المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

[محمد بن علي بن غريب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل:

- ‌سبب تأليف الرسالة:

- ‌ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم:

- ‌تعصب الراوي وكبره:

- ‌ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها:

- ‌رد الشيخ على قول الخصم:

- ‌تعريف المرتد:

- ‌حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته:

- ‌تعريف الدليل لغة واصطلاحاً:

- ‌قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار:

- ‌رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية:

- ‌تعريف التقليد:

- ‌تعريف الإجماع:

- ‌رجوع إسماعيل بن اسحق الأشعري عن معتقداته:

- ‌تعريف السلف

- ‌حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله:

- ‌المعاد الجسماني والمجازاة:

- ‌جواز العفو عن المذنبين:

- ‌شفاعة الرسل:

- ‌إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة:

- ‌عقيدة السلف الصالح في الشفاعة:

- ‌بعثة الرسل بالمعجزات حق:

- ‌أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة:

- ‌وجوب نصب الإمام على المكلفين:

- ‌الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة:

- ‌الأفضلية على ترتيب الخلافة

- ‌عدم تكفير أحد من أهل القبلة:

- ‌التوحيد وما يتعلق به:

- ‌الاعتقاد المكفر أقسام:

- ‌تارك الصلاة كافر، وإقامة الدليل عليه:

- ‌الأدلة على كفر تارك الصلاة:

- ‌الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

- ‌مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة:

- ‌حكم الفاسق:

- ‌كفر دون كفر:

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي:

- ‌الجمع بين حديثي "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وبين حديث " لا يزني الزاني

- ‌النفاق نفاقان

- ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

- ‌حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

- ‌تعريف العبادة

- ‌حمل المؤمن عل الصلاح

- ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

- ‌زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

- ‌الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

- ‌الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

- ‌مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور

- ‌حكم المتهاون بصلاته

- ‌المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحد فيها

- ‌لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

- ‌حكم التبرك بالشجر والحجر

- ‌الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

- ‌تعريف النذر لغة وشرعاً وحكم النذر لغير الله

- ‌الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

- ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

- ‌بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌الكلام في العبادة والعبودية

- ‌قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه

- ‌قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

- ‌الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

- ‌الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل: ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

الحديث في الصحيحين عن ابن عمر، وأما توسل السائل في قوله اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ففيه قولان للعلماء: قال الشيخ أبو الحسن القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي المعروف والمشهور عنه وقد عقد فيه فصلاً في باب الكراهية ونقل فيه عن بشر بن الوليد أنه قال سمعت أبا يوسف يقول قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلَاّ به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول أبي يوسف فإنه قال بمعاقد العز من عرشك هو الله فلا أكره هذا أو أكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، قال القدوري المسألة بخلفه تعالى لا يجوز لأنه لاحق للمخلوق على الخالق فلا تجوز، وقال البلدجي في شرح المختار أيضاً، وأما حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فقد رواه عطية العوفي وفيه وهن ومع تقدير ثبوته إنما هو سؤال الله بأفعاله لأن حق السائلين أن يجيبهم وحق المطيعين أن يثيبهم، كقوله:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} وقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم" أو هو سؤاله بأعمالهم، لأن المشي إلى الطاعة وسؤاله امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وقد أجمع العلماء أنها القربة ولا قربة أعظم من عمل الطاعة والله أعلم.

ص: 312

‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

(وأما قولكم وقوله من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا فنقول لا شبهة في أن مرتكبه عاص بقصده آثم، لكن لا يكون بهذا مشركاً، وما ذكره في معرض الاستدلال على مدعاه من قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} ومن الحديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" الحديث لا دلالة فيه على

ص: 312

ما ادعاه نعم فيه دلالة على تجح حاله، ولاشك أنه آثم عاص فيما ارتكبه من هذا القصد لا يقال هو كبير مرتبها كافر، لأنا نقول هذا مذهب الخوارج المارقين من الدين كما تقدم) .

فنقول: أيضاً مما يوضح ما قلناه من أن صاحب المقدمة لم يعرف الشرك وأقسامه، ولم يتأمل ماذا يقول في كلامه إذ قد نفى الشرك عمن عمل عملاً يبتغي به ثواب الآخرة مريداً به غير وجه الله، وعمن فرغ قلبه ولسانه للدنيا وما حوته من زينتها وأمتعتها مقبلاً بكليته عليها ومعرضاً عن الله ورحمته وما يوصل إليها، زاعماً صاحب المقدمة أن ذلك لا يسمى إلَاّ معصية مجردة عن الشرك فلا هو سببها ولا مسماه في هذا الباب يرادفها، ثم انه لم يفهم معنى الآية والحديث، وما قاله أهل العلم في القديم والحديث من المفسرين وشراح الحديث، فلذلك تجلى له وهمه وخاطبه كفاحاً ظنه أنه ليس قصدنا من الترجمة وذكر الآية والحديث إلَاّ الشرك اكبر والكفر المخلد في النار الموجب لأنواع الشر، فصدق ما قاله علينا ظنه وأخطأ المعنى فهمه، وذلك أن قوله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا

} الآية نزلت في كل من عمل عملاً يريد به غير الله قاله المفسرون منهم أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه معالم التنزيل، وروى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال: "الرياء" وحكاه البكري تلخيصاً من السنة في معنى الآية ان المرائي لا ثواب له في عمله وإنما يعجل له حظه في الدنيا من صحة وسعة لا ينقص منه شيئاً وهذا مع مشيئة الله وإرادته كقوله سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ

} الآية وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ

} الآية ثم ان كان المرائي مسلماً ففعله ذلك ذنب كبير يؤاخذ به إلَاّ أن يرحمه الله، وإن كان كافراً عجل له ما سبق ويقطع له بالخزي في الآخرة، وقال العوفي عن ابن عباس أن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً فمن عمل صالحاً من صوم أو صلاة أو تهجد في الليل لا يعلمه، لا لالتماس الدنيا يقول الله أو فيه الذي التمسه من الدنيا وأحبط عمله في الآخرة وهو من الخاسرين، وروى ذلك عن مجاهد وغيره قالوا ان هذه الآية نزلت في أهل الرياء، قال ابن عباس في رواية عطاء من كان يريد عاجل

ص: 313

الدنيا فلا يؤمن بالبث والثواب والعقاب، وقال أنس والحسن نزلت في اليهود والنصارى، وقال قتادة من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله في الدنيا بحسناته ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، هذا في الكافر، وأما المؤمن فإرادته الآخرة غالبة فيجزى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة وذلك قوله نوف إليهم أعمالهم فيها، وفي حديث أنس المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا قبض إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً" انتهى. فإذا عمل المؤمن عملاً يبتغي به غير الله فإما أن يعمله ملتمساً به منه تعجيل أمر من أمور الدنيا كصحة وعافية وكالذي يعبد الله ليكثر ماله وولده أو يكرمه في الدنيا ويسلمه من آفاتها لا امتثالاً لأمره تعالى وإجلالاً لعظمته، وقياماً بحق عبوديته لأن العمل لذلك من أعلى درجات الإخلاص، وأما أن يعمله ملتمساً به اكتساب محمدة عند الناس أو محبة ومدح منهم، فيظهر في عمله التصنع لهم، فالأول داخل في عموم قول ابن عباس في رواية العوفي عنه أن معنى الآية فيمن عمل صالحاً لا يعمله إلَاّ لالتماس الدنيا يقول الله فيه أوفيه الذي التمسه من الدنيا وأحبط عمله في الآخرة وهو من الخاسرين فلا ثواب له في عمله ذلك.

(فإن قيل) باقي الآية وهو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} دال بصريحه على أن المقصود منها الكفار المنكرون للبعث وأشباههم، أو اليهود والنصارى، كما هو قول ابن عباس في رواية عطاء ان من كان يريد عاجل الدنيا فلا يؤمن بالبعث والثواب والعقاب، وقول أنس والحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى.

(الجواب) أن منكري البعث واليهود والنصارى وسائر أنواع الكفار لا يخرجون عن مضمون معنى الآية وغيرها من سائر القرآن، ان من رغب عن الله وما عنده من الجزاء لأوليائه المؤمنين، وعصى رسله واتبع هواه مريداً للدنيا وزينتها ومؤثرها على إتباع أوامره تعالى واجتناب مناهيه راآي في عمله أو لم يراء أنه ليس له في الآخرة إلَاّ النار

ص: 314

وحبط ما صنعوا فيها، أي ذهب ما عملوا في الدنيا من حسنة، لأنهم وقت البعثة والجزاء لم يروا لها ثواباً وباطل ما كانوا يعملون، أي ماحق مضمحل، وعبر أولاً بالحبوط باعتبار وقت حصول المأمول، وثانياً بالبطلان، باعتبار وقت العمل، وهي في المؤمن العامل لإرادة الحياة الدنيا وزينتها زجر وتهديد لحبوط ثواب ما عمله وخسرانه في الآخرة واستحقاقه دخول النار بذلك إلَاّ أن يرحمه الله ويغفر له، والإشارة ترجع إليه بهذا المعنى، ولهذا قال ابن عباس في الرواية الأخرى عنه وغيره أن هذه الآية فيمن عمل صالحاً من صلاة وصوم ونحوهما لالتماس شيء من الدنيا، وإلا فقد تواترت الأخبار الصحيحة والنقول الصريحة من كلام الله وسنة رسوله أن المؤمن العاصي لا يخلد في النار، وأكثر الصحابة وأهل العلم من المفسرين وغيرهم على أن هذه الآية نازلة في المرائي بعمله، والثاني أعني من يعمل ملتمساً بعمله اكتساب محمدة عند الناس ونحوها فهو أكبر من الأول، لأن العبادات هنا باطلة من أصلها مع بطلان ثوابها فإن كانت فرضاً لا تصح منه ولا تجزئه مع مقارنة الرياء أول العبادة وفعلها لأجله، وهذا هو الذي ذكره مجاهد وغيره أن الآية نزلت فيه ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة حديث الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار وهم الذي تعلم العلم ليقال عالم، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، وبكى معاوية بكاء شديداً ثم قرأ هذه الآية فالعمل لغير الله شرك سواء كان لإرادة الدنيا هي بنفسها وللسلامة من آفاتها لا لامتثال الأمر والقيام بحق العبودية، أو لالتماس محمدة أو محبة ومدح من أهلها، وقد عقدت الترجمة لذلك مقصوداً بها الشرك الأصغر، وصريح كلام صاحب المقدمة ناف الشرك عن هذا العمل زاعماً أنا نكفر به لأنه كبيرة والخوارج يكفرون بها وقد نسبنا إليهم والى مذهبهم وما هذا الإجراءة وبهتان وقول زور وطغيان. لأنا نقول لاشك أنه شرك أصغر وهو كبيرة لورود الوعيد والعقوبة على فاعله بنص التنزيل والأحاديث الصحيحة المتواترة المشهورة والمصونة عن الأباطيل لكن فاعل الكبائر إذا مات موحداً لا يخلد في النار ولا يكفر صاحبها بمجرد فعلها، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولحديث عبادة بن الصامت المتقدم ذكره وحديث أبي ذر وغيره المتفق عليه ولأن الشرك الأصغر دون الأكبر فيدخل تحت المشيئة، والآية واردة في الشرك الأكبر بخصوصه على أن طائفة من العلماء مشوا في الآية على ظاهرها للعموم فقالوا ان

ص: 315

الشرك الأصغر لا يغفر إلَاّ بالتوبة منه وإلا فلابد من تطهير فاعله في النار ثم يخرج منها كبقية أهل الكبائر، لأن الآية نص في عدم غفران الشك من حيث هو، لكن الأكبر أهله مخلدون بنص الكتاب والسنة، والأصغر أهله مسلمون بنصهما غير محكوم على صاحبه بالكفر، وإطلاق الآية في عدم غفرانه فارق بينه وبين سائر المعاصي التي هي دونه قابلة للغفران، والجواب عن ذلك ما تقدم من أنه داخل في الدون فهو تحت المشيئة ويصدر من خواص الأمة ولا قائل بوجوب العذاب والحكم به عليهم إذ لا يسلم منه غالباً إلَاّ من عصمه الله وهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولأن الغفران اضمحلال الذنب ومحوه وهو عدم وجوده، وبقاؤه موجب للعذاب ما بقي وذلك مخالف للقاعدة في أن أهل الكبائر لا يخلدون لأن خروجهم منها بعد دخولها بالذنب لأمرين:

(الأول) منهما أن الذنب الذي استحق به دخول النار قابل للمغفرة وان لم يوجد الدخول.

(الثاني) وجود الإيمان الذي ماتوا عليه بخلاف الذنب الذي لا يغفر فإنه يقتضي العذاب الأليم أبداً ولا يضمحل بعذاب مرتكبه لأنه غير قابل للمغفرة قبل العذاب، وكل ما لا يقبل المغفرة قبل العذاب لا يضمحل بوجوده، إلَاّ ترى إلى عذاب الكفار، قال سبحانه:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا} وليس هنا ذنب غير قابل المغفرة إلَاّ الشرك الأكبر فإنه لا يغفر بل يعذب أهله العذاب الأكبر فتعين أن يكون الشرك الأصغر ذنباً كبيراً كبقية الذنوب التي تقبل الغفران من علام الغيوب، ومن الدليل أيضاً على أن المريد بعمله غير الله يكون مشركاً قوله سبحانه وتعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ولما في المتفق عليه من حديث جندب بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سمَّع سمَّع الله به ومن راآى راآى الله به" وفي المتفق عليه أيضاً من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" ولمسلم من حديث أبي هريرة في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، وله أيضاً من حديثه مرفوعاً قال الله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك

ص: 316

فيه غيري تركته وشركه" وله أيضاً من حديث أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي عليكم من المسيح الدجال قالوا بلى يا رسول الله قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيحسن صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه" وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود مرفوعاً: "من حسَّن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل" وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" وأخرج البزار بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعاً: "تعرض أعمال بنوا آدم بين يدي الله عز وجل في صحف مختمة فيقول الله ألقوا هذا واقبلوا هذا كقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلَاّ خيراً فيقول ان عمله كان لغير وجهي ولا أقبل من العمل إلَاّ ما أريد به وجهي".

إذا علم ذلك فالمشركون في هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلاً عظيماً كتفاضل المؤمنين في حقيقة الإيمان وتفاضلهم فيه بحسب مقاصدهم، ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، والقيام بحق العبودية إنما يتم بانقطاع القلب إلى الله وتعلقه به، فكلما التفت العبد إلى غيره وأعرض عنه كان فيه من العبودية لذلك الغير بحسب تعلقه به وانقطاعه إليه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ان أعطي رضى وإن لم يعط سخط" فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر فيه ما هر بصيغته وخبر بمعناه، والانتقاش إخراج الشوكة مما هي فيه، وهذه حال من عبد المال وأمتعة الدنيا فرغب فيها ومال إليها وأعرض عن الله لم يفلح وإذا أصابه شر لم يخرج منه لكونه تعس وانتكس هلك وخاب فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإذا منع سخط كما قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} لغير الله فرضاهم وسخطهم لغير الله، وهذا حال عبد ما يهواه من ذلك فهو رقيق له

ص: 317

والرق عبودية كلما استرق القلب واستعبده من الأمور فالقلب عبده ورقيقه، ولهذا يقال في العبد حرٌ ما قنع والحر عبدٌ ما طمع ومنه قول القائل:

قصدت الشام أطلب مستقراً

فلم أجد لي بأرض مستقراً

أطعت مطامعي فاستعبدتني

ولو إني قنعت لكنت حرا

ويقال الطمع غل في العنق وقيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: الطمع فقر واليأس غنى وان أحدكم إذا أيس من شيء استغني عنه، وهذا مشاهد فان ما لا طمع فيه إذا أيس منه القلب لا يطلبه ولا يطمع فيه فلا يبقى فقيراً إليه رقيقاً له إلَاّ عشق الصورة، وقد يضمحل مع اليأس أيضاً، وقال الخليل صلاة الله وسلامه عليه فابتغوا عند الله الرزق، وذلك أن العبد لابد له من رزق وهو محتاج إليه فإن طلبه من الله كان عبد الله فقيراً إليه، وإن طلبه من مخلوق كان عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه، ولهذا كانت مسئلة المخلوق محرمة في الأصل وإنما تباح عند الضرورة، وتد ورد النهي عنها في أحاديث كثيرة مذكورة في الصحاح والمسانيد والسنن كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال المسألة بأحدهم حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم" وقال: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه" وقوله: " لا تحل المسألة إلَاّ لذي غرم مفظع أو دم موجع أو فقر مدقع" وهذا المعنى في الصحيح وفيه أيضاً: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" وقد تقدم الكلام على هذا مبسوطاً في بحث الدعاء، فطمع العبد في ربه ورجاؤه منه يوجب عبوديته له وإعراض القلب عن الله وعن رجائه يوجب انصراف قلبه عن عبوديته لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رياسة له وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو حي قد مات أو يموت قال الله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن يرزقوه أو ينصروه أو يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم

ص: 318

بقدر ذلك، وان كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل الذي قد تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لاسيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحتكم فيه حكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، لأن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً بل يمكنه الاحتيال في الخلاص من ذلك، وأما استرقاق القلب واستعباده لغير الله فهو الذل والأسر والاسترقاق المحض، وما العبودية إلَاّ ما استعبد القلب واسترقه وأسره وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك مع قيامه بما يقدر عليه مما أمر به من الواجبات، ولهذا من استعبد بحق فأدى حق الله وحق مواليه فله أجران ولو أكره على الكفر تكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك، وهذا بخلاف ما استعبد قلبه لغير الله فصار رقيقاً له فهذا هو الضار في الدين المنقص عن درجة الموحدين وان كان ملك الناس ظاهر، فالحرية في هذا الباب حرية القلب والعبودية عبوديته، كما أن الغنى غنى القلب، وهذا إذا استعبدت صورة مباحة قلبه فكيف بالمحرمة كالمرأة الأجنبية أو الصبي الأمرد أو الدرهم أو الدينار المحرم فهذا هو العذاب الأليم دنيا ودينا، والعاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها واستعبدته رقيا لها اجتمع عليه من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلَاّ ربُّ العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلق القلب بها بلا فعلها أشد ضرراً ممن يفعل ذنباً، ثم يقلع عنه ويتوب منه ويزول من قلبه أثره، إذ تعلق القلب بالفواحش والظلم والشرك والكذب وابتغاء العلو في الأرض موجب لبقاء عبودية القلب لها ما بقي متعلقاً بها وهو رقيق أيضاً لمن يعينه عليها، وإن كان دونه رتبة والأمور الدنيوية نوعان:

منها ما يحتاج إليه العبد كاحتياجه إلى طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه كما قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ويكون المال عنده بهذا النوع يستعمله في حاجته بمنزلة دابته التي يركب عليها وبساطه الذي

ص: 319