الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن شددت بالشهادة دفعاً لما يخشى من ظلم المدعي للمدعي عليه، فقد سهلت بذلك ظلم المدعى عليه للمدعي، وهذا أشد، فإن الغالب أن يكون المطالب عند الحاكم هو الضعيف اتلذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه فكيف أن يظلمه؟ فالقسطاس المستقيم هو إتباع الشريعة، والله عز وجل متكفل بحفظهما، وضامن بقدره أن يسدد المتبع لها، ويسد ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يجبره. وهو سبحانه اللطيف الخبير، على كل شيء قدير.
تتمة
يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في هذه المسألة أن محمداً مع إنكاره أن يقضي بشاهد ويمين ورده الأحاديث في ذلك وزعمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن كان يقول: إن نسب الطفل إلى المرأة وبالتالي إلى صاحب الفراش مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق والحرية والتناكح والتوارث والاستحقاق الخلافة وغير ذلك يثبت بشهادة وحدها. فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر «رواه عن علي رضي الله عنه رجل مجهول يقال له: عبد الله ابن نجي، ورواه عنه جابر الجعفي وكان يؤمن بالرجمة» .
فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن قبول شهادة القابلة إنما هو استهلال المولود ليصلى عليه أو لا يصلى.
الثاني: أن ابن نجي غير مجهول فقد روى عنه عدة ووثقه النسائي وابن حبان.
الثالث: أن جابر الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده ووثقه الثوري.
الرابع: أنه قد تابعه عطاء بي أبي مروان عن أبيه عن علي.
الخامس: أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القابلة، والأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي.
السادس: قال الأستاذ: «محمد بن الحسن استنبط قبول قول المرأة فيما يخص معرفته من قوله تعالى: «ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن» ، ووجه دلالته أن الاستهلال مما تشهده النساء دون الرجال عادة فإبطال شهادتهن ينافي قبول قول المرأة فيما تخصها معرفته كما هو المستفاد من الآية» .
أقول: أما الأول فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عن أبي حنيفة وصاحبيه في بعض الصور وعندهما في صور أخرى فمن شاء فليراجع كتبهم، وليقل معي: أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمد زاهد الكوثري! فأما القبول في الاستهلال ليصلي عليه أو لا يصلي فهذا يوافق عليه الشافعي وغيره وليس بشهادة، وإنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر.
وأما الثاني: فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي.
وقال البخاري: «فيه نظر» . وهذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني وتراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم، فأما توثيق ابن حبان فقاعته توثيق المجاهيل كم اذكره الأستاذ غيرة مرة ومرت الإشارة إليها في القواعد وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. (1) وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في القواعد.
وأما الثالث: فجابر الجعفي اسقر الأمر على توهينه، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل ولم يصرح بالسماع.
وأما الرابع: فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد وهو إنما يصلح للاعتبار فيما صرح فيه بالسماع وحدث به قبل عماه، أو بعده وروجع فيه فثبت. وهب أنه يصلح
(1) قلت: هذا مثال آخر لاعتداد الكوثري بتوثيق ابن حبان إذا وافق مذهبه وهواه، وراجع تعليقنا في المكان الذي أشار اليه المصنف. ن
للاعتبار في هذا فأي فائدة في ذلك وخبر الجعفي طائح؟ !
وأما الخامس: فالأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى هالك، وارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه أما لأنه سمع من أصوله، وأما لأنه كان متماسكاً ثم فسد بعد ذلك (1) وهذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي، ومع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفروي وهو هالك باتفاقهم. والزهري عن عمر منقطع.
ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال لأجل الصلاة على المولود فليس هذا محل النزاع كما سلف.
وأما السادس: فقوله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن» الكلام فيع على التوزيع، أي: ل يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها، والنهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع، وإنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف، فغاية ما في هذا الدلالة على أنه يقبل منها الاعتراف، فإذا ذكرت أنها قد تمت أقراؤها كان هذا اعترافاً بأنه لا نفقة لها، وادعاء لأنه لا رجعة للزوج عليها فيقبل منها الاعتراف وينظر في الادعاء، فإن قبل منها الادعاء أيضاً فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل؟
فإن قلتم: نعم!.
لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها: هذا ابني من فلان، وتثبتوا بذلك نسبه وميراثه وغير ذلك.
فإن قلتم: إنما هو موضع الاستنباط أن الآية أشعرت بأنه يقبل قول المرأة في الحيض والحمل وأن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم بذلك إلا من جهتها فقلنا:
(1) قلت: وإما لأنه لم يتبين له حاله، ولم يعرفه كما عرفه غيره من الأئمة كمالك وأحمد وغيرها. قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 223) بعد أن روى عن الشافعي أنه كان يقول فيه: كان قدرياً: «لم يبين له أنه كان يكذب، وكان يحسب أنه طعن الناس عليه من أجل مذهبه في القدر» . ن
والولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء فأخذنا النساء من ذلك قبول شهادتين فيها.
قلنا: أما قبول قولها وحدها في حيضها وحملها، فهذا مما تختص هي بمعرفته دون غيرها، والولادة ليست كذلك بل يطلع عليها غيرها من النساء، أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة؟ فقد تحضر عدة قوابل وقد تحضر مع القابلة عدة نساء وقد يحيط رجال بالخيمة مثلاً بعد كشفها، والعلم بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة وطفل معها فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل، دع قضية الرجال فإنها نادرة، ولكن هل قلتم دلت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة، ودلت آية الدين على اشتراط العدد، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي؟ أو ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال كما يتفق في الجامع يوم الجمعة؟ بل في كل شيء إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء ورجل فيما يختص به الرجال فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين: إما أن يكفي الواحد رجلاً كان أو امرأة، وإما أن يشترط رجل أو امرأتان، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال ورادتكم يميناً.
فإن قلتم لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين.
قلنا: قد قال بذلك أستاذه مالك وهو مذهب قوي كما سلف؛ والله الموفق.