الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعصب الراوي وكبره:
وأشار إليّ فيه ان هذا المشار إليه يدعي أنه من أجل علماء المملكة وأكبرهم قدراً عنده فلذلك خصه من بينهم فامتثالاً لأمره نظرنا فيه، يعني وإلا لولا أمره لم ننظر فيه ولم نطالعه، ولم نتأمله، وهذا من أعظم التعصب وأكبر التوثب على الركون إلى الرأي العقلي بلا حجة قطعية ولا دليل نقلي، فهو من نوع التوكل على مجرد الرأي، وذلك هو الموجب لقول الزور والبهتان والوقوع في الإثم والعدوان، إذ ما من مستغن برأيه عن مشاهدة الحق وأتباعه والتأمل في أحواله إلا وفات عليه خير كثير ولم يحصل له ما خيل إليه مما يزعم أنه لديه وهذا من العلم العقلي المخالف للدليل النقلي الناشئ عن الجهل الكلي قال تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أنه إتباع هوى وإعجاب، فروى أبو ثعلبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك" والترفع عن أخذ العلم والحق وعن سماعه وادعاء الانتهاء فيه والاستغناء عنه من أكبر العجب، وهذا ادعاء فيما لا سبيل له إليه ولا ملك له فيه وان زعم كمال الفهم فيه والإطلاع عليه إذ ما من عالم إلا وفوقه أعلم منه، قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي لكل ذي علم من المخلوقين أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله عز وجل، ولذلك عتب الله على موسى عليه السلام حين قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل هل أحد أعلم منك؟ قال: لا، قال الله: بلى إن عبدنا خضراً هو أعلم منك، فلا زال يطلبه حتى وجده ليأخذ عنه العلم. ومن استغنى برأيه وزعم أن الباطل حق باستدلالاته التي قامت مخايل جفيلها الخالي في ذهنه وقرب سرابها النائي في ظنه فتخيل أن جميع معانيها وما فيها منسوبة عنه وإليه؛ ولم يعلم أنها حجة عليه، فقد أخطأ سبيل الرشاد وتعنت في أنواع العناد مقلداً لما سمعه من
عدو الحق بلا تحقق، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته والله تعالى يقول:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} وفي المسند للإمام أحمد عن ابن عمر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو عليه غضبان" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء" رواه الديلمي في مسند الفردوس وذلك لأنهم سبب صلاح العالم، واليهم ينتهي أمور الدنيا والدين، وبهم الحل والعقد، فإذا فسدوا فسد الناس كلهم، وسبب فسادهم الضار بالخاص والعام. متابعة الهوى وحب الرئاسة والعجب بالرأي، وقد يظهر للناس ما يدل على صلاحه من أمر أو نهي وهو في قيد هواه معجب في نفسه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى قتلت قال كذبت ولكن قاتلت ليقال هو جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن فقال كذبت ولكن تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمته فعرفها فقال ما عملت فيها فقال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" وفي لفظ: " فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع عليه أهل النار فيقولون أي فلان ما شأنك ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه" وسبب هذا إنما هو إتباع الهوى، والقصور على مجرد الرأي من أعظمه وان زعم العلم وادعاه، ولذلك ذم الله سبحانه المعارضين للحق لما جاءهم بما
قام في أنفسهم من الادعاء للعلم والاستغناء به عما جاءهم قال تعالى: {فَلَمَّا
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قال أهل التفسير يعني رضوا عن ذلك بما عندهم من العلم في زعمهم فرح استهزاء وضحك منكرين للحق، وسماه سبحانه علماً باعتبار ما قام في ذهنهم وإلا فهو أقبح الجهل، والاستغناء بمجرد الرأي الحالي عن الدليل النقلي موجب للتعاون على الإثم والعدوان اللذين نهى الله عنهما في قوله:{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والمعاونة عليهما من دحض الحق والعمل بنقيضه، وهذا من تسويل إبليس وتحسينه ليدخل الإنسان في ملته، فمن فعل فقد أحياها فصار من حزبه وأعوانه {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} والمعاونة على الإثم طبقات أقبحها وأفحشها ما يقع من العلماء وهي إما بالفعل أو بالقول، فإن كانت من الفعل فهي من أعظم الضرر على البقية، وذلك أن العلماء إذا عملوا عملاً ليس من الدين ولا سنة أفضل المرسلين صاروا سبباً لإقدام العوام إليه ولعكوفهم عليه لاعتقادهم أنه من الدين، وأنه مما يتقرب به إلى رب العالمين، وهذا السبب في كل بدعة، وما من فتنة في الوجود تنشأ إلا عنها. وفي هذا المعنى يقول العزيز الحكيم في التحذير من مخالفة أوامر من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد أصيب الناس بفتنة أضرت بالخاص والعام فلم يرض أحد عن أحد غير معتقده ولم يزكه إلا بإتباع ما ارتكبه، وهذا نوع من الزيغ وقد أخبر الصادق المصدوق أن هلاك من كان قبلنا بسبب الاختلاف؛ وحذر أمته أن تصنع كما صنعوا فيقعوا فيما وقع فيه من مضى من الأسلاف قال صلى الله عليه وسلم:"دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه مما استطعتم" أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وهؤلاء المبتدعون يصيرون سبباً لفتنة كل مفتون. ويكون هذا منهم كإعطاء السيف لقاطع طريق المسلمين، وكتذكار الحجر للمجانين، وكإغراق السفينة في الماء، وكإحراق المدينة في النار، وإن كانت في القول فهي أعظم ضرراً من الفعل فإنهم إذا أحلوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله تبعهم العوام مقتدين بهم فبذلك يصيرون
عاملين بالإثم ومعاونين عليه فحصل لهم كفلان من العذاب. عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {تَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية فقلت يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه فقلت بلى قال تلك عبادتهم" رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والتحليل والتحريم ليس قيداً لوجود الإثم بل هو موجود بمجرد الأمر والنهي المخالفين للدين ثم ان كان ذلك المأمور به فعله مكفراً والمنهي عن فعله تركه مكفر فله حكمه، وإلا فهو ذنب ان لم يستحل ولهذا كان السلف يقولون:"احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه" وكانوا يقولون: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فان فنتهما فتنة لكل مفتون" فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وقد وصف الله تعالى أئمة المتقين فقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، ومنه قوله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وقوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} ووصف بعضهم الإمام أحمد رحمه الله فقال "عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الباع فنفاها، والدنيا فأباها"ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات" وقد دل قوله تعالى {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} على إتباع الشهوات وهو داء العُصاة، وقوله:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} على الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيراً يجتمعان، فقل من تجد في اعتقاده فساداً إلا وهو يظهر في عمله، وقد دلت الآية على أن الذين قبله استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك لأن قوله استمتعتم وخضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي، وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن الكفار والمنافقين عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ذم لمن حاله كحالهم وعمله يشبه عملهم إلى يوم القيامة قد أشار إلى ذلك الإمام البغوي والحافظ ابن كثير وغيرهما من المفسرين عند هذه الآية بحديث إلى سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر
ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال: فمن" وفي رواية أبي هريرة: "وهل الناس إلا أولئك" وقال ابن مسعود: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أن لا أدري تعبدون العجل أم لا" وبهذا أيضاً يكون خبراً عن أمر دائم مستمر لأنه وان كان بضمير الخطاب فهو كالضمائر في نحو قوله {اعبدوا واركعوا واسجدوا وآمنوا} فكما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ، فكذلك هو متناول لمن بعدهم إلى يوم القيامة، وهذا مذهب عامة المسلمين، وان كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتقد أن الضمير يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وان سائر الموجودين بعدهم دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من احتواء الحكم كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أمته وقصد غيره من سائر الأمة، وإما بالسنة، وإما بالإجماع، وإما بالقياس، فيكون كل من حصل في هذا الاستمتاع والخوض مخاطباً بقوله تعالى {فاستمتعتم وخضتم} وقد توعد سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله:{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فأخبر سبحانه أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه كما استمتع الأمم قبلهم، وخاض كالذين خاضوا، وذمهم وتوعدهم على ذلك، ثم خصهم على الاعتبار بمن قبلهم، فقال عز من قائل:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية فطاعة الله ورسوله وصف للمؤمنين قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} والاستمتاع بالخلاق والخوض، وصف لمن فيه مشابهة للقرون المتقدمة وقد ذم الله من يفعل ذلك، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين، ثم هذا الذي دل عليه الكتاب من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضاً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأول الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً