الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح
(1)
في (تاريخ بغداد) 13/411: عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: قول أبي حنيفة: الطلاق قبل النكاح؟ فقال: «مسكين أبو حنيفة، كأنه لم يكن من العراق، وكأنه لم يكن من العلم بشيء، قد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وعن نيف وعشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، عطاء، وطاوس، وعكرمة كيف يجترى أن يقول: تطلق؟» .
قال الأستاذ ص 142: «
…
على أن مذهب أبي حنيفة أنه لا طلاق إلا في ملك أو مضافاً إلى ملك أو علقة من علائق الملك،
…
وقد أجمعت الأمة أنه لا يقع طلاق قبل النكاح لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ» الآية، فمن علق الطلاق بالنكاح وقال: إن نكحت فلانة فهي طالق. لا يعد هذا المعلق مطلقاً قبل النكاح ولا طلاق واقعاً قبل النكاح، وإنما يعد مطلقاً بعده حيث يقع الطلاق بعد عقد النكاح فيكون هذا خارجاً من متناول الآية ومن متناول حديث: لا طلاق قبل النكاح، لأن الطلاق في تلك المسألة بعد النكاح لا قبله، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابة الثلاثة وعثمان البتي. وهو قول الثوري ومالك والنخعي ومجاهد والشعبي وعمر بن عبد العزيز فيما إذا خص. والأحاديث في هذا الباب لا تخلو عن اضطراب، والخلاف طويل الذيل بين السلف
(1) الأصل: نكاح وهو خطأ مطبعي (صفحة 988)
فيما إذا عم أو خص. وقول عمر بن الخطاب صريح فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابة، وتابع الشافعي ابن المسيب سواء عم أو خص، وإليه ذهب أحمد.
أقول: قال البخاري في (الصحيح) : «باب لا طلاق قبل النكاح وقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» . وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ويروى في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعيد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق» .
والآثار عن جماعة من هؤلاء صحيحه كما في (الفتح) ولم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروي عن ابن مسعود إنه إذا خص وقع وإذا عم كأن قال: «كل أمرأة
…
» لم يقع، وعن ابن عباس انه انكر هذا فقال: «ما قالها زلم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروى عن ابن مسعود أنه إذا خص وقع، وإذا عم كأن قال: «كل امرأة
…
» لم يقع، وعن ابن عباس أنه أنكر هذا فقال: «ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم
…
قال الله تعالى
…
» فتلا الآية وممن نقل عنه هذا القول الشعبي وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وهو مشهور عن مالك، وقيل عنه كالجمهور أنه لا يقع مطلقاً وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع مطلقاً. ولا يعلم له سلف في ذلك.
فأما الآية فاحتج بها حبر الأمة وترجمان القران عبد الله بن عباس ثم زين العابدين على بن الحسين ثم البخاري على عدم الوقوع مطلقاً، وزعم بعضهم كالأستاذ أنها لا تدل على أنه لا يقع الطلاق على المرأة قبل نكاحها فأما من قال:«إن تزوجت فلانة فهي طالق» فلا تدل الآية على عدم وقوعه لأنه إذا وقع فإنما يقع
بعد النكاح، وأقول: يقال: «طلقت (بفتح اللام مخففة) فلانة أي انحلت عقدة نكاحها بقول من الزوج، ويقال: «طلق فلان امرأته» أي جعلها تطلق كما يقال سرّحها أي جعلها تسرح، وسيّرها جعلها تسير، وغير ذلك. فطلاق الرجل يتضمن أمرين: الأول: قوله الخاص. والثاني: وقوع الأثر على المرأة فتنحل به عقدة نكاحها. وإذا قيل: «طلق فلان امرأته اليوم» فالمتبادر أن قوله وانحلال العقدة وقعا ذاك اليوم فهذا هو الحقيقة فمن قال لإمراته يوم السبت: إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق لم يصدق على وجه الحقيقة أن يقال قبل يوم الجمعة: إنه طلق. ولا أن يقال: طلق يوم السبت، ولا طلق قبل يوم الجمعة ولكنه يقال بعد مجيء يوم الجمعة: إنه طلق. فإذا أُريد التفضيل قيل: علق طلاقها يوم السبت وطلقت يوم الجمعة. ونظير ذلك، إذا جرح رجل آخر يوم السبت جراحة مات منها يوم الجمعة فلا يقال حقيقة قبل الموت أنه قتل، ولكن يقال بعد الموت أنه قتله، ولا يقال قتله يوم السبت ولا يوم الجمعة بل يقال جرحه يوم السبت فمات يوم الجمعة. فقوله تعالى في الآية:«ثم طلقتموهن» يقتضي تأخير الأمرين معاً: قول الرجل وانحلال العقدة. ويؤيده أمرين:
الأول: قوله: «ثم طلقتموهن» وكلمة «ثم» تقتضي المهلة، وإذا كان الطلاق معلقاً بالنكاح، وقلنا إنه يقع وقع بلا مهلة.
الثاني: قوله: «وسرحوهن سراحاً جميلاً» والتسريح هنا إرجاعها إلى أهلها وإنما يكون ذلك إذا كانت قد زفت إليه، ومن كان معلوماً أنه بنكاحه يقع طلاقه فمتى تزف إليه المرأة حتى يقال له: سرحها سراحاً جميلاً؟
وأما الحديث فاحتج به جماعة من المتقدمين على عدم الوقوع، وتأوله بعضهم بما ذكر الأستاذ، وأقول: إن كان لفظ «طلاق» فيه اسماً من التطليق كالكلام من التكلم سقط التأويل كما يعلم مما مر، وإن كان مصدر قولنا «طَلَقَتِ المرأةُ» كان للتأويل مساغ، والأول هو الأكثر والأشهر في الاستعمال، وقد دفع التأويل بأنه لا
يجهل أحد أن المرأة لا تطلق ممن ليس لها بزوج فحمل الحديث على هذا النفي يجعله خلوا عن الفائدة.
وأما النظر فلا ريب أن الله تبارك وتعالى وإنما شرع النكاح والطلاق لمقاصد عظيمة، وأن مثل ذلك الطلاق لا يحتمل أن يحصل به مقصد شرعي، وهو مضاد لشرع النكاح.
وبعد فإذا لم يثبت عن السلف قبل أبي حنيفة إلا قولان، وأحدهما تدفعه الأدلة المذكورة وهو ضعيف في القياس، تعين القول الآخر وهو مذهب علي وابن عباس ثم مذهب الشافعي وأحمد. والله الموفق (1) .
(1) قلت: بقى على المؤلف رحمه الله شيء مما زعمه الكوثري لم يتعقبه، وهو حقيق بذلك وهو قوله:«إن الأحاديث في الباب لا تخلو عن اضطراب» . فهذا القول على إطلاقه باطل، ما أظن يخفى بطلانه حتى على الكوثري نفسه! فإن في الباب أحاديث كثيرة منها خالية عن أي اضطرب أو علة قادحة، وأحدها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق عنه عند أبي داود والترمذي وحسنه. والثاني: عن جابرعند الطيالسي والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
والثالث: عن المسور بن مخزمة، أخرجه ابن ماجه بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ البوصيرى. وهذه الأحاديث وغيرها مخرجة في «إرواء الغليل» رقم (2068) .ن