الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها
ما ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله وتقربهم منه، قالوا فان العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك من السلطان من الأنعام والأفضال والإفاضة ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به، فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم وأباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على هؤلاء وإبطال مذاهبهم قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وهم وان صوروا صوراً لا تعقل فإنها صور الأنبياء والملائكة والصالحين ليتقربوا بهم وليشفعوا لهم ويدعوهم وينالوا منهم فأخبر سبحانه أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض وهو الله وحده فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده فيأذن هو لمن شاء أن يشفع فيمن رضي عنه فيشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده، وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم في عقيدتهم وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه بقوله:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد سبحانه رحمة عبده، أذن هو لمن يشفع فيه كما قال
تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه بل شفيع بإذنه، والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المملوك المأمور، فالشفاعة التي أبطلها شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول اشفع في فلان ولهذا كان أسعد بشفاعة سيد الشفعاء وأفضلهم يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وأخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله سبحانه قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} ، فأخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلَاّ بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع. فأما الشرك فإنه لا يرضيه ولا يرضاه قولاً، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بأمرين:
أحدهما: رضاه عن المشفوع له.
الثاني: إذنه للشافع، فمتى لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة، وسر ذلك وقوامه أن الأمر لله وحده فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلَاّ بعد إذنه لهم وأمره إياهم، ولاسيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله، وإذن فهم مملوكون لا يتكلمون إلَاّ من بعد إذنه، أفعالهم مقيدة بأمره فإذا أشرك بهم المشرك فدعاهم ورجاهم وتوكل عليهم واتخذهم له شفعاء من دون الله ظناً منه أنه إذا فعل ذلك واعتقد بهم ما هنالك تقدموا له وشفعوا عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وتعالى وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع تشبيه قياس الرب تبارك وتعالى على الملوك والكبراء حيث يتخذ الرجل من خواصهم أولياء هم من يشفع له عندهم في قضاء الحوائج. وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام واتحذ المشركون الشفيع والولي من دون الله، والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق، والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد المالك والعبد المملوك، والغني بالذات الذي لا حاجة به إلى أحد قط والفقير بالذات المحتاج من كل
وجه إلى غيره، فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم وأعوانهم وأنصارهم الذين قيام أمر الملوك والأكابر بهم ولولاهم سبب، لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس فلحاجتهم إليهم احتاجوا إلى قبول شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها، ولم يعرضوا عن الشافع لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقص طاعتهم لهم ويذهبوا إلى غيرهم فلا يجدون بدّاً من قبول شفاعتهم على الكره والرضا، فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وكل من في السموات والأرض عبد مقهور بقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعاً لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وألوهيته مثقال ذرة ولا أنقص ولا أكثر، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
…
الآية} وقال سبحانه في أفضل آية في القرآن: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وان لا أحد يشفع عنده إلَاّ بإذنه، فإنه ليس له شريك بل مملوك محض. قال تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض فإنهم لإخبارهم من أحوال الناس ما لا يعرفه الملوك، والله سبحانه يعلم السر وأخفى، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى وهو السميع البصير، يسمع سبحانه ضجيج الأصوات باختلاف اللغات في تفننها وما تنطق به من الكلمات لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بحلاف المخلوقين فإنهم قد لا يريدون نفع الرعية ولا الإحسان إليهم أول وهلة، ويتوقف ذلك على وجود محرك خارجي. فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظه أو من يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته، أو ما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وأما لما يحصل له من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب أن تكون بمشيئته تعالى فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه الذي أجرى نفع العباد بعضهم على يد بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا أو يدعو له أو يشفع فيه، وهو
الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي والشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، أو من يرجوه الرب أو يخافه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي ان شئت اللهم ارحمني ان شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له" بخلاف المخلوق فإنه يقبل شفاعة مملوكه لخوفه أن لا يعطيه أو أن يسعى في ضرره، وكذلك قبل شفاعة ولده وزوجته لذلك فإنه محتاج إلى الزوجة والى الولد حتى لو أعرض عنه ولده أو زوجته أو مملوكه لتضرر بذلك وشفاعة العباد بعضهم لبعض عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلَاّ لرغبة أو رهبة، وقبول الشفاعة من باب النفع للغير، والمخلوق لا ينفع غيرهم إلَاّ لما يحصل له من النفع إما من الله بالثواب، وإما من غيره بالمعاوضة، والله لا يرجو أحداً ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد، بل هو الغني سبحانه فبين سبحانه أن الشفاعة التي نفاها في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس بينهم ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة المتعاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلَاّ بعد إذنه وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه فإنه الذي أذن والذي قبل والذي رضي عن المشفوع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومرجوه ومخوفه ومتوكله ومدعوه الذي يتقرب إليه وحده ويطلب رضاه بإتباع رسله ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ..} إلى قوله {.. قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهذا إنكار عليهم وتوبيخ لهم، أي أتخبرونه بأن لكم عنده شفعاء وهو لا يعلمها في السموات ولا في الأرض، ففيه تقريع وتهكم بهم لأن ما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له وجود ولا تحقيق وقال تعالى:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} فبين سبحانه أن من اتبع من دون الله شركاء بشفاعتهم له عنده من دونه فليس معه إلَاّ ظن وخرص والظن المقرون بالحرص هو ظن باطل غير مطابق للحق، فإن الخرص هنا ضمن معنى الكذب لقوله تعالى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ومن ظن أن
ما هنا نافية فقد أبعد وفسر الآية بما هو خطأ، بل معناها استفهام إنكاري أي أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله، فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون وان الشفاعة لا تحصل باتخاذهم إياهم، وإنما تحصل بإذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له. (فالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها فنحن إن شاء الله تعالى نعملها ونأمر بها) هل يوجد فيها شيء مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم هي مضادة لما هم عليه من كل وجه، لكن ما أحسن قول مالك بن أنس رحمه الله تعالى:"لن يصلح هذه الأمة إلَاّ ما أصلح أولها" وكلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وجعلوه من الدين، ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم يدعو، ونص على ذلك الأئمة الأربعة ان الداعي يستقبل القبلة وقت الدعاء لأنه عبادة، كما جاء في الترمذي وغيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"ان الدعاء هو العبادة" بل هو مخها. فجرد السلف هذه العبادة لله ولم يفعلوها عند القبور إلَاّ للأموات بعد السلام عليهم والاستغفار لهم لانقطاع عملهم، ولهذا شرع في الصلاة عليهم من الدعاء ما لم يشرع مثله للأحياء، قال عوف بن مالك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول:"اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه أكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" حتى تمنيت أن كون أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت رواه مسلم في صحيحه عنه وقال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء له فاغفر له وارحمه" رواه الإمام أحمد وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" وقالت عائشة رضي الله عنها وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يستغفرون له إلَاّ شفعوا فيه" رواه مسلم في صحيحه عنه وعن ابن عباس رضي الله