الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على من تجب عليه صلاة الجمعة بل هذا نص من الشافعي رضي الله عنه على أن صلاة العيد واجبة على الأعيان، وهذا هو الصحيح في الدليل فإن صلاة العيدين من أعظم شعائر الإسلام الظاهرة ولم يكن يتخلف عنها أحد من الصحابة ولا تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ولو كانت سنة لتركها ولو مرة واحدة كما ترك قيام رمضان وعلى إنا نقول بفرضية صلاة العيدين لا نكفر من تركها لجريان الخلاف في فرضيتها بخلاف ما تقدم من الصلوات. ولذلك لم يختلف أحد ممن تقدم في قتل تارك الصلاة إلا أبو حنيفة رحمه الله ومحمد بن شهاب الزهري وداود بن علي المزني فإنهم قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه البخاري ومسلم وحجة من قال بالقتل وهم من تقدم من الصحابة والتابعين والأئمة من كبار المجتهدين تعليقه في الحديث بحقها قالوا: وهذه الصلاة من أعظم حقها وقد قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأمر بقتلهم حتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والقول بأنه متى تاب من شركة سقط عنه القتل وإن لم يقم بالصلاة ولا آتى الزكاة خلاف ظاهر القرآن والسنة وإجماع صدر الأمة، فلا يعتد به بعد انعقاد الإجماع والله تعالى أعلم.
الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:
(وأما قولكم وأخرج الطبراني والبزار عن بن أبى أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" رواه أبو هريرة في الصحيح وابن عمر وعائشة وجماعة آخرون، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الإيمان ومن لازمه إثبات الكفر لهم وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً:" من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد برئ بما أنزل على محمد" وأمثال هذا كثير
في كلام الصادق المصدوق فهذا النوع الذي هو الكفر العملي وان أطلقه الشارع على مرتكب هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد من الإيمان، ولا يفارق به الملة المحمدية ولا يباح ماله ودمه وأهل كما ظنه من لم يفرق بين الكفرين ولم يميز بين الأمرين) .
فنقول يحتاج كل قائل ومعترض إلى تحقيق معاني قوله وما يعارض به، ومن أعظم الحاجة في ذلك تحقيق معاني كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا عورض به أمر، لا بد من التأمل والتحقيق حتى يسوغ التكلم ويسوغ المعارضة، والعاقل اللبيب إذا تأمل ووعى ما نحن فيه مما اعتقدناه وقلناه علم يقيناً الفرق بين ما عنيناه وقصدناه من عقيدتنا ودليلنا ومدلولنا وبين معارضتنا بهذه الأحاديث والاعتراض بها علينا، وعلم أيضاً أن بين ما عارضه صاحب المقدمة من عقائدنا ودلائلنا وبين ما عارضنا به من نقل هذه الأحاديث واعتقاده فينا مباينة ومخالفة من وجوه:
أحدها انه لم يفهم قصدنا ولا ما اعتقدنا وقلنا فإن أعظم قصدنا وأمرنا الحث والأمر بتوحيد الله وحده لا شريك له في عبادته ومعاملته حتى تثبت وتتم الألوهية كلها له وحده لا شريك له، فكما أنه تعالى منفرد بالربوبية فكذلك هو منفرد بالألوهية قولاً وعملاً واعتقاداً فلا يرجى في جلب نفع أو كشف ضر إلا الله وحده ولا يتوكل إلا عليه وان الخلق ليس لهم ولي من دونه ولا شفيع إلا من بعد إذنه، وصاحب المقدمة قد فهم فينا ما لم نقله، واعتقد متقولاً علينا ما لا نعتقده فانه يزعم إنا نكفر بالذنوب بدليل السياق.
والاعتراض الثاني: أنه لم يميز بين ما حرم الله به دخول الجنة وأوجب الخلود في النار وبين ما هو تحت مشيئته تعالى إن شاء غفره فلم يعذب عليه وان شاء طهر فاعله في النار ثم مآله إلى الجنة حيث مات موحداً بل عارض الأول بالثاني كما دل عليه صنيعه.
الثالث: أنه لم يميز بين الإيمان الذي يستحق المتصف به أن لا يخلد في النار بل ترجى له الشفاعة بإذن الله والمغفرة منه له فضلاً وكرماً ويثبت له مناكحة المسلمين وموارثتهم وبين الإيمان الذي يستحق به النجاة من العذاب وتكفير السيئات وقبوله الطاعة وكرامة الله ومثوبته وبه يستحق أن يكون محموداً مرضياً موصوفاً بصفات الثناء لا بصفات الذم بل جعل القسمين قسماً واحداً.
(وأما الكلام) على معنى هذه الأحاديث التي قد أدلى بها وأوردها صاحب
المقدمة علينا فنقول لا يحقق ذلك إلا من حقق معنى الإيمان وعرفه ومازه حتى تحصل له المعرفة وكمال الإدراك بمعنى هذه الأحاديث وأمثالها والمدلي بها يحتاج إلى فهم معاني ما تضمنته من نفي الإيمان ومعرفة حقيقته، وما هو، كيف هو، ثم ينفي بها نفياً لا إثبات معه أو معه إثبات، أو يثبت إثباتاً لا نفى معه، أو معه نفي، ثم يفصل ويبين ذلك المثبت والمنفي وعكسهما، إذا علم هذا فالإيمان قد اشتهر وشاع عن السلف وأهل الحديث أنه قول وعمل ونية وان الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً سعيد بن جبير وميمون بن مهران وقتادة وأيوب السجستاني والنخعي والزهري ويحيى بن أبي كثير وغيرهم، وقال الثوري:(هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره) وقال الأوزاعي: (كان من مضى من السلف لا يعرفون الإيمان إلا العمل) وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى أهل الأمصار: (أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان) ذكره البخاري في صحيحه وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع الإيمان بالله وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وان تعطوا من المغنم الخمس" وفي الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فإن أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" ولفظه لمسلم قال الخطابي في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم بمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها، كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه وتستوفي جملة أجزائه كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الحياء شعبة من الإيمان" وفي إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته، هذا آخر كلام الخطابي.
وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مصعب البغوي الشافعي في حديث سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك، لأن الأعمال ليست من الإيمان أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل هذا كلام البغوي، وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق فان عني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله تارة ونقصه أخرى والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان، وهو مذهب أهل السنة، وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالاسي المغربي في شرح صحيح البخاري مذهب جماعة أهل السنة ممن سلف من الأمة وخلفها ان الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري رحمه الله تعالى من الآيات يعني قوله تعالى:{لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} وقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقوله: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} ومجرد التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينقص إلا شكاً ولذلك توقف مالك رحمه الله تعالى في بعض الروايات مع القول بالزيادة عن القول بالنقصان إذ لا يجوز نقصان التصديق لأنه إذا نقص صار شاكاً فخرج عن اسم الإيمان، وقال بعضهم إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتناول موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي بالذنوب وإلا فقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة، قال عبد الرزاق سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحاب سفيان الثوري ومالك بن أنس
وعبد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين وهو إتيانه بهذه الأمور التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع انه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه فلا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه بقلبه وجحده بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم المؤمن، فكذلك إذا اقر بالله وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق وان كان في كلام العرب يسمى مؤمناً بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله لقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} فأخبر سبحانه وتعالى إن المؤمن من كانت هذه صفته، وقال ابن بطال في باب من قال الإيمان هو العمل فان قيل قد تقدم ان الإيمان هو التصديق قيل له التصديق هو أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق دخول الأعمال فيه ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمناً مطلقاً إلا باستكمال شعب أعماله، هذا مذهب جماعة أهل السنة وان الإيمان قول وعمل، قال أبو عبيد: هو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين وأهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم قال ابن بطال وهذا المعنى أراد البخاري رحمه الله إثباته في كتاب الإيمان وعليه بوب أبوابه كلها فقال باب أمور الإيمان وباب الصلاة من الإيمان وباب الزكاة من الإيمان وباب الجهاد من الإيمان وسائر أبوابه وإنما أراد الرد على المرجئه في قولهم ان الإيمان قول بلا عمل وتبين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذهب الأئمة.
(وأما الفرق) بين الإيمان والإسلام فالتحقيق في الفرق بينهما ما قاله المحققون ان الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته مع الأعمال بجميع ما فرض الله. والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده، وذلك يكون بالعمل وهو الدين كما سمى الله الإسلام ديناً في كتابه تعالى وهو حديث جبريل حين سمى صلى الله عليه وسلم الإسلام والإيمان والإحسان ديناً، وهذا أيضاً مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر لجامعية الأعمال كلا منهما وان انفرد التصديق في دخول مسمى الإيمان، وإنما يفرق بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر فيكون حينئذ المراد بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، فأما ما ورد من إثبات أحدهما ونفي الآخر من نحو قوله
تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فإنما هو بالنظر إلى معنييهما اللغويين، ولذلك ذكر الصدقة والصوم وغيرهما بعدهما بطريق العطف مع الإجماع على عدم خروج الأعمال عن الإيمان والإسلام، لكن الإيمان أصله تصديق القلب بكل ما جاء عن الله ورسوله، وهو لا يظهر إلا بالعمل الظاهر علانية فهو الإسلام والاستسلام الانقياد لأوامر الله عز وجل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الإسلام علانية والإيمان في القلب" أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه إذا صلى على الميت: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" لأن العمل بالجوارح إنما يتمكن منه في حال الحياة فأما عند الموت فلا يبقى إلا التصديق بالقلب ومن ههنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم لأن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" فلا يتحقق العبد الإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمناً، فانه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب تحققاً تاماً مع عمل الجوارح في أعمال الإسلام فيكون مسلماً وليس مؤمناً الإيمان التام كما قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول عبد الله بن عباس وغيره بل كان إيمانهم ضعيفاً ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} يعنى لا ينقصكم من أجورها فدل على ان معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم وكذلك ما روى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وأنا جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إليّ فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً فقال رسول الله: "أو مسلماً؟ " فسكت قليلاً ثم غلبني ما علمت منه فعدت لمقالتي فقلت: مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً فقال: "أو مسلماً؟ " ثم غلبني ما أعلم منه فأعدت وأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ثم قال: "يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية من أن يكبه الله في النار على وجهه" قال الزهري فيرى يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام هو الكلمة مع التزام الأعمال، والإيمان هو العمل الصالح، قلنا فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل،
فالإيمان هو الإسلام وزيادة، وحقيقته ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون" وفي رواية " بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان" ولمسلم وأبي داود "فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وقد أخبر الله عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بالموت على الإسلام، وهذا كله يدل على ان الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق، وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عدي أسلم تسلم" قلت: وما الإسلام؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها حلوها ومرها" فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام، ثم ان الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع وليس المراد الإتيان بلفظها من غير تصديق بهما ولا عمل بمعناهما بل ذلك كله داخل في الإسلام، وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} بالتوحيد قولاً وعملاً واعتقاداً صادقاً قاله طائفة من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير، وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر عنهم فإنه ينفى عنهم رسوخ الإيمان في القلب وأثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل إذ لولا هذا القدر لم يكونوا مسلمين وإنما نفى عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على ان التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح من مذاهب جماهير السلف وهو أصح الروايتين عن أحمد، فإن إيمان الصديقين الذين تتجلى أنوار المعرفة لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك ولا الارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة الإحسان أن يعبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال بعضهم ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره وسئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان الصحابة رضي الله عنهم يضحكون قال: نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال، فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة أو شعيرة كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار، فهو لا يصح أن يقال لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم.