المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - ط المكتب الإسلامي - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌110- صالح بن محمد التميمي الحافظ الملقب: «جزرة»

- ‌111- الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل

- ‌112- ضرار بن صرد

- ‌113- طريف بن عبيد الله

- ‌114- طلق بن حبيب

- ‌115- عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي

- ‌116- عباد بن كثير

- ‌117- عبد الله بن أبي القاضي

- ‌118- عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني

- ‌119- عبد الله بن جعفر بن درستويه

- ‌120- عبد الله بن خُبَيْق

- ‌121- عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي

- ‌122- عبد الله بن سعيد

- ‌123- عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود السجستاني

- ‌124- عبد الله بن صالح

- ‌125- عبد الله بن عدي أبو أحمد الجرجاني الحافظ مؤلف (الكامل)

- ‌126- عبد الله بن عمر بن الرماح

- ‌127- عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري

- ‌128- عبد الله بن محمد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود

- ‌129- عبد الله بن محمد بم جعفر بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ

- ‌130- عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني

- ‌131- عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بصاحب الخان بأرمية

- ‌132- عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني ويقال الفرهاذاني

- ‌133- عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي

- ‌134- عبد الله بن محمد العتكي

- ‌135- عبد الله بن محمود

- ‌136- عبد الله بن معمر

- ‌137- عبد الأعلى بن مسهر أبو مسهر الدمشقي

- ‌138- عبد الرحمن بن بشير بن سلمان

- ‌139- عبد الرحمن بن عمر الزهري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق المعروف برسته

- ‌140- عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرازي

- ‌141- عبد الرزاق بن عمر البَزيعي

- ‌142- عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي

- ‌143- عبد السلام بن محمد الحضرمي

- ‌144- عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي

- ‌145- عبد الله بن حبيب القرطبي أحد مشاهير المالكية

- ‌146- عبد الملك بن قريب الأصمعي

- ‌ ثناء الأئمة على الأصمعي

- ‌147- عبد الملك بن محمد أبو قلابة الرقاشي

- ‌148- عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ

- ‌149 - عبد الواحد بن برهان العكبري

- ‌150- عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري

- ‌151- عبد بن أحمد أبو ذر الهروي

- ‌152- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي

- ‌153- عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري

- ‌154- عبيدة الخراساني

- ‌155- عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك الدقاق

- ‌156- عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ

- ‌157- علي بن أبي الحسن المعروف بابن طيبة الرزاز

- ‌158- علي بن إسحاق بن عيسى بن زاطيا

- ‌159- علي بن جرير الباوردي

- ‌160 - علي بن زيد الفرائضي

- ‌161- علي بن صدقة

- ‌162- علي بن عاصم

- ‌163- علي بن عبد الله بن المديني

- ‌164- علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني

- ‌165- على بن عمر بن محمد

- ‌166- علي بن محمد بن سعيد الموصلي

- ‌167- علي بن محمد بن مهران السواق

- ‌168- علي بن مهران الرازي

- ‌169- عمار بن زريق

- ‌170- عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأشناني

- ‌171- عمر بن قيس المكي

- ‌172- عمر بن محمد بن عمر بن الفياض

- ‌173- عمر بن محمد بن عيسى السذابي الجوهري

- ‌174- عمر بن علي بن البحر أبو حفص الفلاس

- ‌175- عمران بن موسى الطائي

- ‌176- عنبسة بن خالد

- ‌177- فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد

- ‌178- القاسم بن حبيب

- ‌179- القاسم بن عثمان

- ‌181- قطن بن إبراهيم

- ‌182- قيس بن الربيع

- ‌183- مالك بن أنس الأصبحي الإمام

- ‌184- محبوب بن موسى أبو صالح الفراء

- ‌185- محمد بن إبراهيم بن جناد المنقري

- ‌186- محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغطريفي الحافظ

- ‌187- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه

- ‌188- محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الآدمي

- ‌189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

- ‌190- محمد بن أبي الأزهر

- ‌191- محمد بن إسحاق بن خزيمة

- ‌192- محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري صاحب (الصحيح)

- ‌193- محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي

- ‌194- محمد بن أعين أبو الوزير

- ‌195- محمد بن بشار بندار

- ‌196- محمد بن جابر اليمامي

- ‌198- محمد بن جعفر الأنباري

- ‌199- محمد بن جعفر الراشدي

- ‌200- محمد بن حبان أبو حاتم البستي الحافظ

- ‌201- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش

- ‌202- محمد بن الحسن بن حميد بن الربيع

- ‌203- محمد بن حماد

- ‌204- محمد بن حمدويه أبو رجاء المروزي

- ‌205- محمد بن روح

- ‌206- محمد بن سعد العوفي

- ‌207- محمد بن سعيد البورقي

- ‌208- محمد بن الصقر بن عبد الرحمن

- ‌209- محمد بن العباس بن حيوية أبو عمر الخزاز

- ‌210- محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي

- ‌211- محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر الشافعي

- ‌212- محمد بن عبد الله سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه «مُطين»

- ‌213- محمد بن عبد الله بن الحكم

- ‌214- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ

- ‌215- محمد بن عبد الله بن محمد بن حموديه أبو عبد الله الضبي الحاكم

- ‌216- محمد بن عبد الله بت محمد بن عبد الله أبو الفضل الشيباني

- ‌217- محمد بن عبيد الطنافسي

- ‌218- محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين

- ‌220- محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان

- ‌221- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق

- ‌222- محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي

- ‌223- محمد بن علي البلخي

- ‌224- محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي

- ‌225- محمد بن عمر بن محمد بن بهتة

- ‌226- محمد بن عمرو العقيلي الحافظ

- ‌227- محمد بن عوف

- ‌228- محمد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم

- ‌229- محمد بن فليح بن سليمان

- ‌230- محمد بن كثير العبدي

- ‌231- محمد بن كثير المصيصي

- ‌232- محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه

- ‌233- محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو المفتوح الخياط

- ‌234- محمد بن معاوية الزيادي

- ‌235- محمد بن موسى البربري

- ‌236- محمد بن ميمون أبو حمزة السكري

- ‌237- نصر بن محمد بن مالك

- ‌238- محمد بن يعلي زنبور

- ‌239- محمد بن يوسف الفريابي

- ‌240- محمد بن يونس الجمال

- ‌241- محمد بن يونس الكديمي

- ‌242- محمود بن إسحاق بن محمود القواس

- ‌243- مسدد بن قطن

- ‌244- مسلم بن أبي مسلم

- ‌245- المسيب بن واضح

- ‌246- مصعب بن خارجة بن مصعب

- ‌247- مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري الأصم

- ‌248- معبد بن أبو شافع

- ‌249- المفضل بن غسان الغلابي

- ‌250- منصور بن أبي مزاحم

- ‌251- موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي

- ‌252- موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي

- ‌253- مؤمل بن إسماعيل

- ‌254- مؤمل بن إهاب

- ‌255- مهنأ بن يحيى

- ‌256- نصر بن محمد البغدادي

- ‌257- النضر بن محمد المروزي

- ‌258- نعيم بن حماد

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس والسادس:

- ‌الحديث السابع والثامن:

- ‌259- الوضاح بن عبد الله أبو عوانة أحد الأئمة

- ‌260- الوليد بن مسلم

- ‌261- هشام بن عروة بن الزبير بن العوام

- ‌262- هشام بن محمد بن السائب الكلبي

- ‌263- الهيثم بن جميل

- ‌264- يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي

- ‌265- يحيى بن عبد الحميد الحماني

- ‌266- يزيد بن يوسف الشامي

- ‌267- يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي

- ‌268- يوسف بن أسباط

- ‌269- أبو الأخنس الكناني

- ‌270- أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي

- ‌271- أبو جعفر

- ‌272- أبو محمد

- ‌273- ابن سختويه بن مازيار

- ‌القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية

- ‌المسألة الأولى: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس

- ‌المسألة الثانية: رفع اليدين

- ‌المسألة الثالثة: أفظر الحاجم والمحجوم

- ‌المسألة الرابعة: إشعار الهدى

- ‌المسألة الخامسة: المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه

- ‌المسألة السادسة: درهم وجوزة بدرهمين

- ‌المسألة السابعة: خيارالمجلس

- ‌حديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق

- ‌المسألة الثامنة: رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال: نحن زوجان

- ‌المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح

- ‌المسألة العاشرة: العقيقة مشروعة

- ‌المسألة الحادي عشرة: للراجل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة، سهم له وسهمان لفرسه

- ‌المسألة الثانية عشرة: أما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌المسألة الثالثة عشرة: لا تعقل العاقلة عبداً

- ‌المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً

- ‌المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌تتمة

- ‌المسألة السادسة عشرة: نكاح الشاهد امرأة شهد زوراً بطلاقها

- ‌المسألة السابعة عشرة: القرعة المشروعة

الفصل: ‌189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

أقول: لفظ الخطيب في ترجمة الآدمي ج1 ص 349: «قال لي أبو طاهر حمزة بن محمد ابن طاهر الدقاق: لم يكن الآدمي هذا صدوقا في الحديث كان يسمع لنفسه في كتب لم يسمعها.

فسألت البرقاني عن الآدمي فقال لي: ما علمت إلا خيرا وكان شيخا قديما

. غير أنه كان يطلق لسانه في الناس ويتكلم في ابن مظفر والدارقطني» .

فعدم التفات البرقاني إلى كلام حمزة يدل على أنه لم يعتد به لأن حمزة لم يبين أي كتاب الحق الآدمي سماعه فيه ولم يسمعه ومن أين علم حمزة أنه لم يسمعه؟ وقول البرقاني: «غير انه كان يطلق لسانه

» كأنه قصد بها أن الآدمي كان يتكلم في الناس فتكلم بعضهم فيه ومثل هذا يقع فيه التجوز والتسامح فلا يعتد به إلا مفسرا محققا مثبتا.

ومع هذا فالخبر في كتاب (العلل) للساجي ولم يكن البرقاني ليسمع الكتاب من الآدمي حتى يثق بصحة سماعه وبصحة النسخة فهب أن البرقاني أو الخطيب قال: «قال الساجي في (العلل)

» أل يكفي هذا للحجة؟ وقد كان يكفي الأستاذ أن يقول: شيخ الساجي لا يدري من هو.

ولكنه يأبى إلا التطويل والتهويل.

وزعمه أن الحكاية موضوعة مجازفة منه وكلام أئمة السنة في ذلك العصر في قول أبي حنيفة متواتر حق التواتر وكلام جماعة منهم في قراءة حمزة مشهور والقرآن متواتر حقا

فأما وجوده الأداء التي تفرد بها حمزة فالأئمة الذين أنكروها لا يعلمون صحتها فكيف تواترها؟ وراجع ترجمة حمزة في (الميزان) .

‌189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

.

هكذا نسبه صاحبه الربيع كما في صدر كتاب (الرسالة) وأسنده إليه الخطيب في (تاريخ بغداد) والسند إليه بغاية الصحة.

وهكذا نسبه صاحبه الزعفراني كما تراه عنه من وجهين في (توالي التأسيس) ص 44؛ وهكذا نسبه الإمام أبو محمد

ص: 618

عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في (كتابه) ج 3 ص 201.

وهكذا نسبه أحمد بن محمد بن عبيد العدوي النسابة رواه عنه زكريا الساجي في (مناقب الشافعي) كما في (توالي التأسيس) أيضا و (تاريخ بغداد) .

وقال ابن النديم في (الفهرست) ص 294: «قرأت بخط أبي القاسم الحجازي في كتاب (الأخبار الداخلة في التاريخ) أنه أبو عبد الله محمد بن إدريس من ولده شافع بن السائب بن عبيد

» كما مر.

وقال أبو عمر بن عبد البر في (الانتقاء) ص 66: «لا خلاف علمته بين أهل العلم والمعرفة بأيام الناس من أهل السير والعلم بالخبر والمعرفة بأنساب قريش وغيرها من العرب وأهل الحديث والفقه أن الفقيه الشافعي رضي الله عنه هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد

» كما مر.

وقال ابن أبي حاتم في (كتابه) : «حدثني أبو بشر بن أحمد بن حماد الدولابي نا أبو بكر بن إدريس قال: سمعت الحميدي يقول: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة فقال لي ذات يوم: ههنا رجل من قريش له بيان ومعرفة

قلت: ومن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، -وكان أحمد بن حنبل قد جالسه بالعراق - فلم يزل بي حتى اجترني إليه فجلسنا إليه ودارت مسائل فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ ألا ترضى أن يكون رجل من قريش له هذه المعرفة وهذا البيان؟

» . الدولابي حافظ حنفي فيه مقال ومثله لا يهتم في هذا وشيخه هو وراق الحميدي ثقة والحميدي قرشي إمام.

وفي أوائل (سنن الشافعي) التي رواها الطحاوي عن المزني صاحب الشافعي بسندين إلى الطحاوي قال: «حدثنا

المزني في ذي القعدة من سنة 252 قراءة منه علينا قال: حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس المطلبي الشافعي

» والذين ذكروا الشافعي وأثنوا عليه بأنه قريش أو مطلبي من أقرانه والذين يلونهم كثير وقد جاء عنه أنه لما حمل إلى بغداد ناظر محمد بن الحسن فاستعلى عليه فبلغ ذلك هارون الرشيد فأعجبه وقال: «صدوق الله ورسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا من

ص: 619

قريش ولا تعلموها وقدموا قريش ولا تؤخروها

كما في (توالي التأسيس) ص 70 وفيها ص 47 من وجه آخر عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي: «ناظر الشافعي محمد بن الحسن فبلغ الرشيد فقال: أما علم محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قدموا قريشا فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض» .

وفيها ص 60: «وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي وهو من كبار الأئمة: تصفحنا أخبار الناس فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أو ضح شأنا ولا أبين بيانا ولا أفصح لسانا من الشافعي مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم»

وقال بعد قليل: «وقال داود بن علي الأصبهاني فيما أخرجه البيهقي من طريقه قال: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره فأول ذلك شرف نسبه ومنصبه وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم» .

وفيها ص 61: «وأخرج الحاكم من طريق داود بن علي قال في مسألة ذكرها: هذا قول مطلبينا الشافعي الذي علاهم بنكته وقهرهم بأدلته وباينهم بشهامته وظهر عليهم بحمازته، التقي في دينه النقي في حسبه الفاضل في نفسه المتمسك بكتاب ربه المقتدي قدوة رسوله الماحي لآثار أهل البدع الذاهب بجمرتهم الطامس لسنتهم فأصبحوا كما قال تعالى: {فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} » ومثل هذا من الثناء عليه بأنه قرشي أو مطلبي أو من رهط النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير وهذا ابن دريد يقول في مرثيته:

لرأى ابن إدريس ابن عم محمد

ضياء إذا ما أظلم الخطب صادع

وفي (تاريخ البخاري) ج 1 قسم 1 ص 242: «محمد بن مسافع بن مساور

وقال سعيد بن سليمان: محمد بن شافع بن السائب بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن. عبد مناف» وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب. وفي (توالي التأسيس) ص 5: «أخرج الحاكم

ص: 620

من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمه سمعت مسلم ابن الحجاج يقول: عبد الله بن السائب كان والي مكة وهو أخو شافع بن السائب جد محمد ابن إدريس الشافعي

» .

وقال الشافعي في (الأم) ج 7 ص 250: «قال لي قائل ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه: أنت عربي والقرآن نزل بلسان من أنت منهم

» وقال في وصيته المثبتة في (الأم) ج 4 ص 49 «وأوصي لفقراء آل شافع بن السائب بأربعة أسهم

» .

وقال في (الأم) ج 4 ص 38 ونحوه في (مختصر المزني) بهامش الأم ج 3 ص 193

فماذا كان المعروف عند العامة أن من قال من قريش: لقرابتي - لا يريد جميع قريش

فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال: من بني عبد مناف، ثم يقال: قد يتفرق بنو عبد مناف فمن أيهم؟ فبقال: من بني المطلب، فيقال: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، هم قبائل، قيل فمن أيهم؟ قيل: نعم هم بنو السائب بن عبيد ابن عبد يزيد، قيل: وبنو شافع وبنو علي وبنو عباس، وكل هؤلاء من بني السائب، فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، كل بطن من هؤلاء يتميز عن صاحبه، فإذا كان من آل شافع فقال: لقرابته، فهو لآل شافع دون آل علي وآل عباس

» .

فالشافعي ومن أدركه وأقرانه وأصحابه ومن جاء بعدهم إلى نحو مائتي سنة بعد الشافعي - ما بين ناسب له ولمن عرف من أهل بيته بالعلم كعمه محمد بن علي بن شافع، ومحمد بن العباس ابن عثمان بن شافع وابنه إبراهيم وغيرهم هذا النسب تفضيلاً أو إجمالاً، وبين سامع له غير منكر. ولو كان الانتساب إلى قوم من الأعاجم لقد كان يجوز أن يقال: يمكن أن يكون الرجل - إن كان أهلاً أن يتوهم فيه الكذب - نسب نفسه بدون تحقيق فاتفق أن تغافل أهل المعرفة عن الإنكار عليه، أما العجم فلعدم اعتداد مسلميهم بأنسابهم وإنما كانوا ينتسبون إلى مواليهم من العرب، وأما العرب فلا يهمهم أن ينتسب الأعجمي إلى من شاء من العجم، وقريب من هذا لو انتسب إلى قبيلة خاملة من العرب، ولم يكن له هو من النباهة ما

ص: 621

يحمل كثيرا من الناس على حسده ومنافسته فيدعوهم إلى مناقشته، فهل يسوغ ذو عقل مثل هذا في رجل يقوم في القرن الثاني فيدعى لعشيرته كامله أنها من العرب ثم مر قريش ثم من بني عبد مناف ثم من بني المطلب فيثبت لها بذلك حقا في الخلافة، وحقا في الفيء، وحقا في خمس الخمس، والكفاءة لبني هاشم، والخلفاء منهم، فلا يبقى بينها وبين بني هاشم فرق آي في الفضل مع أنها تشاركهم في نصيب منه لما في (الصحيحين) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وثبت عن فاطمة عليها السلام أنها لما وقفت صدقتها جعلتها لبني هاشم وبني المطلب وكذلك فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقوم هذا الرجل في القرن الثاني فيدعي هذا ويعلنه ويلهج به عارفوه وأصحابه وجماعة من عشيرته ثم لا يثور عليه التكذيب والعقوبة من كثير من الجهات؟ بل ولا ينكر عليه أحد هذا مع أن الرجل بغاية من النباهة ولم يكن له ولا لأحد من أقاربه ما يهاب لأجله ويتقي من منصب في الدولة أو نحو ذلك وقد كان في مبدأ أمره ولي بعض الولايات وطار له صيت بالعدل والجود والقبول فنسب إليه ترشيح نفسه للخلافة فحمل إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد وجاء من غير وجه أنه خاطبه بقوله: نحن إخوتكم من بني المطلب فأنتم ترونا أخوة. هذا والعارفون بالأنساب ولا سيما نسب قريش في ذاك العصر كثير وللرجل حساد يحرقون عليه الأرم ومع ذلك قبل الناس دعواه ووفقوه عليها وأستمر الأمر على ذلك تسمع موافقته من كل جهة ولا يحس وجس بمخالفته إلى نحو مائتي عام.

ثم إذا كان بعد ذلك؟ ذاك متفقه حنفي ملأه غيظا تبجح الشافعية بأن إمامهم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسولت له نفسه أن يحاول المكابرة في ذلك فلم يجد إلى ذلك سبيلا فلجأ إلى غير ملجأ فقال: إن أصحاب مالك لا يسلمون أن الشافعي من قريش بل يدعون أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر رضي الله عنه أن يجعله من موالي قريش فامتنع فطلب من عثمان رضي الله عنه ففعل» فافتضح هذا القائل الظالم لنفسه فان أصحاب مالك - وإن كان فيهم من

ص: 622

هو حنق على الشافعي وأصحابه لا يعرفون قائلا منهم بهذه المقالة وهذا صاحبهم ابن عبد البر أعرف الناس بهم وبأحوالهم ومقالاتهم نقل الإجماع على نسب الشافعي كما سلف.

ولو أن ذلك الحنفي نسب تلك المقالة إلى إنسان معروف من المالكية لساغ احتمال أنه لم يكذب على ذلك المالكي وأن كذبه وإنما رأى في بعض الروايات أن الشافعي لما حمل إلى الرشيد كان معه رجل من آل أبي لهب ثم حاول أن يروج مقالته بما نسب إلى عمر فزادها فضيحة فهل كان عمر ينكر أن يكون بنو هاشم من قريش؟ أم كان ظالما جائرا يمنع المولى حقه الواضح؟

تذهب هذه الأضحوكة ذهاب ضرطة عير بالفلاة، وتمر على ذلك ثلاثمائة سنة أخرى تقريبا وإذا بحنفي آخر محترق يكتب كتيبا يضمنه أشياء في فضل أبي حنيفة وعيب سائر الأئمة ولاسيما الشافعي وخوفا من الفضيحة نحل الكتاب من لا وجود له فكتب عنوانه « (كتاب التعليم) لشيخ الإسلام عماد الدين مسعود بن شيبة ابن الحسين السندي» ثم رمى بالكتاب في بعض الخزائن فعثر الناس عليه بعد مدة فتساءل العارفون: من مسعود بن شيبة؟ لا يجدون له خبرا ولا أثرا إلا في عنوان ذاك الكتيب.

القضية مكشوفة إلا أنها صادفت هوى في نفوس بعض الحنفية فصار بعض مؤرخيهم وجامعي طبقاتهم ومناقبهم يذكرون مسعود بن شيبة وينقلون من ذاك الكتيب فاضطر الحافظ ابن حجر إلى أن يقيم لذلك وزنا ما فقال في (لسان الميزان) :

«مسعود بن شيبة

مجهول لا يعرف عمن أخذ العلم ولا من أخذ عنه له مختصر سماه التعليم كذب فيه على مالك وعلى الشافعي كذبا قبيحا

»

فيجئ الأستاذ الذي يصف نفسه كما في لوح كتابه الذي طبع بتصحيحه ومراجعته بأنه «الأمام الفقيه المحدث والحجة الثقة المحقق العلامة الكبير صاحب الفضيلة مولانا الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقا» فيحتج بذاك الكتيب المسمى ب (التعليم) ويذكر مسعود بن شيبة كعالم حقيقي ويزيد على ذلك فيقول في حاشية ص 3 من التأنيب «وابن شيبة هذا جهلة ابن حجر فيما جهل مع أنه معروف عند الحافظ (؟) عبد القادر القرشي وابن دقاق المؤرخ والتقي المقريزي والبدر

ص: 623

العيني والشمس ابن طولون الحافظ وغيرهم فنعد صنيع ابن حجر هذا من تجاهلاته المعروفة - لحاجة في النفس - وقانا الله إتباع الهوى» كذا يقول هذا الظالم لنفسه وهو يعلم حق العلم أن هؤلاء الذين سماهم وكلهم متأخرون لم يعرفوا إلا ذاك الكتيب فتجاهلوا حلمه وذكروا مسعود بن شيبة بما أخذوه من ذاك الكتيب فإن كانت هذه معرفة فالحافظ ابن حجر لم ينكرها بل أثبتها في تلك الترجمة والداهية الدهياء أن يختم الأستاذ عبارته بقوله: «وقانا الله إتباع الهوى» أفليس هذا أشنع وأفظع وأدل على المكروه من قول شارب الخمر حين يشربها: باسم الله؟ !

يقع في ذلك الكتيب ما نقله عنه الأستاذ كما يأتي، تناسى الناس ذاك الكتيب إلا أماني كما سبق ومضت بعد ذلك قرابة سبعمائة سنة فينشأ الكوثري فيبعثر فظائع أصحابه علق على (انتقاء ابن عبد البر) حيث حكى ابن عبد البر الإجماع على نسب الشافعي قوله:«ومن زعم أن شافعا كان مولى لأبي لهب فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع فطلب من عثمان ذلك ففعل فقد بعد عن الصواب وشذ عن الجماعة والتعويل عليه من بعض الحنفية والمالكية تعصب بارد ولهم أن يناقشوا في علمه لا في نسبه» .

وغرضه هنالك إنما هو محاولة الخدش في الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر ولكن حاول المواربة وزعمه أن بعض الحنفية والمالكية عولوا على تلك الفرية فرية أخرى إنما رمي بها ذاك الحنفي المحترق على المالكية والمالكية براء منها فإن كان هناك من يسوغ أن يقال إنه عول عليها فهو الكوثري فقد قضي على نفسه بالتعصب البارد وذلك أخف ما ينبغي أن يقضي عليه به!

وقال في (التأنيب) ص 100 فما بعدها عند الذكر الموالي «حتى إن الشافعي منهم عند أهل العلم (؟) وعلق عليه في الحاشية مقاله ذاك الحنفي ثم قال: «ومنهم

ص: 624

من يعده في عداد موالي عثمان كما في (التعليم) لمسعود بن شيبة» وقد علمت حاله هذين ثم قال: «وكان الشافعي يعضه فقر مدقع في نشأته كما في كتب المناقب والصليب في قريش كان يتناول من الديوان في ذلك العصر ما يقيم به أوده» .

أقول: الذي يقوي سنده من تلك الحكايات ما روي عن الشافعي أنه قال: كنت يتيماً في حجر أمي ولم يكن لها مال وكان المعلم يرضى من أمي أن أخلفه إذا قام فلما جمعت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة وكانت دارنا في شعب الخيف فكنت أكتب في العظم فإذا كثر طرحته في جره عظيمة، والحكايات الأخرى في أسانيدها مقال وهي مع ذلك لا تزيد على هذا، وهذا لا يصدق عليه كلمة «يعضه فقره مدقع» فقد كانت له دار وكفاف في المطعم والملبس وإلا لما تركته أمه يطلب العلم بل كانت تسلمه في حرفة، فإن كان يصل إليه من الديوان شيء فلا ندري ما قدره وقد لا يكون يصل إليه شيء لأن الأمراء كانوا ظلمة يصرفون بيت المال في أغراضهم وشهو اتهم، وكان والد الشافعي كما تشير إليه بعض الروايات ممن خرج مع العلوية على العباسين ولذلك اضطر إلى الفرار بأهله من الحجاز إلى فلسطين حيث ولد الشافعي وكان الأمراء يتتبعون من كان كذلك بالقتل والسجن فضلا عن حرمان حقهم في بيت المال، وقد نال ذلك ذرية فاطمة عليها السلام قال دعبل:

أرى فيأهم في غيرهم متقسما

وأيديهم من فيئهم صفرات

وقال الكوثري في ما كتبه على (مغيث الخلق) : «لم أرى أحد قبل زكريا الساجي رفع نسب شافع إلى عبد مناف» .

أقول قد أريناك. قال: «والساجي متكلم فيه» مما لا يعتد به وهو أحد الإثبات كما مر في ترجمته.

قال: اختلاف الروايات في مسقط رأس الأمام الشافعي

. وعدم ذكر ترجمه لوالديه ولا تاريخ لوفاتهما في (كتاب الثقات) مما يدعوا إلى التثبت في الأمر» !

أقول: أما الاختلاف في موضع ولادته فليس مما يدعوا إلى التشكك وهؤلاء أبناء فاطمة وأبناء العباس لم تتعرض التواريخ لمواضع ولادة كثير منهم إذ ليس ذلك

ص: 625

مما يهتم به فيحفظ الناس إلى الآن مختلفون في تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومولده وكان والد الشافعي مشردا مطردا بسبب خروجه مع العلويين فكان مختفيا بأهله في فلسطين حيث ولد له الشافعي والذين ذكروا موضع ولادة الشافعي إنما استندوا إلى أخباره ، فأقوى الروايات عنه أنه قال «بعسقلان» وفي رواية عنه أنه قال «بغزة» فإن ثبتت هذه أيضا تبين أنه ولد بإحداهما وأطلق عليها في رواية أخرى اسم أخرى لأنها من مضافاتها أو ولد في قرية صغيرة بينهما أطلق عليها في أحدا الروايتين اسم هذه وفي الأخرى اسم الأخرى لأنها لا تعرف إلا باضافتها إلى إحداهما، فأما ما روي عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب من ذكر اليمين فلذلك أسوة بال أحاديث الكثيرة التي غلط فيها أحمد هذا الغلط الفاحش حتى اضطر أخيرا إلى الرجوع عنها ومع ذلك فقد تكلف بعضهم تأويل روايته المذكورة بما لا حاجة إلى ذكره.

وأما أنهم لم يذكروا ترجمة لوالدي الشافعي فلم يعرف أبوه بالعلم، وما كل قرشي حفظت له ترجمة ولعل الذين حفظت تراجمهم لا يبلغون عشر معشار الذين كانوا موجودين. وأما تاريخ الوفاة فالمحدثون إنما عنوا بتقيد وفيات الرواة لمعرفة اتصال الرواية عنهم وانقطاعها، وما أكثر الرواة المشاهير الذين لم تقيد وفياتهم والذين ذكرت وفياتهم منهم وقع في كثير منها الاختلافات المتباينة فأما والدا الشافعي فلم يتعانيا الرواية أصلا والأستاذ نفسه يتحقق هذا كله ولكن يأبى إلا الشعبذة على الجهال وقد عرف الناس تاريخ ولادة الشافعي وأن أباه توفي عقب ذلك بستة أو نحوها فأما أمه فعاشت إلى أن بلغ أبها مبلغ العلماء وجهزته حيث خرج إلى اليمن فولي فيها ما ولي قال الكوثري:«وعد شافع صحابيا أول من ذكره هو أبو الطيب الطبري» أقول: لم أر في المنقول ما يصرح بصحبته فهو على الاحتمال فإن كان ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو صحابي وإلا كفتنا صحبة أبيه. قال: «أول من عد السائب صحابيا من مسلمة بدر هو الخطيب في (تاريخه) بدون سند» .

أقول: في (الإصابة) «قال الزبير في (كتاب النسب) ولد عبيد بن عبد يزيد

ص: 626

السائب وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأسر يوم بدر وذكر ابن الكلبي أنه كان يشبه بالنبي وأخرج الحاكم في «مناقب الشافعي» من طريق أبي محمد أحمد بن عبد الله بن العباس بن عثمان بن نافع بن السائب قال: سمعت أبي يقول أشتكى السائب بن عبيد فقال عمر: أذهبوا بنا نعود السائب بن عبيد فأنه من مصاصة قريش قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى به وبعمه العباس هذا أخي.

وذكر في ترجمة شافع ما رواه الحاكم من طريق أيأس بن معاوية عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم في القسطاس إذ جاء السائب بن عبيد ومعه ابنه فقال من سعادة المرء أن يشبه أباه وذكروا في الصحابة عبد الله بن السائب كما تقدم، فالسائب صحابي حتماً ولا يهمنا أتقدم إسلامه أم تأخر وقد عدوا في الصحابة عبيداً والد السائب وعبد يزيد جده وعلى كل حال ففي أجداد الشافعي صحابي حتماً وقيل اثنان في نسق وقيل ثلاثة وقيل أربعة وقد قال الأستاذ ص 165: «على أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي عمن يزيد عددهم على مائة ألف من الصحابة ولم تحتوي الكتب المؤلفة في الصحابة عشر معشار ذلك فإذا لم ينص المتقدم على صحبة رجل فاستدركه من بعده لم يكن في ذلك ما يريب في صحته.

ثم قال الأستاذ: «وربما يعذرنا إخواننا الشافعية

» .

أقول لا ريب أنهم إذا عرفوا الأستاذ وما يقاسيه من ذات نفسه يعذرونه في أنفسهم ويرحمونه، وإن كان ذلك لا ينفعه عند الله عز وجل. وقد ضج الأستاذ ص 18 مما روي عن يزيد بن زريع:«كان أبو حنيفة نبطيا» فقال الأستاذ: «ومن ساق هذا الخبر الكاذب ليطعن في نسبة فهو لم يزل على خلال الجاهلية» مع أن الأستاذ يعرف من مذهبه أن العجم أكفاء بعضهم لبعض من جهة النسب، وليسوا أكفاء للعرب، وأن سائر العرب ليسوا أكفاء لقريش، ولعل النبط أقرب إلى الشرف الديني من الفرس!

وقال الكوثري ص 4 من (التأنيب) : «ومن تابع الشافعي قائلا: إنه قرشي،

ص: 627

فله ذلك، لكن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم. وفي (صحيح مسلم) :«من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» . على أن هناك من العلماء من هو قرشي باتفاق فيفضل على من في قرشيته خلاف، لو كان هذا الأمر بالنسب» .

أقول: قد علمت الإجماع إلى نسب الشافعي مع الحجج الأخرى. فأما أن هذه الميزة لا توجب الرجحان في العلم، فإن أراد أنه لا يجب أن يكون كل قرشي أعلم من كل أعجمي مثلا فهذا حق لا يشتبه على أحد، وكذلك لا يجب أن يكون كل تابعي أعلم من كل ما يأتي بعده ولا كل من كثر أتباعه أعلم من كل من أقل منه أتباعا، وكذلك كل من أبطأ به عمله لا تسرع به تابعيته ولا كثرة أتباعه بل ذلك أضر عليه. وقد وضع الحديث في غير كوضعه، فإن الشافعي لم يبطئ به علمه وإنما ينبغي أن يذكر هنا حديث (الصحيحين) وغيرهما وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:«أفعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهو ا» .

ومن ذكر من أهل العلم في مزايا الشافعي أنه عربي قرشي مطلبي فلم يحتج بفضلية النسب من حيث هو نسب، ولكن من حيث ما هو مظنة، فإن ذلك يقتضي فضل معرفة بالدين الذي أنزله الله تعالى على النبي العربي بلسان عربي روعي فيه عقول العرب وإفهامهم وطباعهم، ويقتضي فضل محبة الدين وغيره وحرص على عدم الشذوذ عنه، فإن من أجتمع له الحق والهوى أشد لزوما للحق ممن جاء الحق خلاف هواه، وقد قال الله تبارك وتعالى:«وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (البقرة:127)«رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (البقرة - 127- 129) . وقال عز وجل: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ

ص: 628

مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (الجمعة 2 - 4) . فالأميون الذين بعث فيهم الرسول عليهم آيات الله وزكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة وكانوا من قبل في ضلال مبين هم العرب الذين أدركوا نبوته، علمهم مباشرة أو قريبا منها بأن أرسل إليهم رسولا، وهو صلى الله عليه وسلم حي ينزل عليه الوحي، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم قد نص القرآن أنهم «منهم» فهم ذريتهم، فأما ما روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الآخرين فسكت عنه ثلاثا ثم وضع يده على سلمان الفارسي وقال:«لو كان الإسلام بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» فهذا لا يخالف الدلالة الواضحة من القرآن، وإنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن جواب السؤال لأن القرآن واضح بنفسه لمن تدبره ثم وضع يده على سلمان وقال ما قال على سبيل أسلوب الحكيم كأنه قال: الأولى أن يسأل السائل هل يختص الدين بالأميين الذين بعث فيهم الرسول مباشرة ومن يلحق بهم منهم؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال المقدر.

فأما ما وقع في الرواية «رجال أو رجل» فشك من الراوي وأكثر الروايات «رجال» بلا شك لكن جاء حديث آخر «لو كان الدين عند بالثريا لذهب به رجل من فارس - أو قال من أبناء فارس - حتى يتناوله» ولم يذكر في هذا الحديث قصة الآية لكن كلا الحديثين من رواية أبي هريرة فإن كان أصل الحديثين واحدا، واللفظ «رجل» فلا شبهة أنه كناية عن سلمان كما تعينه القرينة. وإن كانا حديثين فالرجل سلمان والرجال هو وآخرون، هذا هو المعنى الواضح لمن أراد أم يفهم المراد من الكتاب والسنة. وأما من يريد أن يجرهما إلى هواه فلا كلام معه.

والمقصود هنا أن الشافعي ممن نالته المزية التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل وذكرت في الآيات، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله والفضل العظيم. وقال الله تبارك وتعالى:«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» آل عمران 33 - 34 وجاء في كتاب الله عز وجل عدة آيات تدل على انقطاع الاصطفاء عن ذرية آل عمران وبقي في غيرهم من

ص: 629

آل إبراهيم، وفي (الإصحاح الثاني) من (سفر أرميا) في صدد توبيخه اليهود على ارتدادهم وعبادتهم الأصنام ما يدل على أن بني قيدار كانوا في عهدة ثابتين على ملة إبراهيم، قال:«لذلك أخاصمكم يقول الرب وبني بنيكم أخاصم فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وأرسلوا إلى قيدار وانتبهو اجدا (1) وانظر هل صار مثل هذا هل بدلت أمة آله وهي ليست آلهة، أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع» . هكذا في النسخة المطبوعة بنيويورك سنة 1867 م.

وبنو قيدار هم بنو إسماعيل ومنهم عدنان أبو قريش وجاء في (الصحيحين) وغيرهما (كالمستدرك) ج 4 ص 605 وغيره كما ترى تفصيل ذلك في (فتح الباري)«باب قصة خزاعة» وفي (الإصابة) ترجمة أكتم بن الجون ما يعلم منه أن عمر بن لحي أول من بدل دين إبراهيم أي والله أعلم في مكة ونواحيها، وعمرو هذا من اليمن على الراجح وليس من ذرية إسماعيل على الراجح، وكان في عصر كنانة، وفي (صحيح مسلم) وغيره من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم «فهذا يدل أن عمرو بن لحي استغوى بعض بني إسماعيل وثبت كنانة، ثم سرى التبديل إلى بعض ذرية كنانة، وثبت قريش فانفرد بالاحتراز عن التبديل أو عن الإغراق فيه، ثم سرى الفساد في ذرية قريش وانفرد هاشم بنحو ما انفرد به قريش، فكان بنو هاشم أقرب الناس إلى الحق حتى اصطفى الله تعالى رسوله منهم، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ، افترق بنو عبد مناف فانضم بنو نوفل إلى عبد شمس وانضم بنو المطلب إلى بني هاشم فكانوا معه ودخلوا معهم شعب أبي طالب لما فاطعن قريش بني هاشم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بقوا مع بني هاشم في الإسلام، وبقوا

(1) كأنه إشارة إلى أن بني قيدار بنو عمكم ولم يبعث فيهم نبي إسماعيل وبعث فيكم عدد كثير من الأنبياء وبعضهم بين ظهرانيكم ومع ذلك هم ثابتون على الدين الحق وأنتم خرجتم منه.

ص: 630

معهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما افترق بنو هاشم، انضم بنو المطلب إلى ألصق الفريقين بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنوا ابنته وكان والد الشافعي معهم فلما أصيبوا فر إلى فلسطين حيث ولد له الشافعي، فالشافعي من آل إبراهيم ثم من كنانة ثم من قريش ثم من بني المطلب الذين هم وبنو هاشم شيء واحد ثم ظهر في الإسلام أنهم ألصق بالنبي صلى الله عليه وسلم من بعض بني هاشم، ثم فقه:

وهل ينبت الخطي إلا وشيجه

وتغرس إلا في منابتها النخل

بل قد يقال: إن الله تعالى اختص رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته بخصائص كثيرة فلا يكاد يوجد لغيرهم فضيلة إلا ولهم من جنسها ما هو أفضل، وهذه الأمة قد كادت تطبق على إتباع أربعة علماء فيهم رجل واحد من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقضية ما تقدم أن يكون أكمل من بقية الأربعة. وقد ذكر بعضهم أن مذهب الشافعي هو مذهب أهل البيت لأنه من بني المطلب الذين كانوا وبني هاشم شيئا واحدا، ثم لما افترق بنو هاشم انضموا إلى ألصق الفريقين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بنو فاطمة في عصر تأسيس المذاهب مضطهدين مروعين لا يكاد أحد يتصل بهم إلا وهو خائف على نفسه فلم يتمكنوا من نشر علمهم كما ينبغي، وكان من أبناء الأعاجم قوم لهم منازع سياسية ضد الإسلام كانوا يتذرعون بإظهار التشيع للعلويين إلى أغراضهم فكذبوا على أئمة العلويين كذبا كثيرا، فاشتبه الأمر على كثيرا من أهل العلم، أما الشافعي فإنه تلقف العلم من أصحاب جعفر بن محمد بن علي الحسين وغيرهم، ثم تجرد للعلم وأعرض عن السياسة فصفا له الجو فأسس مذهبه فساغ أن يقال إن مذهبه هو مذهب أهل البيت. والذي لا ريب فيه أنه إن صح يسمى واحد من المذاهب الأربعة: مذهب أهل البيت فهو مذهب الشافعي، وأهل البيت أدرى بما فيه.

فصل

كما حاول الأستاذ أن يشكك في عربية الشافعي في نسبة كذلك حاول أن يتكلم

ص: 631

في عربيته في لسانه، فذكر حكايتين عن (كتاب التعليم) وقد عرفت حاله وذكر قضايا أخرى.

الأولى: أن الشافعي فسر قوله تعالى «أن لا تعولوا» بقوله: تكثر عيالكم.

أقول: نص الكسائي على أن من العرب الفصحاء من يقول: عال فلان - بمعنى كثر عياله. وكذلك جاء عن الأصمعي وغيره من الأئمة، ومع ذلك فعال يعول يأتي اتفاقا بمعنى الزيادة والكثرة كالعول في الفرائض، والآية تحتمل هذا الوجه أي أكثر أن لا تكثروا، ويكون المراد بدلالة السياق: يكثر عيالكم. أما الاعتراض بأن أكثر المفسرين فسروها بقولهم: أن لا تميلوا، فليس الكلام هنا في رجحان وجه على آخر، وإنما الكلام في قول الشافعي أخطأ هو في العربية أم صواب؟ وقد ثبت بما تقدم أنه ليس بخطأ في العربية، فغاية الأمر أن يقال هو خطأ في التفسير، وذلك لا يضرنا هنا لأن جماعة من الصحابة قد أخطأوا في بعض التفسير ولم يعد ذلك قادحا في فصاحتهم. ومع هذا فقد يرجح تفسير الشافعي بوجهين.

الأول: أن طاووس قرأ «أن لا تعيلوا» والمعنى على هذا حتما تكثر عيالكم، واتحاد المعنى على القراءتين أولى من اختلافه.

الوجه الثاني: أن سياق الآية «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا» (النساء:3) ومعنى قولهم ذلك أدنى أن لا تميلوا، هو ذلك أدنى أن تعدلوا، وهذا قد علم من أول الآية فيكون تأكيدا، فإذا احتملت الآية ما قال الشافعي فهو أولى، لأن التأسيس أولى من التأكيد ن وقد صح نحو تفسير الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن اسلم رواه ابن جرير، ونسبة بعضهم إلى زيد بن أسلم نفسه.

الثانية: قال الأستاذ «قوله: حارة في تفسير «موصدة»

مع أنها بمعنى محيطة

ص: 632

بلا خلاف» .

أقول: لم أجد هذا التفسير عن الشافعي. وقول الكوثري: «بمعنى محيطة بلا خلاف»

غلط بل منهم من قال: مطبقة، ومنهم من قال: مغلقة. فان صح ما نسب إلى الشافعي فهو من التفسير باللازم المقصود لأنها إنما تطبق أو تغلق ليشتد حرها.

الثالثة: قال: «وقوله: معلمي الكلاب - في تفسير «مكلبين» مع أنه بمعنى مرسلي الكلاب» !.

أقول: المعروف في اللغة والتفسير ما قال الشافعي.

الرابعة: قال: «وقوله: فحل الإبل والبقر - في تفسير الفحل في قول عمر رضي الله عنه: لا شفعة في البئر ولا في الفحل. مع أنه فحل النخل» .

أقول: يرد هلي هذا أمور:

الأول: أنه مطالب بتصحيح النسبة إلى الشافعي.

الثاني: أن الأثر مروي عن عثمان لا عن عمر.

الثالث: أنه لو صح ذلك عن الشافعي لكان دليلاً على فصاحته لأن لفظ «فحل» يطلق على الإبل والبقر بلا خلاف، فأما في النخل فالمعروف أن يقال «فحال» بل قال بعضهم لا يقال فيه إلا فحال كما في (النهاية) .

الخامسة: قال: «وقوله في التصرية أنها من الربط مع أنها من جمع الماء في الحوض

»

أقول: عبارة الشافعي كما في (مختصر المزني) بهامش (الأم) ج 2 ص 184 وغيره «التصرية أن تربط إخلاف الناقة أو الشاة ثم تترك من الحلاب اليوم واليومين والثلاثة حتى يجتمع بها لبن

» . وهذه العبارة إنما تعطي أن حقيقة التصرية هي ما يحصل من مجموع تلك الأمور: الربط، وترك الحلاب مدة، واجتماع اللبن. فأما

ص: 633

اشتقاق الكلمة أمن الصر وهو الربط، أم من الصري وهو الاجتماع، فهذا لا علاقة له بكلام الشافعي، أولا: لأنه في مقام بيان المعنى لا الاشتقاق، ثانيا: لأنه قد ذكر الاجتماع كما ذكر الربط. وربط الإخلاف لازم التصرية في عادة العرب وذلك أنها إذا لم تربط رضعها ولدها، أو حلبها محتاج، وكان العرب يتسامحون في حلب إبل غيرهم إذا لم تكن مصراه، يعدون عدم تصريتها بمنزلة الإذن لمن يحتاج في حلبها قال الشاعر:

قد عاث ربك هذا الخلق كلهم

بعام خصب فعاش الناس والنعم

وأبهلوا سرحهم من غير تودية

ولا ديار ومات الفقر والعدم

يعني أرسلوها غير مصراه لاستغنائهم عن اللبن فلا يبالون أن ترضعها أولادها أو يجلبها من شاء وفي الحديث «لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحب أحدكم آن تؤتى مشربته فتكسر خزانته

» وجاءت أحاديث أخرى بالإذن، منها حديث أبي سعيد مرفوعا:«إذا أتيت على راع فناده ثلاثا فإن أجابك وإلا فاشرب من غير أن تفسد» . وجمع بعض أهل العلم بين الأحاديث بأن النهي محمول على المصراة، لأن تصريتها علامة على عدم الإذن، والآذن في غيرها لأن ترك التصرية دليل على الآذن، وهذا أقوى ما تحمل عليه الأحاديث، وفيها إشارة إليه لقوله في الأول «فتكسر خزانته» والكسر إنما يكون إذا كانت مغلقة وإغلاق صرع الناقة هو تصريته، فأما غير المصراة فهي شبيهة بالخزانة المفتوحة، ولقوله في الحديث الآخر «من غير أن تفسد» ، وحل الرباط إفساد.

والمقصود هنا أن الربط كان من لازم التصرية في عادتهم فكانت حقيقة التصرية إنما تحصل بالربط والترك مدة واجتماع اللين كما قال الشافعي. وذكر بعض أئمة اللغة أنه يجوز أن تكون المصراة أصلها المصررة أي المربوطة إلى آخر ما قال، ولا حاجة بعبارة الشافعي إلى هذا كما علمت.

السادسة: قال: «وقوله في تفسير الفهر في قول عمر: كأنهم اليهود قد خرجوا من فهرهم - البيت المبنى بالحجارة الكبار، مع أنه موضع عبادتهم أو اجتماعهم

ص: 634

ودرسهم مطلقا سواء كان في بنيان أو صحراء» .

أقول عليه في هذا أمور:

الأول: أنه مطالب بتثبيت النسبة إلى الشافعي.

الثاني: أن الأثر منسوب إلى علي كما في (نهاية ابن الأثير) لا إلى عمر، ولفظه في النهاية «خرجوا من فهو رهم» .

الثالث: قوله: «مطلقا

» لم أجدها في كتب اللغة والغريب ن وراجع مفردات الراغب ليتبين لك كثرة الكلمات التي يطلق تفسيرها في كتب اللغة وحقها التقييد.

الرابع: كلمة «خرجوا من» ظاهرة في التقييد بالبيان.

الخامس: أنه قد أختلف في تفسير الفهر فقيل: مدارس اليهود يجتمعون إليه في عيدهم وقيل يوم يأكلون فيه ويشربون، فقول القائل: البيت المبني أن الصواب غيره دل ذلك على أنه يعرف معنى الكلمة وإنما قال باجتهاده وهذا لا يدل على عدم فصاحته، فإنه ليس من شرط الفصيح أن يعرف معاني جميع الألفاظ العربية فقد كانت تخفي على بعض الصحابة معاني بعض الكلمات من القرآن فيجتهدون ويقول كل منهم ما ظنه فيختلفون ويخطئ بعضهم وليس ذلك من عدم الفصاحة في شيء، ويتأكد هذا إذا كانت الكلمة أصلها من غير لغة العرب كهذه، فإنها نبطية أو عبرانية. ولا لوم على العربي الفصيح أن يخطئ» فزعم أن اليرندج ثوب ينسج، وقال آخر:«ولم تذق من البقول الفستقا» فزعم أن الفستق يقل، ولذلك نظائر معروفة.

السابعة: قال: «وصف الماء بالمالح مع أن الماء لا يوصف به وفي القرآن «ملح أجاج» وأما المالح فيوصف به نحو السمك» .

ص: 635

أقول: المعروف عن الأصمعي ومن تبعه أنه لا يقال لا في الماء ولا في السمك، وذكر ابن السيد في (الاقتضاب) ص 116 ذلك ن ثم نقضه بعده حجج ثم قال:«وحكى علي ابن حمزة عن بعض اللغويين أنه ثقال: ماء ملح فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة، قال ولا يقال: ماء مالح، لأن الماء هو الملح بعينه، وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس، لأن صفة الماء بأنه مالح أقرب إلى القياس من وصف السمك، لأنهم قالوا: ملح الماء وأملح، فاسندوا غليه الفعل مكان يسند إلى الفاعل ولم يقل أحد: ملح السمك. إنما قالوا: ملحت السمك إذا جعلت فيها الملح» ثم قال: «وأنشد أبو زياد الأعرابي قال أنشدني أعرابي فصيح:

صبحن قوا والحمام واقع

وماء قو مالح وناقع»

وفي (لسان العرب) عن ابن الأعرابي «ماء أجاج

وهو الماء المالح» وعن الجوهري «ولا يقال: مالح، قال وقال أبوالدقيش: ماء مالح وملح» ثم قال: «قال ابن بري: قد جاء المالح في أشعار الفصحاء

وقال عمر بن أبي ربيعة:

ولوتفلت في البحر والبحر مالح

لصبح ماء البحر من ريقها عذبا

قال ابن بري: وجدت هذا البيت المنسوب إلى عمر بن أبي ربيعة في شعر أبي عيينة محمد ابن أبي صفرة

» .

والحاصل أن قولهم: ماء مالح - ثابت عن العرب الفصحاء نصا، وثابت قياسا، لكن أكثر ما يقولون: ملح - ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي: مالح. أتى بها الشافعي في كتبه لأنه كان يتحرى التقريب إلى إفهام الناس كما يأتي عن صاحبه الربيع، ومع هذا فقد شهد جماعة للشافعي بأنه من الفصحاء الذين يحتج بقولهم فيكون قوله حجة على صحة الكلمة، فإن تنازلنا وسلمنا أن الشافعي مختلف في فصاحته قلنا فالكلمة مختلف في صحتها، فحقها إن لم يقم دليل على صحتها أن

ص: 636

لا يحتج على صحتها باستعمال الشافعي لها، ولا يطعن في فصاحته لاستعماله لها للاختلاف في الأمرين، فكيف إذا قام الدليل على صحة الكلمة من غير قوله، وقال الدليل علفى فصاحته؟ !

الثامنة: قال: «وقوله ثوب نسوي لفظة عامية» .

أقول: هذا أيضا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي، ثم إن كان نسبة إلى النساء فهو الصواب كما قال سيبويه وغيره، وإن كان نسبة إلى (نسا) وهي البلدة المعروفة فهو القياس، وقول ياقوت:«والنسبة الصحيحة إليها نسائي وقيل نسوي أيضا وكان من الواجب كسر النون» فيه ما فيه.

التاسعة قال: «وقوله: العفريت - بالفتح - مما لم يقله أحد» .

أقول: ولا قاله الشافعي فيما نعلم، فيما قاله لعددناها لغة لبعض العرب.

العاشرة: قال: «وقوله: أسليت الكلب - بمعى زجرته، خطأ صوابه أن ذلك بمعنى أغريته كما قال ثعلب وغيره» أقول: لم يكف هذا الأنوك (1) أن كذب على الشافعي حتى كذب على ثعلب وغيره، والموجود في كتب استعماله بمعنى الأعزاء، وثعلب إنما زعم أنه بمعنى أن تدعوه إليك، قال: فأما الإغراء فإنمات يقال: آسدته» . وصحح غيره مجيئه في المعنيين.

العاشرة: قال: «وقوله في (مختصر المزني) : وليست الأذنان من الوجه فيغسلان - والصواب: فيغسلا» .

أقول: عليه في هذا أمور:

الأول: أن النصب في مثل هذا مرجوع أو ممتنع وفي (الهمع) ج 2

(1) أي الأحمق. ن.

ص: 637

ص 12: «وإن تقدمت جملة اسمية نحو: ما زيد قائم فيحدثنا - فأكثر النحويين على أنه لا يجوز النصب لأن الاسمية لا تدل على المصدر» وذهب طائفة إلى جوازه، وقال أبوحيان: الصحيح الجواز بشرط أن يقوم مقام الفعل ظرف أو مجرور

، فإن قيل: فإن «ليس» فعل، قلت: جامد لا يدل على المصدر، فأما دلالتها على النفي فكدلالة «ما» فإن «ليس» فعل، قلت: جامد لا يدل على المصدر، فأما دلالتها على النفي فكدلالة «ما» . بل قال جماعة: إن النصب بعد الفاء لا يجب بحال قال الرضي في (شرح الكافية) ج 2 ص 245: «وقد يبقى ما بعد فاء السببية على رفعه قليلا كقوله تعالى: «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» وقوله ألم تسأل الربع القواء فينطبق - وقوله - لم تدر ما جزع عليك

فتجزع - جاء جميع هذا على الأصل ومعنى الرفع فيه كمعنى النصب لونصب

جاز لك أن لا تصرف في المواضع المذكورة إلى النصب اعتمادا على ظهور المعنى» . ومع هذا فقد جاء إهمال «أن» مضمرة وظاهرة وعد ابن هشام من الأول قول الله عز وجل: «أفغير الله تأمروني أعبد» وقوله ك ب ومن آياته يريكم البرق» ومن الثاني قراءة ابن محيصن: «لمن أراد أن يتم الرضاعة» برفع الميم. وفي (الهمع) ج2 ص 3 «قال الرؤاسي من الكوفيين: فصحاء العرب ينصبون (بأن) وأخواتها الفعل، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها» .

الثاني: أن المزني لم يسق عبارات الشافعي بنصها، فقد قال أول (المختصر)«اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومن معنى قوله لأقربه على من أراده» وربما صرح بنسبة بعض ما ينقله عن الشافعي إلى بعض كتبه المطبوعة في (الأم) فإذا قوبلت العبارتان وجدتا مختلفتين في اللفظ. فقول المعترض «وقوله

» يعني الشافعي - مجازفة.

الثالث: أن النساخ لم يزالوا من قديم يخطئون ويزيدون وينقصون

ص: 638

ويغيرون فنسبة عدم حذف النون إلى المزني يتوقف على وجودها في النسخة التي بخطه أو على نص ثقة سمع منه أنه قالها.

الرابع: قول المعترض: «والصواب: فيغسلا» لحن، والصواب «فتغسلا» وقد قالوا في قول الشاعر «ولا أرض أبقل إبقالها» وقول الآخر ك إن السماحة والشجاعة ضمنا» أنه ضرورة شعرية مع تأويل الأرض بالمكان، والسماحة والشجاعة بالجرد والبأس مثلا، ولا ضرورة في النثر، ولا يسوغ بعد النص على التأنيث في قوله:«ليس» تأويل، ولا حمل على مذهب الكوفيين. ثم قال الكوثري: «ولفظ الشافعي غثبات النون، وحذفها من تصرف الطابع، وأمانته في العلم كأمانته

»

أقول: جزمه بأنه لفظ الشافعي مجازفة كما مر. وقوله: «من تصرف الطابع» مجازفة أيضا فهل وقف على الأصول المطبوع عنها ن وهل علم آن حذفها من فعل الطابع نفسه لا من إصلاح المصححين على ما ظهر لهم ن والذي في خاتمة طبع (الأم) و (المختصر) أن القائمين بالتصحيح مصححودار الطباعة نصري بن محمد العادلي ومحمد العادلي ومحمد البلبيسي ومحمود حسن زناتي. ولم يذكر لصاحب العزة أحمد بك الحسيني إلا أن الطبع على نفقته. ومع هذا فلم يزل المصححون ومنهم الأستاذ يصلحون ما يجدونه في الأصول القلمية مما يرونه خطأ، والغالب في ما يطبع بمصر أن لا ينبه على ما كان في الأصل، بناء على أن الخطا من النساخ كما جرت عاداهم حتى في كتابة القرآن. وقد وقفت على (منية الألمعي) للعلامة قاسم بن قطلوبنا الحنفي ومقدمة الكوثري عليها وتصفحت ما فصله قاسم من الأغلاط الكثيرة التي في نسخة الزيلعي من كتابه (نصب الراية)، ومع ذلك أصلح الكوثري وأحبابه كثيرا منها في الطبع بدون تنبيه فعد الكوثري صنيعهم منقبة لهم قال:«وفي عداد تعقبات العلاقة الحافظ قاسم أمور قد يتبه إليها الفطن بنفسه لظهور أنها من قبيل سبق القلم فيوجد بعض ما هو من هذا القبيل على الصحة في النسخة المطبوعة لأن الانتباه إلى الصواب من فضل الله سبحانه؛ وفضل الله لا يكون وقفا على أحد» لكن عذر الأستاذ واضح وهو أنه راض عن نفسه وأحبابه! ولذلك رأى التصرف في طبع (نصب

ص: 639

الراية) من فضل الله سبحانه، وساخط على الحسيني لسعيه في طبع بعض كتب الشافعي فهو مضطر إلى أن يتجنى عليه، ولعنا لو لم ننبه على هذا لعدنا الأستاذ من الأغبياء الذين لا يعرفون بين السخط والرضا. والله المستعان.

الحادية عشر، والثانية عشرة - قال:«وقوله: الواوللترتيب، والباء للتبعيض، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان بل الأولى للجميع مطلقا، والثانية للإلصاق» .

أقول: جازف في النفي والإثبات، أما النفي فقد نقل القول بأن الواوللترتيب عن قطرب والربعي والفراء وثعلب وآبى عمر الزاهي كما في (المغني) . ونقل القول بأن الباء تجيء للتبعيض عن الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك وعن الكوفيين كما في (المغني) أيضا. وأما الإثبات فلم يقل الشافعي قط أو الواوللترتيب ولا أن الياء للتبعيض، ولا ما هو بين في هذا، وإنما بنى في الواوعلى قاعدة التقديم والتأخير المتفق عليها وهي أن ما يسوغ في أصل التركيب تقديمه وتأخيره لا يقدم في الكلام البليغ إلا لنكة عليها وهي أن ما يسوغ في أصل التركيب تقديمه وأخيره لا يقدم في الكلام البليغ إلا لنكتة فإذا قال البليغ:«ادع زيدا وبكرا» فلم يقدم زيدا إلا لنكتة والقرينة فمن قدم ولا نكتة ولا قرينه فقد أخطأ من وجهين ومن قدم مع وجود أحدهما فقط بينها وبين الفاء و (ثم) أن الواووإن كانت بمقتضى قاعدة التقديم بأن الواوللترتيب، والفرق بينها وبين الفاء و (ثم) أن الواووإن كانت بمقتضى قاعدة التقديم والتأخير يقتضي الترتيب فذلك ظاهر يجوز خروجها عنه لنكتة بقرينه، والفاء و (ثم) للترتيب حتما. وقد يقال بل التقديم في الحكم نكتة من النكت فحيث كانت هناك أو ضح منها مثل «جاء الملك وكاتبه» لم يفهم من الواوإلا مطلق الجمع، وإلا فالظاهر الترتيب في الحكم. والشافعي رحمه الله إنما تعرض لهذا في الترتيب الوضوء. فنزع بالآية، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدأ بما بدأ الله به، وأنه في السعي بدأ بالصفا وقال:«نبدأ بما بدأ الله به» (1) وأنه

(1) أخرجه مسلم وغيره وأما لفظ «ابدوا

» فشاذ كما بينته في غير الموضع. ن.

ص: 640

في رمي الجنار يجب البدء بما بدأ به صلى الله عليه وسلم. فهذه حجته، فكيف يتوهم انه بنى قوله على زعم أن الواوبمنزلة الفاء وثم؟ ! وأما الباء فإنه قال في مسح الرأس «كان معقولا في الآية أن مسح من رأسه شيئا فقد مسح برأسه

ودلت السنة على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله

» (1) وهذا قد يكون بناء على معنى الإلصاق فقد ذكروا من أمثلة «أمسكت بزيد» مع أن يدك إنما تلاصق بعضه، وعلى هذا الفرق بين الباء و «من» أن «من» نص على التبعيض، وباء الإلصاق مطلقة تصدق بالبعض وتصدق بالكل، ولعل هذا مراد من أطلق أنها تجيء للتبعيض. وراجع لكلام الحنفية في الحكم والآية واضطرابهم في ذلك (روح المعاني) ج 2 ص 257- 258.

وههنا انتهت المطاعن في فصاحة الشافعي، ولقد سعى الكوثري في تثبيت فصاحة الشافعي جهده، فإن أهل المعرفة يعلمون أن في الكلام الفصيح مواضع يعسر توجيهها حتى لو كان كلام من يجوز عليه اللحن لجزموا بأنها لحن، فإذا رأوا هذا المجلب بخيله ورجله لم يجد فيما ثبتت نسبته إلى الشافعي موضعا واحدا بهذه الصفة، فأضطر إلى الاتيان بما تقدم مع الكلام عليه، فأي ريبة تبقى في فصاحة الشافعي؟

ومما ذكره ابن حجر في (توالي التأسيس) ومن عادته أن لا يجزم إلا بما صح عنده قال: «قال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام: الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم وحدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضا سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان، قال: وكتب إلى عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت جعفر بن محمد الخوارزمي يحدث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال ك قرأت شعر الشنقري على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلت لعمي: على من قرأت شعر هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب

(1) لم نجد في السنة ما يدل على ذلك، بل الثابت فيها مسح الرأس كله؛ فإذا اقتصر على بغضه أثم المسح على العمامة. راجع لذلك «زاد المعاد» لابن القيم. ن.

ص: 641

يقال له: محمد بن إدريس» - وقال أيضا: «قال الحاكم سمعت محمد بن عبد الله الفقيه: سألت آبا عمر غلام ثعلب عن حروف أخذت على الشافعي مثل قوله: ماء مالح. وقوله / أنبغي أن يكون كذا وكذا، فقال لي: كلام الشافعي صحيح، وقد سمعت أبا العباس ثعلبا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه» .

وقال: «قال الآبري أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارا: لو رأيت الشافعي وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولوأنه ألف هذه الكتب على عربيته التي كان يتكلم بها معنا في المناظرة لم يقدر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضح للعوام» (1)

فصل

وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي وفي فصاحته حاول القدح في ثقته

(1) قلت: ومن أجمع ما رأيت في الثناء على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قول ابن عبد الحكم: «ما رأينا مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض من علم الحديث لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه. ويأتيه أصحاب الفقه المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والديانة. ويجيئه أصحاب الأدب، فيقرؤن عليه الشعر، فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها، وكان من أضبط الناس لتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله عز وجل» .

أخرجه الخطيب في «جزء مسألة الاحتجاج بالشافعي فيما أسند إليه، والرد على الطاعنين بعظم جهلهم عليه» . وفيه فوائد هامة في ترجمة الشافعي وغيره من الأئمة لا توجد في ترجمة الإمام في «تاريخ بغداد» ، وهو جزء صغير في (13) ورقة، وقد عملت الأرضة في كثير منها حتى أتت على بعض كلماتها، فعسى أن يسخر الله له من ينشره، قبل أن تقضي الأرضة عليها.

ص: 642

فقال: ص 165: «ومن الغريب أنه إذا روى ألف راوعن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلا، تعد هذه الرواية عنه كاذبة، بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه» ! أقول: لا نطالب الكوثري بألف ولا بمائة ولا بعشرة، وإنما نطالبه سالم، ولن يجد إلى ذلك سبيلا، إنما حكى هذه الكلمة عن ابن معين محمد بن وضاح الأندلسي، وابن وضاح قال فيه الحافظ أبووليد ابن الفرضي الأندلسي وهو بلديه وموافق به في المذهب:«له خطأ كثير بحفظ عنه ن وأشياء كان بغلط فيها، وكان لا علم عنده بالفقه، ولا بالعربية» .

وكان الأمير عبد الله بن الناصر ينكر عليه هذه الحكاية ويذكر انه رأى اصل ابن وضاح الذي كتبه بالشرق وفيه: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: هو ثقة. كما حكاه أبن عبد البر في (كتاب العلم) . ولم ينقل أحد غيره عن ابن معين أنه قال في الشافعي: «ليس بثقة» أو ما يؤدي معناها أو ما يقرب منها، ولابن معين أصحاب كثيرون اعرف به وألزم له وأحرص على النقل عنه من هذا المغربي، وكان في بغداد كثيرون يسرهم أن يسمعوا طعنا في الشافعي فيشيعوه.

فأما قول ابن عبد البر «قد صح عن ابن معين من طرق أنه يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له: لم تر عيناك مثل الشافعي» فالذي قدمه هو قوله: «ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضا قوله في الشافعي، فقال أحمد: من أين يعرف يحيى الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي ولا يعرف ما يقول الشافعي - أو نحو هذا، ومن جهل شيئا عاداه! قال ابوعمر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي، وقد حكى عن ابن معين أنه سئل عن مسالة من التيمم فلم يعرفها، ولقد احسن أكثم بن صيفي في قوله ك ويل لعالم أمر من جاهلة، من جهل شيئا عاده ومن أحب شيئا استعبده» . والتكلم في الرجل قد يكون بما ليس بجرح ن فلا يصلح قولهم: «كان يتكلم فيه» متابعة لكلمة:

ص: 643

«ليس بثقة» . وقدم ابن عبد البر أيضاً أن ابن معين سئل عن الشافعي فقال ك نا أحب حديثه ولا ذكره. وهذا تكلم للشافعي ولا يعطي معنى: «ليس بثقة» ولا ما يقرب منها، وقد جاء أن ابن معين رأى كتاب للشافعي تسميته لمقاتلي علي رضي الله عنه بغاة، فأنكر ذلك، وعرضه على أحمد فقال أحمد: فماذا يقول؟ أو كما قال - يعني أن هذا الوصف هو الذي وصف به الكتاب والسنة الطائفة التي تقاتل أهل الحق مطلقا -: فقد يكون ابن معين عد ذلك ميلا إلى التشيع فأو حشه ذلك، وقد تواتر أن أحمد وابن معين كانا يكثران الاجتماع والمذاكرة، فلما ورد الشافعي بغداد لزمه أحمد وقصر في مجالسة ابن معين، وهذا أيضا مما يوحش ابن معين ن وقد مان ابن معين اعتاد من أصحاب الحديث أن يهابوه ويحترموه ويلاطفوه كما ترى شواهد في ترجمته من (التهذيب) وفي ترجمة موسى بن إسماعيل، فكأن الشافعي، لما ورد بغداد قصر في ذلك، وهذا أيضا مما يورث الوحشة، وقد كاتن الشافعي حسن الظن بإبراهيم بن آبى يحيى يكثر الرواية عنه، وابن معين والجمهور يكذبون ابن ابي يحيى، فلا بدع أن تجتمع هذه الأمور في نفس ابن معين فيقول في الشافعي:«لا أحب حديثه ولا ذكره» ولا يعطي ذلك معنى: «ليس بثقة» ولا تقارب. وقد روى الزعفراني وغيره عن ابن معين ثناء على الشافعي في الرواية كما تراه في (للتهذيب) و (تذكرة الحفاظ) وراجع ترجمة الزبير بن عبد الواحد الأسدابادي في. التذكرة) (1) . وقد كان الرواة الذين هم اثبت من ابن وضاح يخطئون على ابن معين، يتكلم السادسة من قسم القواعد ولعل هذا منه كما أو ضحته هناك. وإذا اختلف النقل عن إمام، أو اشتبه أو ارتيب فينظر في كلام غيره من الأئمة، وقضى فيما روى عنه بما ثبت عنهم، فإذا نظرنا كلام الأئمة في الشافعي لا نجد إلا البالغ ممن هو أكبر من ابن معين كابن مهدي ويحيى القطان، ومن أقران ابن

(1) قلت: وتجد توثيق ابن معين للأمام من غير رواية الزعفراني عند الخطيب في الجزء السابق (ق 11/ 2) .

ص: 644

معين كالإمام أحمد وابن المديني، وممن هو بعده حتى قال أبو زرعة الرازي:«ما عند الشافعي حديث غلط فيه» ، وقال أبو داود:«ليس للشافعي حديث غلط» ، وقال النسائي:«كان الشافعي عندنا أحد العلماء، ثقة مأمونا» وأمثال هؤلاء كثير.

فتدبر ما تقدم ثم تصفح ما قيل في أبي حنيفة وأصحابه مما يثبت إسناده، ثم انظر كلمة الأستاذ هل تجد لها مسوغ، افرض أن لمحدثي الشافعية كلهم هوى في توثيق الشافعي وتليين مخالفية فهل يسوغ رد الحق لموافقته هواهم؟ أم هل يسوغ رد الحق لمخالفته هوى الكوثري؟ !

فصل

وكما حاول الكوثري الطعن في نسب الشافعي وفي فصاحته وفي ثقته، حاول الطعن في فقهه، قال الأستاذ ص 139 بعد أن ذكر ما روي عن الشافعي أنه قال:«أبو حنيفة يضع أول المسالة خطأ ثم يقيس الكتاب كله عليها» قال الأستاذ: «لأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل، ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلا ففرع عليه المسائل، فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه، وهكذا فعل في كتاب (المزارعة) حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلا ففرع عليه الفروع، ولكن ما هو من هذا القبيل من مسائل (؟) أبي حنيفة ربما لا يبلغ في العد (1) عدد أصابع اليد الواحدة، في حين أن ما عند ذلك العائب من هذا القبيل (؟) بحيث يحار فيه كبار الفقهاء من أهل مذهبه فتجدهم مضطربين فيما يختارون في المذهب بين قديم المسائل وجديدها ن وبين الأجوبة الشفعية المروية عن الإمام التي يقال فيها: فيها قولان ن فيشكون من عدم مشي الفروع على الأصول، وعدم الاطراد في التأصيل والتفريع، ومما ليس هذا موضع شرحه، وله محل آخر» .

(1) الأصل (العدد) فصححته من (التأنيب) . ن.

ص: 645

وذكر (ص 137)(1) قول ابن ابي حاتم عن ابن عبد الحكم: «قال لي محمد بن إدريس الشافعي ك نظرت في كتب لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة ن فعددت فيها ثمانين ورقة خلاف الكتاب والسنة» . قال الأستاذ: «

بل لفرض أن متن الرواية مما أسر به الشافعي إلى محمد بن عبد الحكم على خلاف ما تواتر (؟) عن الشافعي أنه قال: الناس كلهم عيال فب الفقه

» وعلى فرض أن أحد أصحاب ابي حنيفة أخطأ في غالب مسائل كتيب فماذا على ابي حنيفة من ذلك؟ والشافعي نفسه رجع عما حواه كتاب (الحجة) كله المعروف بالقديم وأمر بغسله والإعراض عنه

ولولا أن الشافعي رأى قديته كله مخالفا للكتاب والسنة لما رجع هذا الرجوع ولا شدد هذا التشدد

وذلك العالم المفروض خطاؤه لم يعترف بعد بالخطأ اعتراف الشافعي بخطئه في القديم

وها هو محمد بن عبد الله بن عبد الحكم

ألف كتابا سماه: (ما خالف فيه الشافعي كتاب الله وسنة رسوله)

فهل نصدقه فيما يقول بالنظر إلى مبالغة ابن خزيمة في الثناء عليه حيث يقول: ليس تحت قبة السماء أحد اعلم باختلاف الصحابة والتابعين واتفاقهم من محمد بن عبد الله بن الحكم

» .

وقال ص 119: «يوجد بين الئنة من يروي عنه أجوبة في مسالة واحدة كالروايات الست عن مالك في المسح على الخفين وكالأجوبة المشفعة (2) في (الأم) للشافعي

وأما مذهب ابي حنيفة فلا تجد في مسائل ظاهر الرواية إلا قولا واحدا منه في كل مسالة، وأما كتب النوادر فحكم مساءلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذة

على أن قيمة روايات النوادر تقدر بأحوال رواتها» .

أقول: أما كلمة الشافعي الأولى فقد اعترف الأستاذ بما يوافقها وزيادة، فدل

(1) الأصل (132) وعليه آثار المحو والتصليح، والتصحيح من (التأنيب) . ن.

(2)

يعني المسائل التي للأمام الشافعي فيها قولان. ن

ص: 646

مجموع كلامة على أن لأبي حنيفة كتبا من كتب الفقه وهي الأبواب العظيمة فيه ككتاب الوقف وكتاب المزارعة يرى الأستاذ أنها لا تزيد على خمسة كتب بناها أبو حنيفة على ما ليس بحجة وهو مع ذلك مخالف للحجة ثم فرع فروع تلك الكتب كلها على ذلك، فأصبحت فروع تلك الكتب كلها غير مقبولة، وزلم يرجع عنها أبو حنيفة ن وإنما ردها صاحباه من بعده، وأما كلمة لصحاب ابي حنبفة كتابا عدد أو راقه مائة وثلاثون، ثمانون منها مخالف للكتاب والسنة.

واعترف الأستاذ بالأولى اعتراف بإمكان هذه كأن يكون في ذلك الكتاب بعض تلك الكتب المردودة ككتاب الوقف وكتاب المزارعة مع كتاب آخرأة لاكثر.

وأما مطتعنة فب فقه الشافعي فيتلخص في أمور:

الأول: أنه رجع عن قديمه وأمر بغسله.

الثاني: أنه يذكر في المسألة قوانين ولا يرجع.

الثالث: أن فروع مذهبه يكثر فيها عدم الجريان على أصوله.

فأما الأول فالأستاذ يعلم قبل غيره أنه يركب فيه المجازفة الفاحشة والكذب المفضوح، فإنه يعلم أنه لا بد أن يكون في القديم كثير من المسائل الإجماعية التي يخالفها الشافعي أو لا ولا أخرا وكثير من المسائل التي لم يزل الشافعي موافقا فيها لمالك لأن عانة المسائل التي رجع عنها في الجديد كان في القديم موافقا فيها لمللك، وكثير من المسائل التي كان في القديم موافقا فيها للحنيفة واستمر على ذلك في الجديد. فبأي دين أم بأي عقل يقول الأستاذ:«رجع عما حواه كتاب (الحجة) كله» ؟ !!!.

أما أمر الشافعي بغسل كتاب (الحجة) وأن لا يروي عنه إن صح فإنما هو - كما يعلم الأستاذ - لأنه كان فيه مسائل رجع عنها الشافعي، ولأنه لم يكن تهيأ له إتقان تهذيبه وترتيبيه واستيفاء الحجج وإيضاح البيان فيه، وعلم أن جميع ما فيه عدا المسائل التي رجع عنها قد ضمنه كتبه الجديدة مع سلامتها من تلك النقائص

ص: 647

وزيادتها لحجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ضمنه كتبه الجديدة مع سلامتها من تلك النقائص وزيادنها لحجاج وأصول وفروع لا تحصى، فلم ير لبقائه وروايته عنه فائدة بل فيه مضرة ما، كأن يغتر بعض أتباعه ببعض المسائل التي رجع عنها أو يغتر مخالفة بما فيه من تقصير في الاحتجاج في بعض مسائل الخلاف فيتوهم أنه لا حجة للشافعي إلا ما في ذلك الكتاب. وهذا أمر بغاية الوضوح يخجل صاحب العلم من سرحه ولكن ماذا نصنع بالأستاذ؟ ويحاول التلبيس على الجهال فيضطرنا إلى أن نشرح القضية كأننا نشرحها لأجهل الناس، ويضيع وقته ووقت غيره، كأنه لا يوقن أنه مسؤول عن عمره فيم أفناه؟

وأما الأمر الثاني، فقد ذكر محققوالشافعية أن ذلك إنما وقع للشافعي في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا فقد يكون الشافعي يرى رجحان أحد لبقولين وإنما لم ينص على ذلك ليلجئ أصحابه إلى النظر والتدبر ليكون ذلك أعون لهم على تحصيل ملكة الاجتهاد التي يتمكنون بها من النظر لأنفسهم فبما ذكره الشافعي وفيما لم يذكره وهذا كان مقصوده الأعظم من تأليف الكتب. قال المزني أول مختصر:«اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهية عن تقليد وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه» ويقرب من هذا ما تراه في كتب التعليم من إيراده عدة أسأله بدون حلها تمرينا للطالب ليعمل فكره في حلها. وقد لا يكون تمكن في الوقت من استيفاء النظر ولم تكن القضية واقعة حتى يلزمه استفياء النظر فيقع في مثل ما ذكره الأستاذ في (التأنيب) ص 123 عن حفص بن غياث قال: «كنت أجلس إلى أبي حنيفة فأسمعه يسأل عن مسألة في اليوم الواحد فيبقى فيها بخمسة أقاويل» !

وأما الأمر الثالث، فلا ريب أن في مذهب الشافعي فروعا يتعسر على أصوله ولكن ما فيه من هذا القبيل لا يكاد يذكر في جانب ما في مذهب أبي حنيفة ن وكل عارف بفقه المذهبين وأصولهما يعرف الحقيقة وليس هذا موضع بسطها، ومن اطلع على قسم الفهيات من كتابنا هذا اتضح له الأمر. وكذلك ما

ص: 648

زعمه الكوثري من حيرة فقهاء الشافعية واضطرابهم ليس بالنسبة إلى ما وقع لفقهاء الحنفية، ومن شاء فليطالع كتب الفقه في المذهبين بل يكفيه أن ينظر أول مسالة من قسم الفقهيات وهي مسألة ضرورية من مبادىء الطهارة ارتبك فيها الحنفية أشد الارتباك، وما ذكره من كتب ظاهر الرواية عندهم ليس بشيء، ولأن كتب ظاهر الرواية يقع فيها الإختلاف.

وأما كتاب ابن عبد الحكم فلم يعترف الشافعية بصدقه كما اعترف الكوثري وغيره بصدق كلمة الشافعي كما مر، والعلم باتفاق الصحابة والتابعين واختلافهم لا يستلزم جودة النظر وصحة الفهم للترجيح فيما اختلفوا فيه ن واستنباط حكم ما لم ينقل عنهم فيه شيء، والأستاذ وكل ذي معرفة يتحقق آن البون في هذا بين الشافعي وابن عبد الحكم بعيدا جدا، وإن كان الشافعي غير معصوم عن الخطأ، وابن عبد الحكم غير محجوب البتة عن الإصابة.

وأما ما نقل عن الشافعي أنه قال: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة» فلم يتواتر كما زعم الأستاذ. ولو شيءنا لقلنا نقتصر هنا على ما يعترف به الأستاذ وهو أن أبا حنيفة إذا عرف الأصل أحسن في التفريع وأجاد ن وإذا لم يعرف الأصل أو لم يأخذ به وقع في التخطيط كما وقع له في الكتب التي تقدم ذكرها، ويقول الأستاذ: إنها لا تجاوز الخمسة فثناء الشافعي بحسب الضرب الأول وانتقاده بحسب الضرب الثاني. وأما ما يتعلق بمحمد بن الحسن فيعلم فيه مما يأتي.

فصل

عرف الأستاذ أن مطاعنة في الشافعي لا تؤثر الأمر الذي يهو اء أو لا تؤثر البتة، فحاول تحصيل بعض مقصوده من جهة أخرى، وهي زعمه أن علم الشافعي مستفاد من محمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة، وسأشرح ملخصا مبدأ الشافعي إلى اجتماعه بمحمد بن الحسن وما جرى له معه فأقول:

ص: 649

ثبت بالروايات الجيدة أن الشافعي شرع طلب العلم وستة نحوعشر سنين فأخذ عن علماء مكة والمدينة، وخرج غير مرة إلى اليمن، واقام بالبادية مدة، وكان فيمن أخذ عنه من الفقهاء بمكة من كان يشارك في طريقة أهل العراق كسعيد بن القداح، وكان الشافعي يبحث مع من يقدم مكة من علماء الآفاق. وفي (توالي التأسيس) ص 58:«قال زكريا الساجي: حدثنا الزعفراني قال: حج بشر المريسي «الحنفي» إلى مكة ثم قدم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله ولا مجيبا، يعني الشافعي، (1) قال: فقدم الشافعي علينا بعد ذلك فاجتمع إليه الناس فجئت إلى بشر فسألته فقال: إنه قد تغير عما كان عليه

» وفيها ص 56 «وأخرج الآبري من طريق الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين فدرسته في ليلتين ثم تقدمت إلى حبقة بشر فناظرته فيه فقطعته، فقال ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا» . بقي الشافعي نحوعشرين سنة بالحجاز ثم ولي بعض الولايات باليمن، وفي (توالي التأسيس) ص 78 «قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إدريس وراق الحميدي حدثنا الحميدي قال: قال الشافعي

ثم نجران وبها بنوالحارث بن عبد المدان وموالى ثقيف

وتظلم عندي أناس كثير وقلت: اجمعوا لي سبعة يكون من عدلوه عدلا ومن جرحوه مجروحا، ففعلوا

حتى آتيت على جميع الظلامات، فلما انتهيت جعلت أحكم واسجل

حتى حملت إلى العراق ن وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند الخليفة فاختلفت غليه ن وقلت هو أولى من حهة الفقه، فلزمته، وكتبت عنه وعرفت أقاويلهم ن وكان إذا قام ناظرت أصحابه، فقال لي ك بلغني انك تناظر فناظرني في الشاهد واليمين، فامتنعت، فألح علي، فتكلمت معه، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأعجبه ووصلني» وقد ذكر الأستاذ ص 184 طرفا من هذه

(1) قلت / إلى هنا رواه الخطيب في «جزء

الاحتجاج بالشافعي

» . ق 10 / 1) من طريق الحسن بن سعيد جعفر النصري. قال أبو نعيم ك «في حديثه وفي روايته لين» ، وترجمته في «الميزان» و «اللسان» . ن.

ص: 650

الحكاية ثم حملها مالا تطيق، فمن جملة ما قاله:«وبها يعلم أن محمد بن الحسن بعد أن درب (؟) الشافعي على الأخذ والرد هكذا رفع حديثه إلى الرشيد» .

أقول: الشافعي مدرب من بيته كما تقدم ورافع الحديث إلى الرشيد غير محمد كما تعينه عدة روايات أخرى ن والشافعي إنما جالس محمدا ليأخذ عنه كتبهم سماعا ليعرف أقوالهم، ومغزاه في ذلك أمران:

أحدهما: ما صرح به في بعض الروايات أنه أحب إن يعرف اقاويلهم وما يحتجون به ليتمكن من الرد عليهم فيما يراه خطأ ومناظرتهم فيه ن فإن عماد المناظرة أن يحتج على المخالف بأقواله لإنه قد يحتج بما ليس بحجة فيقال له ك إن كانت هذه حجة فلم خالفتها في موضع كذا وموضع كذا؟ وقد يرد الحجة فيقال له ك فقد احتججت بها أو بمثلها في موضع كذا وموضع كذا. ولا تكاد تخلومناظرة من مناظرات الشافعي من هذه الطريقة.

المغزى الآخر مغزى كل عالم متدين، وهو أن يعرف ما يحتجون به فربما وقف على حجة لم يكن قد عرفها أو على ما يدل على خلل في دليل كان يستدل به، أو نظر قد كان يعنمده وهذا لا يأنف منه المجتهد المتدين ن فإن غالب حجج الفقه ظنية لا يأمن المجتهد إن يخطئ وأن يكون عند غيره ما ليس عنده. فالحق إن الشافعي سمع بعض الكتب من محمد على سبيل الرواية، والعالم قد يسمع ممن هو فوقه وممن مثله وممن هو دونه. وقد يكون حضر بعض دروس محمد للمغزى المتقدم، كل ذلك والشافعي باق على مذهبه لم يقلد محمدا ولا تابعه متابعة التلميذ المطلق لأستاذه، بل كان محمد إذا قام ناظر الشافعي أصحاب محمد يقرر لهم مذهبه ويحتج عليه ويفند ما استدل به محمد وغيره. أما تأبيه أول من مناظرة محمد فمن كمال عقله ووفور أدبه، لأنه كان محتاجا إلى سماع تلك الكتب ومعرفة أقاويل القوم ن فخشى إن يتكدر محمد فيتعسر عليه، وقد جاء انه تعسر عليه في كتاب فكتب إليه أبياتا أثنى عليه فيها وقال فيها:

ص: 651

العلم ينهى أهله

أن يمنعوه أهله

لعله يبذله

لأهله لعله

قال الشافعي: «فحمل محمد الكتاب في كمه وجاء به معتذرا من حينه» .

ومن الأثقال التي حملها الأستاذ تلك الرواية قوله «فبهذه الرواية يعلم إن ما في (الأم) من محادثات للشافعي مع بعض الناس ليس مناظرة للشافعي مع محمد بن الحسن بل مع بعض أصحابه على خلاف ما توهمه بعضهم» .

أقول: من مكارم أخلاق الشافعي وكمال عقله وصدق إخلاصه أن غالب ما يسوقه من المناظرات لا يسمى من المناظر، ولأن مقصوده إنما هو تقرير الحق ودفع الشبهات وتعليم طرق النظر. وتسمية المناظر يتوهم فيها حظ النفس كأنه يقول: ناظرت فلانا المشهور فقطعته، وفيها غض من المناظر بما يبين من خطائه. والواقع أن المناظرات التي في (الأم) وغيرها من كتب الشافعي، منها ما هو مع محمد بن الحسن، ومنها ما هو مع بعض أصحابه في حياته أو بعد وفاته، وربما صرح الشافعي باسم محمد بن الحسن» كما تراه في (الأم) ج 7 ص 278 السطر الأول وص283 السطر 24 وص 300 السطر 300 والسطر 15 وساق ج 3 ص 106 المناظرة مع غير مسمى ثم قال في أثنائها آخر الصفحة: «وقلت لمحمد بن الحسن أنت أخبرتني عن أبي يوسف عن عطاء بن السائب

» وإنما صرح به لئلا يكون رواية عن مجهول، ثم صرح به الصفحة الثانية السطر 16 لأنه قد عرف سابقا فلم يبق معنى لإيهامه وانظر ج 7 ص 82. وربما لم يسمعه ولكن يكني عنه بما يعلم أنه محمد بن الحسن كما في ج 1 ص 231 وج 4 ص 5 ود 7 ص 79 وربما يكون في السياق ما يدل أنه محمد بن الحسن كما في ج 1 ص 56 وج 3 ص 189 وج 4 ص 17 وج 5 ص 119. هذا ومناظرته لمحمد في الشاهد واليمين مشهورة في تلك الرواية وغيرها ومع ذلك ساقها الشافعي في (الأم) ولم يسم مناظرة، ومن المناظرات ما يدل السياق أنها مع غير محمد كما في

ص: 652

ج 3 ص 195 و275 ومنها ما هو على الاحتمال، وإنما تأبى الشافعي أو لا لما سبق، فلما عرف غنصاف محمد واغتبط محمد بمناظرته كثرت المناظرات بينهما. وفي (توالي التأسيس) ص 71 من طريق «أبي حسان الحسن بن عثمان الزيادي قال: كنت في دهليز محمد بن الحسن فخرج محمد راكبا فنظر فرأى الشافعي قد جاء فثنى رجله ونزل وقال لغلامه: أذهب فاعتذر، فقال له الشافعي / لنا وقت غير هذا، قال: لا، وأخذ بيده فدخلا الدار / قال أبوحسان: وما رأيت محمدا يعظم أحدا إعظام الشافعي» .

ومن تدبر مناظرات الشافعي لمحمد وجدها مناظرة الأكفاء، وعلم منها أن الشافعي كان حينئذ مجتهدا كاملا، وأن محمدا كان مع مكانته من الفقه والسن والمنزلة من الدولة وكثرة الأتباع على غاية من الإنصاف في البحث والنظر. والإنصاف أنه كان لتلك المناظرات أثر في الرجلين فاتفقا على مسائل رجع فيها الشافعي عما كان يتابع فيه مالكا، أو رجع محمد عما كان يتابع فيه أبا حنيفة، ومن تصفح كتب الحنفية التي يذكر فيها قول الشافعي ظهر له صحة ما قلنا، وواضح أنه لا يلزم من هذا أن يتفقا في جميع المسائل التي تناظرا فيها.

ومن براعة الشافعي الفائقة ومهارته الخارقة أنه يجمع في مناظراته بين لطف الأدب وحسن العشرة واستيفاء الحق حتى في التشنيع، ساق في كتاب (اختلاف الحديث) بابا تراه في هامش (الأم) ج 7 ص 105- 125 في أحكام الماء وفيه ذكر القلتين وغير ذلك الأحاديث ومناظرة مع من لم يسمعه، لكن يتبين بالسياق أنها ولا إجماعا ولا قياسا، ولقد قلتم فيه أقاويل لعله لوقيل لعاقل: تخلطا، فقال ما قلتم لكان قد أحسن التخاطؤ» ! ثم ذكر الأحاديث وسأله: ^ 423

أثابتة هي؟ فاعترف بثبوتها فقال ص 116: «فقلت له: لقد خافتها كلها وقلت قولا اخترعته مخالفا للأخبار خارجا من القياس، قال: وما هو؟ قلت: اذكر القدر

قال: الذي إذا حرك أدناه لم يضطرب اقصاه» فأجابه، ثم ساق الكلام إلى أن قال ص 120:

ص: 653

«قلت

إني لأحسبكم لو قال هذا غيركم لبلغتم به أن تقولوا القلم عنه مرفوع! فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ» ، ثم ساق إلى أن قال ص 121- 122: «فقال: ما أحسن قولكم في الماء؟ قلت: أفترجع إلى الحسن؟ فما علمته رجع

» .

ومن لطائفه ما تراه في (الأم) ج 6 ص 160 ذكر مناظرته مع بعضهم إلى أن قال: «وكانت حجته في أن يقتل المرأة على الردة شيئا رواه عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس

وكلمني بعض من يذهب هذا المذهب وبحضرتنا جماعة من أهل العلم بالحديث، فسألناهم عن هذا الحديث فما علمت واحدا منهم سكت عن أن قال: هذا خطأ، والذي روى هذا ليس ممن يثبت أهل العلم حديثه، فقلت له: قد سمعت ما قال هؤلاء الذين لا شك في علمهم بحديثك

قال م إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس

» فكأن الشافعي كان متوقعا البحث في ذاك المجلس عن هذه المسألة، وأن يستدل مناظره بحديث أبي حنيفة عن عاصم، وكره الشافعي أن يقول هو في أبي حنيفة شيئا يسوء صاحيه، وكان لا بد له من بيان آن الحديث أن يحضروا المجلس ليكون الكلام في أبي حنيفة منهم، ولعله أتم اللطف بأن أظهر انه لم يتواطأ معهم على الحضور! وألطف من هذا أنه حافظ على هذا الخلق الكريم في حكايته المناظرة في كتابه وهو بمصر بعيدا عن الحنفية فقال:«رواه عن عاصم» وترك تسمية الراوي عن عاصم وهو أبو حنيفة، وقال في حكاية قوله الجماعة:«والذي روى هذا» ولم يقل: «وأبو حنيفة» - وقد حاول التركماني استغلال هذا الأدب فقال في (الجوهر النقي) «أبو رزين صحابي، وعاصم وإن تكلم فيه بعضهم، قال الدارقطني: في حفظه شيء وقال ابن سعد: ثقة ن إلا أنه كثير الخطأ في حديثه، فإن ضعفوا هذا الأمر لجله فالأمر فيه قريب فقد وثقه جماعة

وإن ضعف لأجل أبي حنيفة فهو وإن تكلم فيه بعضهم فقد وثقه كثيرون

ص: 654

وأخرج له ابن حبان في (صحيحه)

» أطنب في مدح أبي حنيفة إلى إن قال: «وذكر أبو عمر في. التمهيد) أن أبا حنيفة والثوري رويا هذا الأثر عن عاصم ن وكذا أخرجه الدارقطني بسند جيد عنهما عن عاصم وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) عنه فقد تابع الثوري أبا حنيفة..» كذا قال، وسعى جهده في قلب الحقائق فذكر أو لا أن يكونوا أرادوا عاصما ومهد لذلك بأن ذكر غمز الدارقطني وابن سعد له، ولما ذكر أبا حنيفة لم يذكر شيئا من كلامهم فيه. وإنما اكفى بخطفه مجملة ثم راح يطنب في إطرائه. وذكر إخراج ابن حبان في (صحيحه) ونسى كلام ابن حبان في أبي حنيفة في (كتاب الضعفاء) كما يأتي في ترجمة ابن حبان وغرضه أن يوقع في نفس القرىء. ترجيح أنهم أرادوا عاصما أرادوا أبا حنيفة وأعرض عما رواه البيهقي نفسه في ذاك الموضع «

أحمد بن حنبل ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فقال: أما من ثقة فلا» . وحكى عن (التمهيد) ولا أشك أن صاحب (التمهيد) قد أو ضح أن الثوري إنما سمعه من أبي حنيفة ثم حكى عن الدارقطني، والذي في (سنن الدارقطني) المطبوع ص 338 «

عبد الرزاق عن سفيان عن ابي حنيفة عن عاصم

» نعم ذكروا أن عبد الرزاق رواه في (مصنفه)«عن سفيان عن عاصم» ولا يبعد أن يكون سفيان إنما قال: «يحكى عن عاصم» أو نحو ذلك فأطلق بعضهم «سفيان عن عاصم» اتكالا على أنه لا مفسدة في هذا لاشتهار سفيان بالتدليس فلا فلا يحمل على السماع كما قدمت شرحه في ترجمة حجاج بن محمد، وقد ساق الخطيب في (تاريخه) بعض ما يتعلق بهذا الحديث فاكتفى الأستاذ بالتبجح بأن سفيان قد روى عن ابي حنيفة! وقد روى ابن ابي حاتم في ترجمة الثوري من (تقدمه الجرح والتعديل) عن صالح بن أحمد بن حنبل عن علي ابن المديني عن يحيى بن سعيد القطان قال:«سألت سفيان عن حديث عاصم في المرتدة فانكر وقال: «ليس من حديثي» وقد أعل ابن التركماني بعض الأحاديث بان الثوري مدلس، وتغافل عن ذلك هنا مصرا على إن الثوري قد تابع أبا حنيفة. وإذا تسامح العالم نفسه مثل هذه المسامحة، فالجاهل خير منه بألف درجة! والمقصود هنا بيان كرم أخلاق الشافعي رحمه الله.

ص: 655