإنما حكى ذلك العقيلي، وهو لم يدرك
(1) قلت: لنا على هذا العطف نظر سبق بيانه في التعليق على الصفحة (274)
القطان، (1) ومع ذلك فهو جرح غير مفسر، وابن أبي عزة وثقه أحمد وابن معين وابن سعد، فأما الذهبي فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في (الميزان)(2) كل من تكلم
(1) -كذا قال المصنف رحمه الله، وعمدته في ذلك قول الحافظ في «التهذيب» : وذكره المقيلي في «الضعفاء» وقال: ضعف حديثه يحيى بن سعيد القطان» : فأن ظاهره أن المقيلي حكى التضعيف لم يروه بسنده كما هو النالب عليه وعلى أئمة الجرح والتعديل، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد قال العقيلي في كتابه المذكور:«حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي قال: سألت يحيى عن حديث عيسى بن أبي عزة (قلت: فذكره وقال:» فضعف الحديث» .
(2)
-قلت «الميزان» غير «الضعفاء» ، وهذا هو الذي عزى اليه ابن التركمانى تضعيف القطان. وجواب المصنف يشعر بأنه هو «الميزان» نفسه، وليس كذلك، فانهما كتابان، قاعدته في الأول منهما كما ذكره المصنف، وقاعدته في الآخر كما نص عليه هو في مقدمته:«فهذا ديوان أسماء الضعفاء والمتروكين، وخلق من المجهولين، وأناس ثقات فيهم لين» . ونحن الآن في صدد تحقيقه، يسر الله إتمامه، وطريقته فيه، إما أن يذكر رأيه في المترجم، كأن يقول فيه «ضعيف» أو «متروك» أو «متهم» ونحوه، كما هو أسلوب الحافظ ابن حجر في «التقريب» . وأما أن ينقل الجرح عن بعض الأئمة،:ان يقول: «ضعفه الدارقطني» أو «قال النسائي: ليس بقوي» . أو قال أبو حاتم: «لا يحتج به» وهكذا، فكل من يورده فيه ضعيف إلا أفراداً قليلين يصرح بتوثيقهم، أما تمييزاً وإما لدفع التهمة عنهم، فمن الأول قوله:«إبراهيم بن نافع الحلاب البصري قال أبو حاتم: كان يكذب. أما إبراهيم بن نافع عن عطاء المالكي فثقة» . ومن آخر قوله: «أحمد بن حسن بن خيرون، ثقة حافظ تكلم فيه ابن طاهر بعلاك بارد، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير» ، وقد لاحظنا أنه كثيراً ما يختلف اجتهاده في هذا الكتاب، عنه في «الميزان» ومن الأمثلة القريبة على ذلك، عيسى بن أبي عزة هذا، فإنه حكى فيه تضعيف القطان له، ثم توثق جماعة من الأئمة له، ثم ختم ذلك برأيه فيه فقال:«حديثه صالح» . وهذا معناه أنه مقبول عنده، ومع ذلك أورده في ديوانه «الضعفاء» وضعفه بقوله
«قال القطان: حديثه ضعيف» . والظاهر أن المصنف لم يراجع «الميزان» حين كتب الجواب، وإلا لكان يجد فيه رداً أقوى في الذهبي:«حديثه صالح» ، وذلك بين لا يخفى. والعصمة لله وحده. ن
فيه ولو كان الكلام يسيراً لا يقدح. وأما الثالثة فنعم، ولكن الشعبي جيد المرسل، قال العجلي:«لا يكاد الشعبييرسل إلا صحيحاً» . وقال الآجري عن أبي داود: «مرسل الشعبي أحب إلى من مرسل النخعي» .
والظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء فهو في ذكر القطع في المجن مطلقاً وأما التقويم فممن بعده أخذاً من حديث أنس عن أبي بكر وسيأتي، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر.
وروى ابن عيينة عن حميد الطويل قال: «سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع؟ فقال: حضرت أبا بكر قطع سارقاً في شيء ما يسوى ثلاثة دراهم. أو: ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» وقد رواه أبو حاتم الرازي عن الانصاري عن حميد وفيه: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» بدون شك. أخرجه البيهقي ولا يلزم من قول أنس: «ما يسرني
…
» أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم، فأن من لا يحتاج إلى سلعة لا يسره أنها له بقيمة مثلها، وإنما يسره أن تكون بأقل من قيمتها ليبيعها فيربح فيها أو يدخرها لوقت الحاجة.
وقد روى قتادة عن أنس قصة أخرى، وهي أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم. رواه النسائي والبيهقي في (السنن) ج 8 ص 259 من طريق الثوري عن شعبة عن قتادة. ورواه النسائي أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي قال: «حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنساً يقول: سرق رجل في عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع. ورواه أبوهلال محمد بن سليم عن قتادة فقال: «عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
…
.» . وأبوهلال ليس بعمدة ولا سيما في قتادة. ورواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال، وسئل هشام مرة فقال:«هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو عن أبي بكر» . ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس أن أبا بكر قطع في
مجن قيمته خمسة دراهم، أو أربعة دراهم، شك سعيد، وصوب النسائي وغيره رواية شعبة وذلك واضح. ومن أحب تتبع هذه الروايات فليراجع (سنن النسائي) و (سنن البيهقي) .
وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن شريك عن عطية بن مقسم عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أُتي عمر بسارق فأمر بقطعه، فقال عثمان: إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم قال: فأمر به عمر فقومت ثمانية دراهم فلم يقطعه. القاسم لم يدرك عمر ولا كاد، وعطية مجهول الحال، وشريك سئ الحفظ ونسبه بعضهم الى التدليس كما مضى. ورواه الثوري عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي عن القاسم قال:«أُتي عمر بن الخطاب بسارق قد سرق ثوباً فقال لعثمان: قومه، فقومه ثمانية دراهم فلم يقطعه» . ويؤخذ من كلام البخاري وأبي حاتم أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك، فإن صح هذا فهو مجهول الحال، وإلا فكلاهما مجهول. ولو صحت القصة، فلفظ الثوري أقرب، ويكون ترك القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت. وسيأتي عن عثمان أنه قطع في أترجة قومت ثلاثة دراهم ومر عنه أنه قطع في فخارة خسيسة. فكيف يقول ما وقع فيه لفظ شريك؟!
وفي (نصب الراية) ج 3 ص363 أن في (مصنف عبد الرزاق) : «عن معمر عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال: «كم أخذ من ثمر شيئاً فليس عليه قطع حتى يأو ي الجرين، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربع دينار قطع» . عطاء الخراساني لم يدرك عمر، لكن هذا أقوى من رواية عطية. وفي (الفتح) : أخرجه «ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: إذا أخذ السارق ربع دينار قطع» . وفيه أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور عن مجاهد عن ابن المسيب عن عمرة: لا تقطع الخمس إلا في خمس» . ابن المسيب عن عمر منقطع، إلا أنه جيد، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) من طريق قتادة عن ابن المسيب، وقتادة مشهور بالتدليس.
وروى مالك في (الموطأ) ، وابن عيينة كما في (مصنف ابن أبي شيبة) عن عبد الله
بن أبي بكر عن عمرة أن سارقاً في زمن عثمان سرق أترجة فأمر به عثمان أن تقوم، فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار فقطع عثمان يده» . وعمرة يقال أنها ماتت سنة 98 وعمرها سبع وسبعون سنة. فعلى هذا يكون سنها لمقتل عثمان فوع أربع عشرة سنة. وقد جاء عن عثمان ما هو أشد من هذا كما تقدم.
وروى حاتم بن إسماعيل كما في (مصنف ابن أبي شيبة)، وسليمان بن هلال كما في (سنن البيهقي) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار. وقال الشافعي في (الأم) ج 6 ص 116:«أخبرنا أصحاب جعفر عن جعفر عن أبيه أن علياً رضي الله عنه قال: «القطع في ربع دينار» . محمد بن علي لم يدرك علياً، لكن لم يعارض هذا عن علي ما هو أقوى منه، وإنما ذكر البيهقي (السنن) ج 8 ص 261 أثراً عن علي فيه:«لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم» ثم قال: «هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء» (1) . فقال ابن التركماني: «قد جاء من وجه آخر ضعيف إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك. فروى عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار عن على قال: لا تقطع اليد في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فعدل البيهقي عن هذه الرواية الى تلك لزيادة التشنيع» .
…
أقول: وهذه ليست مما يفرح به، الحسن بن عمارة طائح، قال شعبة: أفادني الحسن ابن عمارة سبعين حديثاً عن الحكم فلم يكن لها أصل» . ونص شعبة على أمثلة
(1) قلت: بل هو ضعيف جداً فإن من رواته جويبراً وهو ابن سعيد البلخي أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: «متروك الحديث» . وقال الحافظ في «التقريب» : «ضعيف جداً» .
قلت: ومع هذا فهو خير من الحسن بن عمارة الآتية روايته، فإنه لم ينسب إلى الكذب أو وضع، بخلاف ابن عمارة، فإنه أشد ضعفاً منه، قد نسبوه إلى الوضع كما يأتي في الكتاب، وقال الإمام أحمد: أحاديثه موضوعة. فهل خفي هذا على ابن التركماني حتى زعم أن روايته أجود من رواية جوبير، أم هو التعصب المذهب؟!
منها، سئل الحكم عنها فلم يعرفها. قال شعبة:«قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي - سبعة أحاديث، فسألت الحكم عنها فقال: نا سمعت منها شيئاً» وقال ابن المديني في الحسن بن عمارة: «كان يضع» .
المسلك الثالث: لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر. كان الرجل مشهوراً بطول الباع وسعة الاطلاع والوهد والعبادة، (1) وكان يقرر أن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت. وكان مع ذلك غاية في الجمود على المذهب والتفاني في الدفاع عنه. وفي مسلكه هذا ما يظهر منه علوطبقته في ذلك؛ ذكر أن
(1) هو العلامة الشيخ محمد أنور الكشميرى، وكلامه الذي أشار إليه المؤلف مذكور في كتابه «فيض البارى على صحيح البخاري» (4/446-447) ، وهو بحق كما وصفه المصنف في سعة العلم، ولكنه مع الأسف لم يستفد كثيراً من علمه، صده عن ذلك التقليد المتوارث مع أنه من أحق العلماء المتأخرين بالخلاص منه، والاستقلال في النظر والاختيار، فانظر إليه مثلا في موقفه من مسألة رفع اليدين في الركوع التي لا يمكن للباحث في أدلتها إلا أن يقول بمشروعيتها واستحبابها، ولو كان حنيفاً غير متعصب مثل العلامة اللكنوي رحمه الله فإنه لم يسعه إلا أن يقول بمشروعيتها واستجابها في بحث له جيد في «التعليق الممجد» ، وأما الشيخ الكشميرى فلم يستطع التصريح بالاستحبات، على الرغم من أن التحقيق الذي وصل إليه يلزمه ذلك، - فهو يقول في الكتاب المذكور (2/257-259) : فقد ثبت الأمران عندي (الرافع والترك) ثبوتاً لا مرد له، ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز» . ثم نقل عبارة لأبي بكر الجصاص تؤيد ما ذكره من الجواز، ثم قال:«فاسترحت حيث تخلصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع» ! كذا قال، وفي عبارة من الركعة ما لا يخفى، وإذا قال بجواز الرفع وأراد الجواز الذي يستوى فيه الفعل والترك، فلم يأت بشيء جديد بإثباته الرفع، لأن القائلين به لايقولون بوجوبه، وإن أراد به جوازاً مع استحباب فهلا صرح به؟ لأنه لم يجد في مذهبه من سبقه إلى ذلك! ثم إذا صح ظننا به، فهل كان يرفع يديه كسباً للثواب، بل وبياناً للجواز ولو بالمعنى الأول، علم ذلك عند أصحابه، وظني أنه لم يفعل، لغلبه العصبية المذهبية على من حوله. والله المستعان. ن
لأصحابه طرقاً في التملص من أحاديث (الصحيحين) في هذهالمسألة، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، وأنه لم يرتض شيئاً من ذلك، واختار طريقاً جديداً يجمع بين الادلة في زعمه، وهو أولاً كان في ثمن المجن كما في حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكانت قيمة المجن أولاً قليلة، ثم أخذت تزيد بزيادة أتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأقر الأمر عليها، وترك اعتبار ثمن المجن، وذلك كما هو الحال عنده في الدية. قال:«وعلى نحوهذا حملت حد الخمر ومقدار المهر» .
أقول: لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك لكن قد يقال: كان المعيار الشرعي لما يجب في القطع هو قيمة المجن فكأنها كانت أولاً لا تزيد عن أقل ما يحق على آخذه اسم «السارق» وحينئذ أنزل الله عز وجل: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ، ثم كأنها ترقت قليلاً فصارت كقيمة الحبل والبيضة وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده» ثم ترقت فصارت ربع دينار وهو عند الحنفية درهمان ونصف، وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم، وحينئذ قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شيء يقول أنس: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» . ثم كأنها ترقت فصارت خمسة دراهم، وحينئذ قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم. وكأنها بقيت على ذلك إلى عهد عمر، وحينئذ قال - لو صح عنه -: لا تقطع الخمس إلا في خمس. ثم كأنها نقصت إلى درهمين ونصف فحينئذ قال عمر - لو صح عنه - إذا أخذ السارق ربع دينار قطع. ثم كأنها ترقت فصارت عشرة دراهم وحينئذ امتنع - لو صح عنه - من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم. ثم نقصت في عهد عثمان وحينئذ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم، ثم ازدادت نقصاً وحينئذ قطع في فخارة خسيسة. ثم تحسنت الحال قليلاً في زمن علي وحينئذ قطع في بيضة حديد قيمتها ربع دينار، وأفتت عائشة بالقطع في ربع
دينار، ثم لا أدري متى عادت فترقت إلى عشرة دراهم، وحينئذ بمقتضى هذا المسلك نزل الوحي وبإلغاء اعتبار قيمة المجن، وأن يكون هو العشرة الدراهم!!
ولعمري لقد تكرر في الأخبار ذكر المجن، وأن بعض الألفاظ ليوهم اعتبار المجن، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقل ما قطع النبي صلى الله عليه وسلم مجن، وحملوا ما يوهم اعتبار المجن على ما تقدم مفصلاً، ولم يعرج أحد منهم على هذا المسلك الطريف ولكن:
لكل ساقطة في الأرض لاقط
…
وكل كاسدة يوماً لها سوق
ومن العجيب أنه لم يرتض دعوى بعض أسلافه النسخ ثم وقع فيها، وأنه يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم يخالف صرائحها ويتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة.
فأما حديث هشام عن ابن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سنداً ومتناً.
أما السند فمنهم من ذكر عائشة، ومنهم من لم يذكرها وجعله مرسلاً من قول عروة، نبه على ذلك البخاري في (الصحيح) ، والصواب ذكر عائشة.
وأما المتن فعلى ثلاثة أوجه:
الأول: ما رواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة «أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في مجن حجفة أو ترس» . ثم روى البخاري عن عثمان أيضاً عن حميد «ثنا هشام عن أبيه عن عائشة. مثله» .
الثاني: ما رواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة «لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس كل واحد منهما ذوثمن» .
الثالث: رواه البخاري «حدثني يوسف بن موسى ثنا أبو أسامة قال: هشام بن
عروة أخبرنا عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل منها ذا ثمن» .
فالأول: مداره على عثمان بن أبي شيبة عن عبدة وعن حميد، وقد خولف عن كل منهما فرواه مسلم في (صحيحه) عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده:«لم تقطع يد سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس وكلاهما ذوثمن» . وهذا على الوجه الثالث كما ترى. ورواه البيهقي في (السنن) ج8 ص 256 من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده «لم تكن يد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس» .
وهذا على الوجه الثاني كما ترى، وبهذا بان ضعف الوجه الأول، بل ظاهره باطل، لأنه يعطي أن القطع لم يقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في ذاك المجن، وقد ثبت قطع سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهماً. وثبت قطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده.
وأما الوجه الثاني فقد اختلف على عبدة كما رأيت، وكذلك اختلف على ابن المبارك، رواه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة:«لم تقطع يد سارق في أدنى من حجفة أو ترس، وكل واحد منهما ذوثمن» .
وهذا على الوجه الثالث كما ترى. فبان رجحان الوجه الثالث، لأنه رواه عن هشام أبو أسامة ولم يختلف عليه فيه، ورواه ابن نمير عن حميد عن هشام وابن نمير اثبت من عثمان بن أبي شيبة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام.
…
وقد رجح الشيخان والنسائي الوجه الثالث.
أما البخاري فساقها على هذا الترتيب، ثم عقب بحديث ابن عمر، فأشار والله أعلم بالترتيب إلى ترتيبها في القوة، فالثاني أقوى من الأول، والثالث أرجح منهما.
أو قل: أشار الى أن الثاني يفسر الأول من وجه والثاني (1) يفسرهما جميعاً، وأشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا الحديث وحديث ابن عمر عن واقعة واحدة، فعائشة حفظت أن أقل ما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك المجن ولم تذكر قيمته، وابن عمر حفظ قيمته ولم يذكر أنه أقل ما قطع النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وأما مسلم فصدر بحديثه عن محمد بن عبد الله بنمير وساقه بتمامه وهو على الوجه الثالث كما مر ثم قال: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح وثنا أبوكريب ثنا أبو أسامة كلهم عن هشام بهذا الإسناد نحوحديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرواس، وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة: «وهو يومئذ ذوثمن» فحمل سائر الروايات على حديث ابن نمير وهو على الوجه الثالث كما مر، ولم يعتد بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة مع اعتداده بالإختلاف في قول ابن نمير «وكلاهما ذوثمن» وقول عبد الرحيم وأبو أسامة:«وهو يومئذ ذو (2) ثمن» ثم عقب مسلم ذلك بحديث ابن عمر.
وأما النسائي فأنه مع تصديه لجمع الروايات في ذكر المجن لم يسق من طرق حديث هشام المذكورة إلا رواية سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام، وهي على الوجه الثالث.
وصاحب هذا المسلك أنما يكون له متشبث ما في الوجه الثاني، وقد علمت أنه مرجوح من جهة الرواية، وهكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي، وعلى فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح فلا يصح التمسك بما اختص به بعض الروايات وخالفها وغيرها، لأن الاختلاف إنما جاء من جهة الروايتين بالمعنى فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح أنها باللفظ الاصلي أو موافقة له.
(1) كذا الأصل والظاهر أنه خطأ، والصواب «والثالث» .
(2)
الأصل «ذون» .ن
ومع هذا فاللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يقطع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا مانع أن تعرف عائشة هذا ولا تعرف قيمة ذاك المجن. وهذا المعنى أقرب وأولى مما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يزعم أن المعنى قيمة أن اليد لم تكن تقطع إلا فيما يبلغ ثمن مجن من المجان أي مجن كان، وهذا بغاية البعد، فإن من المجان الردئ البالي المعيب الذي تكون قيمته درهماً واحداً أو دونه، ومنها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة، ولم يعهد من حكمة الشارع وإيثاره الضبط، أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط.
فإن قيل قد يختار مجن من أو سط الغالب على نحوما قدمت أول المسألة.
قلت: أو سط الغالب بعيد أيضاً عن الانضباط، والذي تقدم إنما هو من بعض من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وآلة وسلم، وعرف أنه ذاك المجن ولم يعرف ثمنه فأضطر إلى الحدس، والشارع لا ضرورة تلجئه ة لا حاجة تدعوه إلى مثل هذا، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط وهو قادر على الضبط بالذهب أو الفضة، فيكون المناط ظاهراً منضبطاً سهل المعرفة جارياً على ما يعرفه الناس ويتعارفونه؟!
فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الاسلام، وكان أغلب أموالهم الإبل ووصفها الشارع بصاف معروفة تقربها من الإنضباط، ولا يخشى بعد ذلك التباس ولا مفسدة كما يخشى في نوط القطع بثمن مجن، فإن وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة، فلو كانت عنده نفيسة، وأراد أن يشتري بها عشراً كلهن على وصف الدية مكن من ذلك، فيشتري بتلك الناقة عشراً ويدفعها فتحسب له عشراً، واحتمال ان لا يتمكن من ذلك بعيد، فإن اتفق ذلك فللفقيه أن يقول هي بمنزلة المعدومة، ويعدل الى قيمة القدر الواجب من الغالب - كما قيل بنحو ذلك في الزكاة. فأما إذا طابت نفس صاحبها فدفعها فلا إشكال. والحنفية لم
ينكروا وجوب الإبل، وإنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وإن يتعين بالتراضي أو القضاء.
وأقول أما التراضي فلا إشكال فيه، وكذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة وهو قيمة الإبل. وأما إذا لم يكن ذلك قيمتها، فجعل الخيرة للقاضي مناف للعدل وفتح لباب اتباع القضاة للهوى، وأصول الشرع تأبى ذلك. والمقصود هنا انه مفسدة في جعل الزكاة من الإبل، فإن الواجب الحقيقي هو أقل ما يتحقق به الصفة فالمستحق بين أن يحصل له حقه، وأن يحصل له دونه برضاه، وأن يحصل له فوقه برضا الدافع.
…
وعلى فرض أن المقوم اخطأ في التقويم، فالخطب سهل، إنما هو خسارة مالية يجبرها الله عز وجل من فضله.
…
واما المجن فإن قيل: إنه يقطع في سرقته مطلقاً بأي صفة كان فلا يخفى ما فيه، وإن قيل: لا يقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص، فما هو ذاك الوصف؟ وما الدليل على تعيينه؟ وإن قيل. لا يقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حداً معيناً كما يدل عليه قول أنس:«سرق رجل مجناً على عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع» فهذا قولنا وبطل هذا المسلك الطريف رأساً.
وإذا كان المسروق ذهباً أو فضة، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أولا؟ وهذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السلع بالذهب والفضة. وإذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج الى تقويمين، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة، وتقويم المجن الذي لم تبين صفته بالذهب أو الفضة، واحتمال الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد.
فإن قيل: إنما كان ذلك في أول الأمر ثم استقر الحال على العشرة الدراهم.
قلت: فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر وقد قال الشاعر:
رأى الأمر يفضي إلى آخر
…
فصير آخره أولا
وإذا كان المجن لا يصلح أن يجعل معياراً مستمراً، فكذلك لا يصلح أن يكون معياراً موقتاً بلا ضرورة ولا حاجة.
فإن قيل: قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فيلزم أن يكون ذاك المجن محفوظاً في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في بيوت الخلفاء، فكلما رفع سارق، قوم المسروق ثم أخرج ذاك المجن فقوم بقيمة الوقت! وهذا باطل من وجوه:
منها انه لم ينقل، ولو كان لنقل لغرابته، ومنها أن النقل يأباه، ومنها انه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تبرره حكمة. وكثير مما تقدم يرد على هذا أيضاً. أشد ذلك الداهية الدهياء وهي النسخ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: لعل صاحب هذا المسلك إما أراد أن ذلك التدرج واستقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت ظاهر صنيعه خلاف ذلك لتنظيره بحد الخمر، ولأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذكر العشرة، (1) وإنما يصح إن صح شيء عمن بعده وبعد الخلفاء الراشدين. وهب أنه أراد ما زعمت، لم يأت عليه بشبهة فضلاً عن حجة، ويرد عليه أكثر ما تقدم. وكيف يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم ينسخها بما لم يثبت؟ !
وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده، وإنما اقتسر الحنفية قياسه على ما يقطع فيه السارق، والأصل باطل، والقياس أبطل.
وأما حد الخمر فالحق أنه أربعون. واستنبط الصحابة من تدرج الأمر في الخمر
(1) قلت: في هذا نظر، فإن المومى إليه قد صرح بتصحيح حديث ابن عباس في العشرة!
من حكم إلى أشد منه رعاية للحكمة جواز زيادة التشديد تعزيزاً، واستأنسوا الزيادة بقولهم:«إنه إذا سكر هذا، وإذا هذا افترى» (1) مع علمهم بأنه لا يلزم بمجرد الاحتمال حكم المرتد ولا حكم المطلق ولا غيرها ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه، والسرقة لم يقع في تحريمها تدريج، لا من حال إلى أشد منها، ولا من حال إلى أخف منها.
فإن قيل قد يقال، إن للتدريج حكمة، وهي أن الناس كانوا في ضيق فكان المسروق منه يتضرر بأخذ اليسير من ماله، ثم اتسعوا فصار لا يتضرر إلا بأخذ أكثر من ذلك وهكذا.
قلت: تعقل الحكمة لا يثبت به الحكم، مع أن ما ذكر تم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفف على السارق لكثرة الحاجة، وقد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول وذلك يدرء الحد عن المضطر، وما يروى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة (2) .
فإن قيل: إن المقدار لم يتغير في المعنى، لأن السلع كلها أو غالبها تساير المجن، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسة حين بلغ ثمن المجن خمسة، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة، وهكذا الدراهم نفسها، فإن الثلاثة كانت أولاً تغنى غناء تغنيه أخيراً إلا الخمسة مثلاً.
قلت: هذا كله لا يغني فتيلاً فيما نحن بصدد، ثم هو غير مستقيم، فقد تغلوا سلعة وترخص أخرى، ولا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعاً وانخفاضاً إلى يوم القيامة، ولماذا إذ كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيراً بالعشرة؟ ! وقد يزيد
(1) هذا لم يصح، وهو مطل في إسناده ومتنه، وقد بينت ذلك في «إرواء الغليل» .ن
(2)
قلت يشير إلى ما روى عن عمر رضي الله عنهأنه قال: «لا قطع في غدق، ولا في عام سنة» .نده جهالة كما ىبينة في المصدر السابق (2496) .
الاتساع فتصير خمسة عشر لا تغني إلا غناء الثلاثة، وقد يعود الضيق ويشتد أشد مما كان أولاً، والمعروف إنما هو ضبط أثمان السله بالدنانير والدراهم، لا ضبط الدنانير والدراهم بالسلع، فكيف بالسلعة لا تنضبط؟
وقد أطلت في رد هذا المسلك مع أنه لا يحتاج في رده إلى هذا كله، ولكن دعا إلى ذلك شهرة قائلة. والله المستعان.