المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل - ط المكتب الإسلامي - جـ ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌110- صالح بن محمد التميمي الحافظ الملقب: «جزرة»

- ‌111- الصقر بن عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل

- ‌112- ضرار بن صرد

- ‌113- طريف بن عبيد الله

- ‌114- طلق بن حبيب

- ‌115- عامر بن إسماعيل أبو معاذ البغدادي

- ‌116- عباد بن كثير

- ‌117- عبد الله بن أبي القاضي

- ‌118- عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني

- ‌119- عبد الله بن جعفر بن درستويه

- ‌120- عبد الله بن خُبَيْق

- ‌121- عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي

- ‌122- عبد الله بن سعيد

- ‌123- عبد الله بن سليمان بن الأشعث أبو بكر بن أبي داود السجستاني

- ‌124- عبد الله بن صالح

- ‌125- عبد الله بن عدي أبو أحمد الجرجاني الحافظ مؤلف (الكامل)

- ‌126- عبد الله بن عمر بن الرماح

- ‌127- عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري

- ‌128- عبد الله بن محمد بن حميد أبو بكر بن أبي الأسود

- ‌129- عبد الله بن محمد بم جعفر بن حيان أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ

- ‌130- عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني

- ‌131- عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بصاحب الخان بأرمية

- ‌132- عبد الله بن محمد بن سيار الفرهياني ويقال الفرهاذاني

- ‌133- عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أبو القاسم البغوي

- ‌134- عبد الله بن محمد العتكي

- ‌135- عبد الله بن محمود

- ‌136- عبد الله بن معمر

- ‌137- عبد الأعلى بن مسهر أبو مسهر الدمشقي

- ‌138- عبد الرحمن بن بشير بن سلمان

- ‌139- عبد الرحمن بن عمر الزهري أبو الحسن الأصبهاني الأزرق المعروف برسته

- ‌140- عبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد بن أبي حاتم الرازي

- ‌141- عبد الرزاق بن عمر البَزيعي

- ‌142- عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي

- ‌143- عبد السلام بن محمد الحضرمي

- ‌144- عبد العزيز بن الحارث أبو الحسن التميمي

- ‌145- عبد الله بن حبيب القرطبي أحد مشاهير المالكية

- ‌146- عبد الملك بن قريب الأصمعي

- ‌ ثناء الأئمة على الأصمعي

- ‌147- عبد الملك بن محمد أبو قلابة الرقاشي

- ‌148- عبد المؤمن بن خلف أبو يعلى التميمي النسفي الحافظ

- ‌149 - عبد الواحد بن برهان العكبري

- ‌150- عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري

- ‌151- عبد بن أحمد أبو ذر الهروي

- ‌152- عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي

- ‌153- عبيد الله بن محمد بن حمدان أبو عبد الله ابن بطة العكبري

- ‌154- عبيدة الخراساني

- ‌155- عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك الدقاق

- ‌156- عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ

- ‌157- علي بن أبي الحسن المعروف بابن طيبة الرزاز

- ‌158- علي بن إسحاق بن عيسى بن زاطيا

- ‌159- علي بن جرير الباوردي

- ‌160 - علي بن زيد الفرائضي

- ‌161- علي بن صدقة

- ‌162- علي بن عاصم

- ‌163- علي بن عبد الله بن المديني

- ‌164- علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو الحسن الدارقطني

- ‌165- على بن عمر بن محمد

- ‌166- علي بن محمد بن سعيد الموصلي

- ‌167- علي بن محمد بن مهران السواق

- ‌168- علي بن مهران الرازي

- ‌169- عمار بن زريق

- ‌170- عمر بن الحسن أبو الحسين الشيباني القاضي المعروف بابن الأشناني

- ‌171- عمر بن قيس المكي

- ‌172- عمر بن محمد بن عمر بن الفياض

- ‌173- عمر بن محمد بن عيسى السذابي الجوهري

- ‌174- عمر بن علي بن البحر أبو حفص الفلاس

- ‌175- عمران بن موسى الطائي

- ‌176- عنبسة بن خالد

- ‌177- فهد بن عوف أبو ربيعة، اسمه زيد ولقبه فهد

- ‌178- القاسم بن حبيب

- ‌179- القاسم بن عثمان

- ‌181- قطن بن إبراهيم

- ‌182- قيس بن الربيع

- ‌183- مالك بن أنس الأصبحي الإمام

- ‌184- محبوب بن موسى أبو صالح الفراء

- ‌185- محمد بن إبراهيم بن جناد المنقري

- ‌186- محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف أبو أحمد الجرجاني الغطريفي الحافظ

- ‌187- محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رزق يعرف بابن رزق وبأبي رزقويه

- ‌188- محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الآدمي

- ‌189- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي الشافعي أبو عبد الله

- ‌190- محمد بن أبي الأزهر

- ‌191- محمد بن إسحاق بن خزيمة

- ‌192- محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري صاحب (الصحيح)

- ‌193- محمد بن إسماعيل أبو إسماعيل الترمذي

- ‌194- محمد بن أعين أبو الوزير

- ‌195- محمد بن بشار بندار

- ‌196- محمد بن جابر اليمامي

- ‌198- محمد بن جعفر الأنباري

- ‌199- محمد بن جعفر الراشدي

- ‌200- محمد بن حبان أبو حاتم البستي الحافظ

- ‌201- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش

- ‌202- محمد بن الحسن بن حميد بن الربيع

- ‌203- محمد بن حماد

- ‌204- محمد بن حمدويه أبو رجاء المروزي

- ‌205- محمد بن روح

- ‌206- محمد بن سعد العوفي

- ‌207- محمد بن سعيد البورقي

- ‌208- محمد بن الصقر بن عبد الرحمن

- ‌209- محمد بن العباس بن حيوية أبو عمر الخزاز

- ‌210- محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي

- ‌211- محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر الشافعي

- ‌212- محمد بن عبد الله سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه «مُطين»

- ‌213- محمد بن عبد الله بن الحكم

- ‌214- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ

- ‌215- محمد بن عبد الله بن محمد بن حموديه أبو عبد الله الضبي الحاكم

- ‌216- محمد بن عبد الله بت محمد بن عبد الله أبو الفضل الشيباني

- ‌217- محمد بن عبيد الطنافسي

- ‌218- محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين

- ‌220- محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان

- ‌221- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق

- ‌222- محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي

- ‌223- محمد بن علي البلخي

- ‌224- محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي

- ‌225- محمد بن عمر بن محمد بن بهتة

- ‌226- محمد بن عمرو العقيلي الحافظ

- ‌227- محمد بن عوف

- ‌228- محمد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم

- ‌229- محمد بن فليح بن سليمان

- ‌230- محمد بن كثير العبدي

- ‌231- محمد بن كثير المصيصي

- ‌232- محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه

- ‌233- محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو المفتوح الخياط

- ‌234- محمد بن معاوية الزيادي

- ‌235- محمد بن موسى البربري

- ‌236- محمد بن ميمون أبو حمزة السكري

- ‌237- نصر بن محمد بن مالك

- ‌238- محمد بن يعلي زنبور

- ‌239- محمد بن يوسف الفريابي

- ‌240- محمد بن يونس الجمال

- ‌241- محمد بن يونس الكديمي

- ‌242- محمود بن إسحاق بن محمود القواس

- ‌243- مسدد بن قطن

- ‌244- مسلم بن أبي مسلم

- ‌245- المسيب بن واضح

- ‌246- مصعب بن خارجة بن مصعب

- ‌247- مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري الأصم

- ‌248- معبد بن أبو شافع

- ‌249- المفضل بن غسان الغلابي

- ‌250- منصور بن أبي مزاحم

- ‌251- موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي

- ‌252- موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي

- ‌253- مؤمل بن إسماعيل

- ‌254- مؤمل بن إهاب

- ‌255- مهنأ بن يحيى

- ‌256- نصر بن محمد البغدادي

- ‌257- النضر بن محمد المروزي

- ‌258- نعيم بن حماد

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس والسادس:

- ‌الحديث السابع والثامن:

- ‌259- الوضاح بن عبد الله أبو عوانة أحد الأئمة

- ‌260- الوليد بن مسلم

- ‌261- هشام بن عروة بن الزبير بن العوام

- ‌262- هشام بن محمد بن السائب الكلبي

- ‌263- الهيثم بن جميل

- ‌264- يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي

- ‌265- يحيى بن عبد الحميد الحماني

- ‌266- يزيد بن يوسف الشامي

- ‌267- يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي

- ‌268- يوسف بن أسباط

- ‌269- أبو الأخنس الكناني

- ‌270- أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي

- ‌271- أبو جعفر

- ‌272- أبو محمد

- ‌273- ابن سختويه بن مازيار

- ‌القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية

- ‌المسألة الأولى: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس

- ‌المسألة الثانية: رفع اليدين

- ‌المسألة الثالثة: أفظر الحاجم والمحجوم

- ‌المسألة الرابعة: إشعار الهدى

- ‌المسألة الخامسة: المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه

- ‌المسألة السادسة: درهم وجوزة بدرهمين

- ‌المسألة السابعة: خيارالمجلس

- ‌حديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق

- ‌المسألة الثامنة: رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال: نحن زوجان

- ‌المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح

- ‌المسألة العاشرة: العقيقة مشروعة

- ‌المسألة الحادي عشرة: للراجل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة، سهم له وسهمان لفرسه

- ‌المسألة الثانية عشرة: أما على القاتل بالمثقل قصاص

- ‌المسألة الثالثة عشرة: لا تعقل العاقلة عبداً

- ‌المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً

- ‌المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال

- ‌تتمة

- ‌المسألة السادسة عشرة: نكاح الشاهد امرأة شهد زوراً بطلاقها

- ‌المسألة السابعة عشرة: القرعة المشروعة

الفصل: ‌المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال

‌المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال

قال الأستاذ ص 185: «وأما القضاء بشاهد ويمين فلم يرد فيه ما هو غير معلل عند أهل النقد، وحديث مسلم فيه انقطاعات مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه كما فصل في محله. والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه

حتى أن يحيى الليثي رواية (الموطأ) وغيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكاً في المسألة، وكم بين الشافعية من خالف الشافعي في المسألة، فسل قضاة العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لوحكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة؟ فضلاً عن الضعف الظاهر فيما يحتجون به في الأخذ بشاهد ويمين» .

أقول: حديث مسلم هو قوله في (صحيحه) : «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد ابن عبد الله بن نمير قالا ثنا زيد - وهو أبن حباب - ثني سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشهادة» .

فأما الإنقطاعات المزعومات فأحدهما بين عمرووابن عباس. والآخرين بين قيس وعمرو.

أما الأول فقال ابن التركماني: «في (علل الترمذي) : سألت محمداً (البخاري) عنه- أي هذا الحديث - فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس» .

ص: 914

أقول: ليس لهذه العندية ما يسندها سوى أمرين:

الأول: أن محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه: عن عمروعن طاوس عن ابن عباس. وبعضهم قال: عن عمروعن جابر بن يزيد عن ابن عباس.

الثاني: استبعاد صحة الحديث لعدم اشتهاره عن ابن عباس ومخالفته لظاهر القرآن.

فأما الأول فقد أجاب عنه البيهقي بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء، فأما التقات فرووه عن الطائفي عن عمروعن ابن عباس كما يأتي: ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء.

أقول: ومع ذلك فلوصح الوجهان المذكوران أو أحدهما لصح الحديث أيضاً كما صحح الشيخان حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر في لحوم الخيل، مع رواية ابن عيينة وغيره له عن عمروعن جابر. (1) ولهذا نظائر.

وأما الثاني: فالجواب عنه من وجهين:

الأول: أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه فلا يزيله إلا دعوى أن بين عمرووابن عباس واسطة ضعيفة، إذ لو كان بينه وبينه ثقة لصح الحديث أيضاً كما مر، وليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا فأن عمراً لا يدلس مثل هذا التدليس، وإنما قد يرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه، ومحمد إمام حجة. وقد تتبعت ما قيل أن عمراً أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق، فلم أجد إلا حديثاً حاله كحال الحديث السابق، وذلك أن في (مسند أحمد) ج3 ص 368:

(1) أنظر تخريجه في «الإرواء» (2551) .

ص: 915

«ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمروا بن دينار عن جابر

، قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا» . والحديث في (صحيح البخاري) من طريق ابن عيينة «قال عمرو: أخبرني عطاء أنه سمع جابراً

.» فبين عمرووجابر في هذا عطاء بن أبي رباح، وهو إمام حجة. ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما، فإن صح فالواسطة في أحدهما عكرمة وطاوس أو أحدهما.

وفي الثاني: ابن أبي مليكة، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات. فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمروعن ابن عباس: لعله لم يسمعه منه. فإنما يسوغ أن يفرض أن عمراً سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس. وفي ترجمة عمرومن (تهذيب التهذيب) : قال الترمذي: قال البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت» . قال ابن حجر: «قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلساً» .

أقول: لم أظفر برواية عمروذاك الحديث عن ابن عباس، والقصة - وفيها الحديث- ثابتة في (صحيح مسلم) و (مسند الحميدي) من رواية عمروعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، فإن كان بعضهم روى الحديث عن عمروعن ابن العباس فلا ندري من الراوي؟ فإن كانت ثقة فالحال في هذا الحديث كما تقدم، حدث به عمرومراراً عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس، ثم قال مرة على سبيل الفتيا أو المذاكرة:«قال ابن عباس» وليس هذا بالتدليس، على أنه لا مانع من أن يسمع من أبن أبي مليكة عن ابن عباس القصة وفيها الحديث ويسمع من ابن عباس نفسه الحديث. ولا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن سيخ ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه ثم يرويه تارة كذا. وهذا النوع يسمى «المزيد في متصل الأسانيد» وقد عد بعضهم منه حديث عمروفي لحوم الخيل. وقد ذكر مسلم في مقدمة (صحيحه) أمثله مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه، وذكر

ص: 916

منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل وقد مر، وهذا حكم من مسلم بأن عمراً غير مدلس، وأن ما قد يقع عن مثل ذاك الإرسال ليس بتدليس. وأحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمروالتي لم يصرح فيها بالسماع، واحتج مسلم بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمروعن جابر، مع انه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمراً لم يصرح فيه بالسماع من جابر. وهذا الترمذي حاكي الحكايتين عن البخاري صح في لحوم الخيل رواية ابن عينة التي فيها «عمروعن جابر» وخطأ حماد بن زيد في قوله «عمروعن محمد بن علي عن جابر» مع جلالة حماد وإتقانه، فلو كان عند الترمذي أن عمراً يدلس لما كان عنده بين الروايتين منافاة. والصحيح أنه لا منافاة ولا تدليس كما مر. فأما ما في (معرفة الحديث) للحاكم ص 111 في صدد كلامه في التدليس: «فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة

وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة» . فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قط ولا سمع منه شيئاً، فإن تلك العبارة هي في صدد قوله ص 109 «الجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط

» . وحاصل ذلك أن عمراً يرسل عمن لم يره من الصحابة، وهذا على قلة ما قد يوجد عن عمروفيه ليس بتدليس وإنما يسميه جماعة تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، فأما أن يرسل المحدث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه فلا إيهام فيه فلا تدليس. وعادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن ينصوا على أسماء الذين روى عنهم ولم يسمع منهم، كما تراه في تراجم مكحول والحسن البصري وأبي قلابة عبد الله بن زيد وغيرهم، ولم نجد في ترجمة عمروإلا قول ابن معين:«لم يسمع في البراء بن عازب» ولعله لم يرسل عن البراء إلا خبراً واحداً. وسماع عمرومن ابن عباس ثابت، والحكم عندهم فيمن ليس بمدلس ولكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة علة السماع إلا أن يتبين أنه لم يسمع، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمروعن جابر وقد تقدم. ووجه ذلك أنه لم يثبت

ص: 917

عليه إلا أنه قد يرسل لا على وجه الإيهام، ومعنى ذلكأنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه، فحيث وجدنا دليلاً واضحاً على عدم السماع فذاك، وحيث لم نجد كان الحكم هو السماع ألا ترى أن الثقة قد يخطئ، ومع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ، فأولى من ذلك أن يحكم بالاتصال في حديث من لم يعرف عنه ألا الإرسال حيث لا إيهام، لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه بخلاف المرسل. والحكم عندهم فيمن عرف بالتدليس وكثر منه إلا أنه لا يدلس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه أن عنعنته مقبولة، كما قالوه في ابن عيينة فما بالك بما نحن فيه؟

وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس فلا يضره بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه وهو عمرو بن دينار، وكم من حديث صححه الشيخان وغيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثل هذا أو أشد منه، هذا حديث «إنما الأعمال بالنيات» عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا أنه نصف العلم. وهذا مما يقتضي اشتهاره، وفي روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، وذكر فيه أن عمر بن الخطاب رواه وهو يخطب على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، ومع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر بن الخطاب، ولا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد غير يحيى بن سعيد الأنصاري، ومع ذلك صححه الشيخان وغيرهما وجعلوه أصلاً من أصول العلم، بل جعلوه نصف العلم كما مر.

فإن قيل: لكن له شواهد.

قلت: وحديث القضاء بالشاهد اليمين كذلك فقد جاء من رواية جماعة من

ص: 918

الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها. وجاء من رواية آخرين بأسانيد نصلح للاستشهاد، (1) وجاء من مرسل عدة من التابعين، وكان عليه عمل أهل الحجاز لا يعرف عندهم خلافه.

فإن قيل: فقد قلت في حديث ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المجن ما قلت.

قلت: ذاك خبر اضطرب فيه ابن إسحاق أشد أضطراب، وابن إسحاق في حفظه شيء، وجاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء، لا من روايته عن ابن عباس كما تقدم تفصيله في المسألة السابقة، وليس الأمر ههنا كذلك، ولا قريباً من ذلك. وقد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث، ومنها ما لو انفرد لم يضر.

وأما مخالفته لظاهر القرآن كما قد يشير إليه صنيع البخاري في (صحيحه) فكم من حديث صححه هو وغيره وهو مخالف لظاهر القرآن كحديث المنع من الجمع بين المرآة وعمتها أو خالتها، وحديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب، وحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وغير ذلك. وكم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم، وقد تقدم شيء من ذلك في المسألة الثانية عشر، وذكر ابن حجر في (الفتح) أمثلة من ذلك، وبسط الشافعي كلام في (الأم) ج 7 ص 6 - 31 ومع ذلك فمخالفة حديث القضاء بشاهد ويمين لظاهر القرآن مدفوعة كما ستراه.

قال الله تبارك وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ» إلى أن قال: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ

(1) سيأتي ذكر بعض شواهده 156-157.ن

ص: 919

إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» إلى أن قال «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» إلى أن قال «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ» .

إن قيل: أمر الله تعالى أن يستشهد عند المدينة رجلان فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك.

فالجواب: إن أردتم أنه لا يثبت مطلقاً إلا بذلك فهذا باطل، إذا قد يثبت الحق بالاعتراف، بالنكول فقط عند الحنفية، ومع يمين المدعي عندنا، وإن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك فهذا لا يفيدكم، فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد واليمين لا بالشاهد وحده.

فإن قيل: لو كان يثبت بشاهد ويمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل وامرأتين فائدة.

قلنا: بلى، له فوائد عظيمة، الأولى ما نصت عليه الآية:«ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» ، وهذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده، فكذلك يحصل بالشهادة التامة، فإن القضاء يحصل بشهادة تامة أظهر في القسط والعدل من القضاء بشاهد ويمين، وأقوم للشهادة لأن كلاً من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر، وأبعد عن الريبة كما لا تخفى، وقد دل الآتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط، وقيام الشهادة، والبعد عن الريبة، قد يحصل بما هو دون ما ذكر، فما هو؟ ليس إلا الشاهد واليمين، كما دل

ص: 920

عليه الحديث، فالآية تدل على صحة الحديث، لأنه لو لم يكن صحيحاً لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية.

الفائدة الثانية: أن ذلك أحوط للحق، إذ لوأستشهد رجل واحد فقط فقد يموت قبل أداء الشهادة، أو يعرض له ما تفوق به شهادته، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغيبة، فإذا كانا إثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معاً، وهذه أدنى درجات الاحتياط نبهت عليها الآية، ولم تمنع مما فوقها، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط، وذلك كأن تكون مدة الدين طويلة كخمس عشرة سنة، ووجد شاهدان شيخين كبيرين فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعاً قبل حلول الدين، أو يعرض لهم جميعاً ما تفوت به شهادتهم.

الفائدة الثالثة: إن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق بل لا بد معه من اليمين، وقد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها، أو لأنه لم يحضرها وإنما حضرها مورثة الذي قد مات، وقد يجن الدائن أو يموت ويكون وارثه صبياً أو مجنوناً فتتعذر اليمين وقت المطالبة فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه اويموت.

فإن قيل: ذكر البخاري في (الصحيح) عن ابن شبرمة انه أحتج على أبي الزناد بالآية وذكر قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» قال: «قلت: إذا كانت يكتفى بشاهد شاهد ويمين المدعي فما يحتاج أن تذكر أحدهما الأخرى؟ ما كان يصنع بذكر هذه الاخرى؟» .

قلت: قد تقدم ما يعلم منه الجواب، ولا بأس بإيضاحه فأقول: يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقياً حاضراً جائز الشهادة أن تتم فيكون ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأبعد عن الارتياب. ولا يتوقف ثبوت الحق على يمين المدعي وقد تكبر عليه أو تتعذر منه فيضيع الحق، أو يتأخر كما تقدم، وإن

ص: 921

كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوت شهادته، شهدت المرآتان وحلف المدعى معهما وثبت الحق كما هو مذهب مالك، والظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد، وهو مذهب قوي فإن الآية أقامت المرأتين مقام الرجل، وفي (الصحيحين) من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد ومروره على النساء وموعظته لهن «قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى» وهذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل، فأما إشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل فإنما هو والله اعلم لأن المطلوب في حق النساء الستر والصيانة، والشهادة تستدعي البروز وحضور مجالس الحكام والتعرض لطعن المشهود عليه.

فقد أتضح بحمد الله تبارك وتعالى انه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال إن الحديث مخالف لظاهر القرآن، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة.

وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة فذكروا هاهنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس أنه أدعى على رجل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» . وحديث (الصحيحين) عن ابن عباس مرفوعاً: «لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» لفظ مسلم.

والجواب على الحديث الاول: أنه في (الصحيحين) وغيرهما من طريق أبي وائل شقيق ابن سلمة عن الاشعث بن قيس، وأختلفت ألفاظ الرواة في مقاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي رواية «شاهداك أو يمينه» ، وفي أخرى «بينتك أو يمينه» وفي ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث: ألك بينة؟» قال الأشعث: قلت: لا، «قال فيحلف» هكذا في (صحيح البخاري) في «كتاب الأحكام» في «باب الحكم في البشر» من طريق سفيان الثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل، وهكذا رواه أبومعاوية عن الأعمش إلا أنه قال:«فقال لليهودي: احلف» . أخرجه البخاري في «كتاب الشهادات» من (صحيحيه)، «باب سؤال الحاكم المدعي: ألك بينة؟» .

ص: 922

ونحوه في (صحيح مسلم) و (مسند أحمد) ج 5 ص 211 من طريق أبي معاوية ووكيع عن الأعمش - إلى غير ذلك فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أجل من روى الحديث عن أبي منصور والأعمش وأجل من رواه عنهما سفيان الثوري وهو إمام الاتقان والفقه، وروايته هي الأشبه بآداب القضاء أن يبدأ فيسأل المدعي أله بينة؟ فإن لم يكن له بينة وجه اليمين على المدعى عليه. والبينة كل ما بين الحق، فتصدق على البينة التامة وهي ما لا يحتاج معها الى يمين، وبالبينة الناقصة وهي ما يحتاج معها الى يمين. على انه لوثبت ان لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«شاهداك أو يمينه» فدلالة هذا على نفي القضاء بشاهد ويمين ليست بالقوة، ودلالة أحاديث القضاء بالشاهد واليمين واضحة.

فإن قيل يقوي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قلت: فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل وامرأتين.

فإن قيل: يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبول رجل وامرأتين.

قلت: ويجوز أن يكون قد علم قبول شاهد ويمين. والحق أنه يجوز ان لا يكون قد علم ذا ولا ذاك، وليس هناك محذور، لأن من شأن المدعي أن يكون حريصاً على إظهار مل ما يؤمل أن ينفعه، فلو كان له شاهد وامرأتان أو شاهد فقط أو امرأة واحدة وقيل له:«شاهداك أو يمينه» لقال لا أجد شاهدين ولكني أجد كذا، وقد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة فإن فيها «قلت يا رسول الله ما لي بيمينه؟ وإن تجعلها تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر» أفتراه ينازع في هذا ويأخذ بما يشعر به قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان ما قاله «شاهداك» فلا يقول: لي شاهد واحد إن كان له؟

وأما الحديث الثاني فأوله يبين آخره، ويدل على أن محل قوله «اليمين على المدعى عليه» حيث لا يكن للمدعى إلا دعواه فقط، وكما أنه لا يتناول من له شاهدان لأنه لم يعط بمجرد دعواه، وإنما أعطي بدعواه مع شهادة الشاهدين فكذلك لا يتناول من له شاهد، لأنه إن أعطي فلم يعط بمجرد دعواه.

ص: 923

وأما ما يقال: إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول، فحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي مخالف للأصول، فتهويل، ويمكن دفعه بأن لما اقام شاهدا عدلا صار الظاهر بيده، فاذا اصر المدعي عليه على الانكار فهو مدع لبطلان ذاك الظهور، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه وصار المدعى عليه في معنى المدعي. ويمكن معارضته بأصل آخر، وهو: انه لا يخالف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعى.

فان قيل: ذاك إذا كانت بينة تامة.

قلت: لنا أن نمنع هذا. ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه انه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة، ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددا بين هذا الاصلين، فيؤخذ فيه بالدليل الخاص به، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي، فان حلف صارت البينة في معنا التامة، وان أبى صار في معنى من لا شاهد له أصلا. والله الموفق.

وأما الانقطاع الثاني وهو مبين في قيس وعمر وفلا وجه له، ولم يقله من يعتد به، وقد تقدم ان البخاري كأنه استبعد صحة الحديث، ثم لم يكن عنده إلا أن حدس إن عمرا لم يسمعه من ابن عباس، وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وهو الذي يشدد في اشتراط العلم باللقاء، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرولما تركه البخاري والتجأ إلي ذاك الحدس الضعيف الذي لا يجدي، وقيس ولد بعد عمروومات قبله، وكان معه في مكة وسمع كل منهما من عطاء وطاوس وسعد بن جبير ومجاهد وغيرهم، وكان عمرولا يدع الخروج الى المسجد الحرام والقعود فيه إلي أن مات، كما تراه في ترجمة من (طبقات ابن سعد) ، وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضا، وسمع عمرومن ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم ولم يدركهم قيس، فهل يظن بقيس انه لم يلق عمرا وهو هـ معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟ أو لم يكونا يصليان في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء غيره في المسجد ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة اذرع. اويظن بقيس انه استنكف السماع من عمرولأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالا؟ وقد قاتل الأستاذ أشد القتال

ص: 924

لمحاولة دفع قولهم أن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها، معرضا عن سماع الحديث لم يسمع من انس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين وقيل بعدها بسنه اوسنتين، وليس بيده إلا أنه قد قيل: أن أبا حنيفة رأى أنسا! وقد تعرضت لذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت من قسم التراجم، ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال.

وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال «وأما حديث ابن عباس فمنكر لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» فتوهم جماعة من آخرهم الأستاذ الكوثري أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسا عن عمرو منقطع لعدم ثبوت اللقاء بناء على القول باشتراط العلم به، القول الذي رده مسلم في مقدمة (صحيحه) ، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه.

وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهموه، فإنه ادعى أن الحديث منكر، ثم وجه ذلك بقوله:«لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» ولم يتعرض لسماعه منه ولقائه له بنفي ولا إثبات. ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيراً من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء.

فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد.

قلت: بل قد يكون لسبب آخر، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضل بن فضالة القتباني لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم عن الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري فكأن الطحاوي رأى أن قيس لو كان يروي عن عمر لجاء من روايته عنه عدة أحاديث لأن عمراً كان أقدم وأكبر وأجل. وقد سمع من الصحابة وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه بمكة منذ ولد، فحدس الطحاوي أن قيساً كان ممتنعاً من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره كما قد نستنكر أن نرى حديثاً من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى. فإن قيل فقد يكون لإستنكاره خشي إنقطاعه.

قلت: كيف يبنى على ظن امتناع قيس من الرواية عن عمر نفسه أن يحمل هذا

ص: 925

الحديث على أنه أرسله عنه؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسه كان أشد امتناعاً من أن يروي عن رجل عنه فضلاً عن أن يرسل عنه - أو بعبارة أخرى - يدلس، وقيس غير مدلس.

فإن قيل: فعلى ماذا يحمل؟

قلت: أما الطحاوي فكأنه خشي أن يكون سيف وهو راوي الحديث عن قيس - أخطأ في روايته عن قيس عن عمر.

فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟

قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يعرجوا عليه، هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث فيما يظهر إنما حدس أن عمراً لم يسمعه من ابن عباس، وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو، وهذا مسلم أخرج الحديث في (صحيحه) ، وثبته النسائي وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ، وسيف ثقة ثبت لوجاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم عن محمد بن يحيى لوجب قبوله، لأن المحدث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه، هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار

» ووهب وأبوه من الثقات الأثبات.

ذكر البيهقي ذلك في الخلافيات ثم قال: «ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا» نقله ابن التركماني في (الجوهر النقي) ، ثم راح يناقش البييهقي بناءاً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مر إبطال هذا الوهم، والطحاوي أعرف من أن يدعي ذلك لظهور بطلانه، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهم للقاء والسماع على فرض أن هناك مجالاً للشك في اللقاء، وقد بينا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع، ولكن قيساً عاجله الموت، ولما كان يحدث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حياً في المسجد نفسه ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو لأن عمراً معهم بالمسجد،

ص: 926

فكان قيس يحدث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمراً عن ذلك الحديث فحدثهم به فرووه عنه ولم يحتاجوا الى ذكر قيس، واستغنى سيف في هذا الحديث، وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس لأنه ثقة ثبت، ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو.

هذا وقد تابع قيساً على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي، ذكر أبو داود في (السنن) حديث سيف ثم قال:«حدثنا محمد بن يحيى وسلمة ابن شبيب قالا: ثنا عبد الرزاق نا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار - بإسناده ومعناه، قال سلمة في حديث قال عمرو: في الحقوق، وأخرجه البيهقي في (السنن) ج 10 ص 168 من طريق عبد الرزاق ومن طريق أبي حذيفة - كلاهما عن الطائفي. والطائفي استشهد به صاحبا (الصحيح) ، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وغيرهم، وقال ابن معين مرة: «ثقة لا بأس به وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطأ وإذا حدث من كتابه فليس به بأس، وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحب الي من داود العطار في عمرو» . وداود العطار هذا هو داود بن عبد الرحمن ثقة متفق عليه وثقة ابن معين وغيره.

وقال عبد الرزاق «ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوري» . وقال البخاري عن ابن مهدي «كتبه صحاح» . وقال ابن عدي: «لم أر له حديثاً منكراً» وضعفه أحمد، ولم يبين وجه ذلك، فهو محمول على أنه يخطأ فيما يحدث به من حفظه.

فأما قول الميموني: «ضعفه أحمد على كل حال من كتاب وغير كتاب» ، فهذا ظن الميموني، سمع أحمد يطلق التضعيف فحمل ذلك على ظاهره، وقد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل، ولا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ وقد اندفع احتماله بمتابعة سيف. (1)

(1) كذا في الأصل، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب:«قيس» فهو المتابع للطائفي كما هو ظاهر. ن

ص: 927

هذا، وللحديث شواهد منها حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» كان سهيل أصيب بما أنساه بعض حديثه ومن ذلك هذا الحديث، فكان سهيل بعذ ذلك يرويه عن ربيعة ويقول:«أخبرني ربيعة وهو عند يثقة أني حدثته إياه - ولا أحفظه» . والنسيان على غير قادحة، وقد رواه يعقوب ابن حميد عن محمد بن عبد الله العامري «أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدث عن أبيه - فذكره» وذكر ابن التركماني أنه اختلف على سهيل، رواه عثمان بن الحاكم عن زهير بن محمد عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت.

قلت: إن كان هذا مخالفاً لذاك فذاك أثبت، (1) عثمان مصري، قال فيه أبو حاتم:«ليس بالمتين» وزهير أنكروا «عليه» الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين. وروى المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» قال ابن التركماني: «مغيرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء» .

أقول: هذا حكاه عباس عن ابن معين. وقد قال الآجري: قلت «لأبي داود: إن عباساً حكى عن ابن معين أنه ضعف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ووثق (مغيرة بن عبد الرحمن) المخزومي. فقال: غلط عباس» احتج به الشيخان وبقية الستة، وقال أبو زرعة:«هو أحب إلي من أبي الزناد وشعيب» ، يعني في حديث أبي الزناد. كما في (التهذيب) .وشعيب هو ابن حمزة ثقة متفق عليه. قال أبو زرعة:«شعيب أشبه حديثاً وأصح من ابن أبي الزناد» . وابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة الثانية، وقد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال:«عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة» . وحكى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: «ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا» .

قال ابن التركماني: «قال صاحب (التمهيد) : أصح إسناد لهذا الحديث حديث

(1) قلت: قد صحح الطريقين عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت الإمامان: أبو حاتم وأبو زرعة الرازى، كما بينبته في «الإرواء» ، فإشارة ابن التركماني الى إعلاله انتصاراً لمذهبه لاقيمة له. ن

ص: 928

ابن عباس. وهذا بخلاف ما قال ابن حنبل» .

أقول: كلاهما صحيح، ولا يفيد الحنفية الإختلاف في أيهما أصح.

وذكر ابن عدي أن ابن عجلان وغيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله. (1) وهذا لا يوهن رواية المغيرة، إذا لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من الوجهين، وإنما كانم يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحاً عراقي، والخلاف في المسألة مع العراقيين، ومن عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم، ويردون الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازين، ولذلك جاء عن محمد بن علي بن الحسين أنهم سألوه: أقضى النبي صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد؟ قال: «نعم، وقضى به علي رضي الله عنه بين اظهركم» . ذكره البيهقي ج 10 ص 173. وذكر البخاري عن زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر الكوفيين في النبيذ «فجعل ابن المبارك يحتج بأحاديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار من أهل المدينة، قالوا: لا، ولكن من حديثنا! قال ابن المبارك

عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إذا سكر من شراب لا يحل له أن يعود فيه أبداً. فنكسوا رؤوسهم، فقال ابن المبارك للذي يليه: رأيت أعجب من هؤلاء؟ أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين فلم يعبأو ابه،

وأذكر عن إبراهيم فنكسوا رؤوسهم!» حكاه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 298.

وروى عبد الوهاب الثقفي وهو ثقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد» . أعله جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلاً. ونازع في ذلك الدارقطني ثم البيهقي. (2)

(1) قلت: عزو هذا لابن عدي فيه نظر، فإنه ليس عنده في ترجمة المغيرة من «الكامل» (ق386/2-1) ، والمصنف أخذه من «التهذيب» ، ولكن هذا لم يصرح بعزوه الى ابن عدي وانما هو من قول الذهبي في «الميزان» مصرحاً به أنه من قوله. ن

(2)

قلت: وهب أن الراجح أنه مرسل. فهو مرسل صحيح الاسناد، وهو حجة عند الحنفية، لا سيما وله شواهد موصولة كما تقدم، فالحديث صحيح حجة عند الجميع لولا العصيبة المذهبية عفانا الله منها. وقد خرجت كثيراً من الشواهد لهذا الحديث عن جماعة من الصحابة في «إرواء الغليل» .

ص: 929

وفي الباب أحاديث أخرى ومراسيل ومقاطيع عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما، والحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدعي لها الحنفية الشهرة، ويحتجون بها على خلاف القرآن والسنن المتواترة.

وأما قول الأستاذ: «مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه» . فيشير به إلى تأويلات أصحابه، فمنها زعم بعضهم في حديث مسلم:«قضى بيمين وشاهد» أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين، وقضى بشاهد حيث وجد الشهود، والمراد بـ (شاهد) الجنس وهذا التأويل كما ترى!

أولاً: لأنه خلاف الظاهر.

ثانياً: لأنه يجعل الكلام لا فائدة له، فإن لا يخفى على أحد أنه يقضى باليمين حيث لا بينة، ويقضى بالشاهدين حيث وجدا.

ثالثاً: حمل شاهد على الجنس ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله.

رابعاً: هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف. وقد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف، فقال:«قضى باليمين مع الشاهد» . رواه الإمامان الشافعي وأحمد عن عبد الله بن الحارث كما في (الأم) ج 6 ص 273 و (مسند أحمد) ج 1 ص 323 وزاد في رواية الشافعي: «قال عمرو: في الأموال» . وفي رواية أحمد: «قال عمرو: إنما ذاك في الأموال» . وعبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب، فإن زيداً قد وصف بأنه يخطئ، ولم يوصف بذلك عبد الله، وكلاهما ثقتان من رجال مسلم. وهكذا رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمروإلا أنه قال:«قال عمرو: في الحقوق» فقوله: «قضى باليمين مع الشاهد» . لا يمكن ولوعلى بعد بعيد على أجراء تأويلهم المذكور فيه، ورواية عن ابن عباس - وهو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه - أقره على المعنى الذي نقول به ولهذا خصة في الأموال، والقضاء باليمين حيث لا شهود فد يكون في غير الأموال، وكذلك القضاء بالشاهدين.

وهكذا جاء لفظ هذا الحديث «قضى باليمين مع الشاهد» في حديث أبي هريرة وحديث جابر وغيرهما. وفي بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع التصريح الواضح.

ص: 930

ومن التأويلات في قول بعضهم في لفظ «قضى باليمين مع الشاهد» أن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي، ورود بأوجه: منها أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين والشاهد وأنه قضى بينهما معاً، ومنها أن الرواية الأولى ترد هذا التأويل، ومنها أن روية عن ابن عباس وهو ثقة جليل فقيه أقره على ظاهره كما سلف، ومنها ما ورد في بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع من التصريح الواضح.

وفي (الفتح) عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة، وهي أن رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فأدعى المشتري أن به عيباً، وأقام شاهداً واحداً، فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة، ويرد العبد.

أقول: حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولاً العيب، فأقام المدعي وهو المشتري شاهداً واحداً، فأعترف المدعي عليه وهو البائع، ولكنه أدعى دعوى أخرى وهي أنه باع بالبراءة فأنكر المشتري، ولم يكن للبائع بينة فيحلف المشتري. وأنت خبير أن هذه قضيتان قضي في الأولى بالاعتراف، وفي الثاني باليمين وذهب الشاهد لغواً فكيف يعبر الصحابة عن هذا بلفظ «قضى باليمين مع الشاهد» و «قضى بيمين وشاهد» ؟ فإن كلاً من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين والشاهد معاً.

فإن قيل: قد يقال: لم يعترف البائع بل قال لا عيب، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة.

قلت: فعلى هذا أن حلف المشتري على وجود العيب وعدم البراءة فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط وفي الأولى بشاهده ويمينه وهو الذي تفرون منه. وإن حلف على عدم البراءة فقط ومع ذلك قضى له برد العبد فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط، وفي الثاني بشاهد واحد بلا يمين، وهو أشد مما تفرون منه. على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يقبل قول البائع «لا عيب

» بل يقال له: أما أن تعترف بوجود العيب، وإما أن تصر على إنكارك، فإن أعترف فقد تقدم، وإن أصر على إنكاره، قيل للمشتري ألك شاهد آخر؟ فإن قال: لا، فعلى قولكم يقال للبائع: احلف، فإن حلف قضي له يمينه وذهب الشاهد لغوا، ولم يحتج إلى دعوى

ص: 931

البراءة. وإن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعي عليه وذهب الشاهد لغوا وتمت القضية الأولى، ثم ينظر بالقضية الثانية.

وعلى قولنا يقال للمشتري احلف مع شاهدك، فإن حلف ثبت العيب بشاهده ويمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى، وإن أبى قيل للبائع احلف أنه لا عيب، فإن أبى قضى له بيمينه واستغنى عن الدعوى الثانية وذهب الشاهد لغوا. وإن أبى قيل للمشتري احلف على وجود العيب (وهذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد) فإن حلف قضى له بيمينه مع نكول البائع واستغنى عن الشاهد، ثم ينظر في القضية الثانية، وإن أبى سقط حقه واستغنى عن القضية الثانية.

فإن قال قائل: أنا أخالفكم في رد اليمين وفي القضاء بالشاهد واليمين إلا في صورة واحدة وهي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد ونكل المدعي عليه عن اليمين فيحلف المدعي ويستحق، ففي هذه يقضى له بشهاده مع يمينه. قلنا: فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه ولا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه بل تكلفه اليمين فوق ذلك فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي حتى لو لم يكن له شاهد لكن جانبه أقوى، فهل يقول هذا أحد؟ !

وأما قول الأستاذ: «والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه» . فهذه الرسالة في (إعلام الموقعين) ج 3 ص 82 وهي تفيد أن مالكاً كتب إلى الليث يعاتبه في إفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة فأجابه الليث بهذه الرسالة، فذكر أولاً أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة، وكان الخلفاء يكتبون إليهم قال: «ومن ذلك القضاء بشاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت أنه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -بالشام ولا بحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في حإياء السنن والجد في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما قد مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق

إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذاك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين» .

ص: 932

مقصود الليث فيما يظهر أن الأحكام على ضربين، منها ما لا يسع فيه الاختلاف ومنها ما دون ذلك. وإن الخلفاء كانوا يكتبون إلي بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفون فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهو نم عنه، وأما الضرب الثاني فكانوا يقرون فيه كل مجتهد على اجتهاده؛ وأن هذه القضية من الضرب الثاني كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين وكان من بالأقطار التي سماها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدل ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني، وأستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان في المدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به، ثم لما كان في الشام كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنه قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجة على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه.

أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وأن حمل كلام الليث على غير هذا المعنى صار زللاً داحضاً لا رداً ناهضاً.

ونحن لم ندع أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقص قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا.

وأما قول الأستاذ: «حتى أن يحيى الليثي

» فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قوي عند المخالفين أنه لا يقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد اقمناها.

وأما قول الأستاذ: «فسل قضاة العصر

» فجوابه أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يعتد به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال، وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقسن على ما يقول الحنفية، أو رأيت أو قال قضاة العصر قد فسد الزمان فلا يقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكوت القرائن مساعدة لشهادتهم؟ . وكما أن الفساد يخشى من إدعاء الباطل، فإن أشد منه يخشى من جحد الحق.

ص: 933