المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

[محمد بن علي بن غريب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل:

- ‌سبب تأليف الرسالة:

- ‌ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم:

- ‌تعصب الراوي وكبره:

- ‌ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها:

- ‌رد الشيخ على قول الخصم:

- ‌تعريف المرتد:

- ‌حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته:

- ‌تعريف الدليل لغة واصطلاحاً:

- ‌قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار:

- ‌رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية:

- ‌تعريف التقليد:

- ‌تعريف الإجماع:

- ‌رجوع إسماعيل بن اسحق الأشعري عن معتقداته:

- ‌تعريف السلف

- ‌حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله:

- ‌المعاد الجسماني والمجازاة:

- ‌جواز العفو عن المذنبين:

- ‌شفاعة الرسل:

- ‌إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة:

- ‌عقيدة السلف الصالح في الشفاعة:

- ‌بعثة الرسل بالمعجزات حق:

- ‌أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة:

- ‌وجوب نصب الإمام على المكلفين:

- ‌الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة:

- ‌الأفضلية على ترتيب الخلافة

- ‌عدم تكفير أحد من أهل القبلة:

- ‌التوحيد وما يتعلق به:

- ‌الاعتقاد المكفر أقسام:

- ‌تارك الصلاة كافر، وإقامة الدليل عليه:

- ‌الأدلة على كفر تارك الصلاة:

- ‌الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

- ‌مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة:

- ‌حكم الفاسق:

- ‌كفر دون كفر:

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي:

- ‌الجمع بين حديثي "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وبين حديث " لا يزني الزاني

- ‌النفاق نفاقان

- ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

- ‌حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

- ‌تعريف العبادة

- ‌حمل المؤمن عل الصلاح

- ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

- ‌زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

- ‌الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

- ‌الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

- ‌مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور

- ‌حكم المتهاون بصلاته

- ‌المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحد فيها

- ‌لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

- ‌حكم التبرك بالشجر والحجر

- ‌الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

- ‌تعريف النذر لغة وشرعاً وحكم النذر لغير الله

- ‌الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

- ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

- ‌بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌الكلام في العبادة والعبودية

- ‌قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه

- ‌قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

- ‌الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

- ‌الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل: ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

فهو منافق حقاً، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقد رجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن كان على خلافه، وهو مروى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ورووه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال القاضي عياض واليه مال كثير من أئمتنا، وحكى الخطابي قولاً آخر معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه بها أن تفضي به إلى حقيقة النفاق، وحكى الخطابي أيضاً عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يفعلون كذا وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى التي رواها مسلم في صحيحه أربع من كن فيه كان منافقاً وفي الرواية الثانية آية المنافق ثلاث لا منافاة بينهما فان الشيء الواحد قد يكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفته ثم قد تكون تلك العلامة شيئاً واحداً وقد تكون أشياء، ومعنى قوله وإذا عاهد غدر داخل في معنى وإذا ائتمن خان لأن العهد أمانة ومعنى قوله وإذا خاصم فجر أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب، قال أهل اللغة وأصل الفجر الميل عن القصد، ومعنى آية المنافق أي علامته ودلالته فمنه يعلم أن كفر عمل الجوارح ونفاق عملها ليس مما نحن فيه إنما القصد الكلي والفائدة العظمى لمن عقلها عمل القلب وهو اعتقاده وقبوله لما جاء عن الله وأرسل به محمداً عبده ورسوله من ان الدين كله لله. قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} وقد أجمع الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم أن المراد بالفتنة هنا الشرك ونحن لم نؤم إلا إليه ولم نجاهد إلا عليه.

ص: 176

‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

(وأما قولكم فقد عرفت من هذا كله أن ما يفعله العوام من دعاء الأولياء والهتف بهم عند الشدائد والطواف بقبورهم وتقبيل جدرانهم والنذر لهم بشيء من أموالهم هو من الكفر العملي لا الاعتقادي فإنهم مؤمنون بالله وبرسوله وباليوم الآخر لكن اعتقدوا ان هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون جهلاً منهم كما اعتقد أهل الجاهلية ذلك في الأصنام لكن فرق ما بين الفريقين فان هؤلاء يثبتون

ص: 176

التوحيد لله لا يجعلون الأولياء شركاء له تعالى، وأولئك قد جعلوا الأصنام شركاء له فأولئك كفرهم كفر اعتقاد وهؤلاء أعني ضعفة العقول من العوام الموحدين لله معترفون بتوحيده ومصدقون الرسول بجميع ما جاء به من عند ربه وحكم أولئك من القتل والسبي، وأما هؤلاء فالواجب على العلماء وعظهم وتعريفهم وتفهيمهم جهلتهم، وزجرهم عن فعلهم ذلك لو أصروا عليه بعد ذلك ولو بالتعزير البليغ والضرب الشديد كما أمرناهم بحد الزاني والسارق وشارب الخمر، ولا يخرجون به عن الملة ويدل على ما قلناه دلالة صريحة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه "أربع في أمتي من عوراء الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري فهم مع إتيانهم بهذه الخصال الجاهلية أضافهم إلى نفسه ولم يخرجهم عن أمته فقال في أمتي) .

فنقول: هذا تفريع على ما تقدم من تقسيم الكفر إلى كفرين والنفاق إلى نفاقين، أي لما انقسم الكفر إلى عملي واعتقادي وميزانهما، علمنا أن ما يفعله العوام من دعاء الأولياء والهتف بهم عند الشدائد من الكفر العملي لا الاعتقادي وعلله بأنهم مؤمنون بالله وبرسوله وباليوم الآخر وبأنهم لم يجعلوا الأولياء شركاء لله ثم أثبت لهم الاعتقاد الذي نتيجته عين ما نفاه أولاً عنهم فهو سببه ولا ينشأ إلا منه وهو قوله لكن اعتقدوا أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون جهلاً منهم كما اعتقد أهل الجاهلية ذلك في الأصنام وهل هذا إلا تناقض فيما قاله ونفاه وتناقض فيما اعترض به وادعاه وتعاكس فيما فرعه وعناه وتشاكس في تعليله وفحواه. وذلك من وجوه.

(أحدها) : إثباته عين ما نفاه أولاً فقال أنهم اعتقدوا اعتقاد أهل الأصنام فيها.

(الثاني) : أنه جعل هذا الاعتقاد كفراً عملياً يعني به عمل الجوارح الظاهرة لأن كلامه فيما تقدم ينكر عمل القلب.

(الثالث) : جعله الدعاء والهتف ليسا نتيجة الاعتقاد بل يصدران ممن اعتقاده منحصر في الله وهو يدعو غيره ويلتجىء إليه فيما لا يقدر عليه إلا الله وحده

ص: 177

ويهتف بذكره عند الشدائد وغيرها ليجلب له أو يدفع عنه وهو لا يعتقد فيه القدرة على شيء مما طلبه منه وهذا محال أن يطلب أحد غيره شيئاً أو يدعوه منه وهو يعلم ويعتقد أنه لا يقدر عليه ولا يوصل مطلوبه ومقصوده إليه وصريح كلامه متناقض في ذلك فانه قال لكن اعتقدوا أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون ويضرون بعد قوله هو من الكفر العملي لا الاعتقادي.

(الرابع) : زعمه إسقاط التكليف والعذر بالجهل بعد بلاغ الدعوة وانتشارها كما لو لم تكن.

(الخامس) نفيه الشرك عن معتقد النفع والضر والعطاء والمنع في غير الله حيث لم يصرح بان هذا الضار والنافع والمعطي والمانع شريك لله كتصريح الأولين بالشريك معه تعالى، ولم يعلم ان قصد الأولين بالشريك من حيث أنه يشفع لهم عند الله بما أرادوا منه ويعطي ويمنع بأمره تعالى ما طلبوه ولذلك قالوا في تلبيتهم إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فهم يزعمون أنه شريكه في عبادته ومعاملته لا في تدبيره وإرادته ونفي هذا الشريك باللسان، واعتقاد معناه في الجنان لا يوجب نفيه حقيقة ولا أنه شريك له تعالى في ملكه أو خلقه أو رزقه العباد، أو تدبيره الأمور، هذا لم يقولوا به، بل صرحوا بأن ذلك كله لله وحده كما قررهم به وعرفهم. بنعمته قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا انه شريك له يملك الضر والنفع قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} وهم كانوا يدعون الله وحده عند نزول الشدة ويخلصون له فيها الدعوة قال تعالى مخبراً عنهم بذلك: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فالدعوة التي أشركوا فيها غيره ليتوصلوا به في قضائها إليه هي الشرك الموجب لسخطه وغضبه والخلود في عذابه والدعوة المختصة بجلاله المسؤولة من نيل أفضاله المخاطب بها عين كمال ذاته هي الدين الخالص الذي

ص: 178

أمر به ووعد عليه الإجابة والإنابة لكن من قدر عليه الشقاء فالأول حاله حتى ان تصبيه الشدة فيخلص لله الدعوة، فإذا استجاب الله دعاءه وأنعم عليه مولاه جاءته الاستحالة {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} ومن وفق الإنصاف بالإخلاص رأى وشاهد بحديقة عين رأسه وبصيرة عين جنانه، وتأمل بقلبه أحوال هؤلاء المدعين الإيمان، مع أحوال الأولين وجدهم في أصل دين واحد ومعناه متفقين، وفي تركه جملة مختلفين، إذ الأولون يشركون تارة ويخلصون أخرى التي هي للدعاء أولى، وأما هؤلاء فإنهم أكثر شركاً في هذه التي هي محل الإخلاص لملك الناس زيادة على التي قبلها من عدم حصول الشدة والبأس.

(السادس) : أنه قد زعم أن مجرد التصديق بالله وبرسوله وباليوم الآخر هو معنى التوحيد المقصود من لا إله إلا الله، وان ليس لها من المعنى إلا ذلك، فظن ان معناها خاص بتوحيد الربوبية، وأن الله خالق كل شيء ومرسل الرسل ومنزل الكتب ومحيي ومميت ومجاز بالأعمال، وهذا هو الذي يسمونه أهل الكلام توحيد الأفعال حتى قد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام وأهل الإرادة والعبادة فقلبوا حقيقته عن موضوعه، فطائفة ظنت أن التوحيد هو مجرد إقرار لسان العبيد بربوبيته تعالى، وأنه خالق كل شيء، وأنه على كل شيء وكيل، وطائفة ظنت أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء فيه هو النهاية، وان من شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولم يفرقوا بين مشيئة الله الشاملة لجميع المخلوقات، وبين محبته ورضاه المختصة بالطاعات، وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وما حجهم في ذلك إلا لشمول القدر كل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه، وطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضاً. يسمون أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتاً مجردة عن الصفات وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم التركيب والعقل ينفيه فقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في كل الأعيان والله سبحانه وتعالى ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} لم يزل موصوفاً بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 179

(السابع إثباته) معنى الألوهية أنها القدرة على اختراع الخلق والتدبير لا على الضر والنفع والعطاء والمنع، فمن قال لا اله إلا الله واعتقد أنه لا يقدر على اختراع الخلق والتدبير إلا الله فلا شريك له في ذلك، كان ذلك هو معنى قوله لا إله إلا الله، وان اعتقد الضر والنفع والشفاعة المنفية التي هي بغير إذنه والتقريب والتبعيد اللذين لا يكونان إلا بطاعته وإتباع رسله فيما جاؤا به من عنده في غيره من العبيد فلا يضره هذا الاعتقاد ولا تكون فتنة ولا في الدين فساد، حيث قال بلسانه لا اله إلا الله وصرف معنى الألوهية في معنى الربوبية، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا المعنى معترفين به فلم يقولوا أن العالم له خالقان أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر. بل لا بد أن يخلص الدين كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله ولا يعبد إلا إياه مخلصاً له الدين ولو كره الكافرون.

(الثامن) : زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وهذه الآية مع قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فقطع مادة من ادعى أنهم كانوا يعتقدون النفع والضر في غيره سبحانه وتعالى، وفي المسند والترمذي من حديث حصين بن المنذر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "يا حصين كم إلهاً تعبد قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، قال فمن الذي

ص: 180

تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء قال له أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فأسلم فقال له فل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي" وكثير ممن يتكلم في هذه الحقيقة الكونية وبشاهدها التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر حتى إبليس معترف بها في قوله {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقوله {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} . وأمثال هذا من الخطاب الذي يعترف فيه بأن الله ربه وخالقه ومليكه، وان ملكوت كل شيء بيده، فالمشركون الأولون إنما عبدوا غير الله بالمحبة التي كحب الله راجين بها التقرب والتقريب إليه طالبين منهم الشفاعة لديه في قضاء الحوائج وما يحتاجون إليه، ومعبودهم ذلك هو عندهم واسطة الشفاعة ووسيلة التقريب ويعبرون عنه بالإله لأن قلوبهم قد تألهته برجائها منه ما أملته مما ليس للعبيد مدخل فيه، وتارة تكثر تلك الآلهة، وتارة تقل بحسب اعتقاد من هي له، قال سبحانه:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فسمى محبتهم المساوية لحب الله التي يرجونهم ويلتجؤن إليهم بها فيدعونهم سبباً في قضاء حوائجهم عند خالقهم عبادة، وأنكر تعالى ذلك عليهم وعابهم به ورده في قوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وقال جل شأنه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وهم قد أقروا بأن الله سبحانه مالك الأشياء كلها وأنه الضار النافع المعطي المانع الذي لا رازق سواه ولا مدبر ولا قابض

ص: 181

ولا باسط ولا مخرج الحي من الميت ولا مخرج الميت من الحي إلا هو وحده لا شريك له في ذلك، لكنهم قد جعلوا بين الله سبحانه وبينهم وسائط من خلقه ليقربوهم ويحببوهم إليه ويشفعوا لهم في قضاء حاجاتهم عنده، وذلك بطرق مختلفة، ففرقة قالت ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لتقربنا إليه لعظمته، وفرقة قالت الملائكة ذوو وجاهة عند الله فاتخذنا صورهم من أجل حبنا لهم ليقربونا إلى الله، وفرقة جعلتهم قبلة في عبادة الله والتبتل إليه كما أن الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة اعتقدت أن على كل صورة مصوّرة على صورة الملائكة والأنبياء وكيلاً موكلاً بأمر الله فمن أقبل عليه وتبتل إليه قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله وإلا أصابه بنكبة بأمره.

(التاسع) : جعله هذا الشرك الأكبر ذنباً ليس فيه إلا التعزير مع الإصرار مع قوله فيما تقدم هو من الكفر العملي وهو لا يكون إلا في الكبائر والتعزير إنما هو في الصغائر.

(العاشر) : زعمه وادعاؤه أنه من العلماء الآمرين بحد الزاني والسارق والشارب، والآمر بذلك الله في كتابه وعلى لسان رسوله والعلماء الأعلام ويظهرون أمر ألله ولا يكتمونه، ففي زعمه ذلك ادعاء أنه من العلماء وأنه من الآمرين ولا يخفى ما فيه من التزكية لنفسه، قال ابن مسعود وعمر من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال هو في الجنة فهو في النار ومن قال هو عالم فهو جاهل، والله يقول:{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .

(الحادي عشر) : استدلاله على ما ادعاه بقوله صلى الله عليه وسلم أربع في أمتي من أمور الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت. أما الفخر في الاحساب فمعناه الافتخار بشجاعة الأجداد وكرمهم أو صفة من الصفات الممدوحة فيهم وهذا شأن الأوّلين، وأما الطعن في الأنساب فهو نسبة الرجل لغير أبيه ينفونه عنه وهذا الرجل مطعون في نسبه مقذوفة أمه. وأما الاستسقاء بالنجوم فقد روى البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني [قال صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال

ص: 182

أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب، ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل هذه الآية {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. .. إلى قوله

وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} وقد اختلف العلماء في كفر من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على قولين.

(أحدهما) : هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الإيمان مخرج عن ملة الإسلام، قالوا وهذا فيمن قال ذلك معتقداً أن الكوكب له سبب ومدخل في إنشاء المطر كما كان أهل الجاهلية يزعمون ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره. وهذا القول هو الذي إليه جماهير العلماء والشافعي منهم وهو ظاهر الحديث قالوا وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا معتقداً أنه من الله وبرحمته وان النوء ميقات له وعلامة اعتباراً بالعادة فكأنه قال مطرنا في وقت كذا فهذا لا يكفر واختلفوا في كراهته والأظهر كراهة تنزيه لا إثم فيها وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة ببن الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم.

(والقول الثاني) في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، قالوا وهذا فيمن لا يعتقد تسبب الكوكب وانشاءه المطر وإلا فلا شك في كفره.

وأما النياحة فهي رفع الصوت برنة ومنها لطم الخد وشق الجيب. وفيه قال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.

وهذه الأمور منها ما هو معصية لا تحرج عن الملة، ومنها ما هو مخرج عنها بشرطه وإضافة فاعليها إلى نفسه وجعله من أمته لا منافاة فان العاصي لا يخرج بعصيانه عن أمة الإجابة. ومراد النبي صلى الله عليه وسلم في المستسقي إذا لم يعتقد الكوكب له مدخل في المطر فهو من أمته عامل عمل الجاهلية في قوله مطرنا بالنوء وإلا فهو من أمة الدعوة لا من أمة الإجابة. وفرق بين خصال الذنوب التي تحت مشيئة علام الغيوب وان شاكلت أهل الجاهلية في مجرد الاسم لا في الحقيقة والاعتقاد، وبين الشرك الذي هو أظلم الظلم

ص: 183

وأقبح القبائح وأنكر المنكرات وأبغض الأشياء إلى الله أكرهها له وأشدها مقتاً لديه، ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يترتب على ذنب سواه. وأخبر أنه لا يغفر وأن أهله نجس ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحهم قطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله والمؤمنين. وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم وان يتخذوهم عبيداً لما تركوا القيام بحقه وعطلوا معاملته المتضمنة لألوهيته وما ذاك إلا أنه هضم لحق الربوبية ونقص لعظمة الألوهية وسو الظن برب العالمين. كما قال تعالى:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده. ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاث مواضع من كتابه. كيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه ويذل ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته والمؤثر لا يرضى بإيثاره. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} فالمؤمن يحب في الله لا مع الله، والكافر يحب مع الله كحب الله، قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً في العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم كما تقدم آنفاً وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً فيقولون لآلهتهم وهي في النار معهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات ولا في الصفات والأفعال ولا قالوا أن آلهتهم خلقت الأرض والسموات أو أنها تحيي وتميت أو تدبر الكلام في ذلك ونقل الآيات، وإنما ساووهم به في محبتهم لها تعظيمهم لها وعبادتهم إياها بدعائها والدعاء حولها لتكون سبباً وواسطة في حصول المطلوب، والتقريب إلى المحبوب، كما عليه أهل الأشراك ممن ينتسب إلى الإسلام في قولهم لا اله إلا الله، فإنهم أثبتوا لغيره تعالى قولاً وفعلاً واعتقاداً معنى ما أثبتوه له في مجرد القول وحصول ذلك إنما هو بسبب إتباع الهوى، وعموم البلوى، والجهل بكيفية التوحيد الواجب على

ص: 184

العبيد. ولما اتبعوا أهواءهم وزين لهم الشيطان أعمالهم صدهم عن السبيل فهم لا تهدون ويزعمون أنهم هم المهتدون، وما سبب ذلك إلا الإعراض عن كتاب الله وعدم تدبر معانيه والعمل بما فيه، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} ونرى كثيراً منهم مع ارتكابهم أكبر الكبائر على الإطلاق يرتكبون الكبائر ويجترحون المآثم والمظالم، ولا يبالون بالله بل يخافون المخلوق ما لا يخافون الله، فيجعلون تلك المظالم قربات يتقربون بها إلى نبي أو ولي، ويجعلون على قبره الأبنية والتوابيت وأكسية الديباج والحرير، وعلى قبته أبواب الورق ليجلب لهم نفعاً، ويدفع عنهم ضراً، ولو لم يفعلوا عادتهم تلك بل اتفق أنهم تركوها وقت فعلها فحصل لهم أو عليهم أمر مزعج ومكدر لم يسندوه إلا إليه لتقصيرهم بعدم صنيعهم. ومنهم من يأت القبر ويقف عليه ويظهر له كيس النفقة خالياً فيومي بها إليه ويكلمه بما هو فيه من الشدة والفاقة وأنه محسوب عليه، وليس فعله ذلك جهلاً بل عناداً وبغياً زاعماً أنه من الدين، ومما يرضي رب العالمين. وهذا بعينه ما يفعله جميع عباد الأوثان بأوثانهم زيادة على بذل النذور للأموات وسادنيها ليجلبوا لهم الخير ويدفعوا عنهم الشرور. لكن طال الأمد ووجدت الغفلة، وحصل الران، حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، فتغشية قبور الأنبياء والصالحين وهو سترها بغاشية ليس مشروعاً في دين الرسل، ولا يصح وقف ذلك على الأضرحة لأنه بدعة خبيثة من فعل عباد الأصنام فان فعل فهو باق في ملك ربه فان جهل أو لم يكن موجوداً ولا وارث له فمال ضائع مرجعه لبيت المال إلا الكعبة فقط زادها الله تشريفاً، وخصت به كالطواف.

ومن العجب أن أهل الأشراك ينسبوننا إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين وما ذنبنا إلا أنا قلنا لهم أنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً، ولا نفعاً، ولا موتاً، ولا حياة، ولا نشوراً، وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرم الله شفاعتهم لهم ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع، فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن. ولهذا قال إمام الحنفاء عليه السلام

ص: 185

لخصمائه من المشركين أئفكاً آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب لعالمين. وان كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له نداً فأنت تجد تحت هذا التهديد ما ظنكم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره. فان المشرك إما أن يظن الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو عوين، وهذا أعظم النقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته. وأما أن يظن أنه سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك. وأما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أو لا يرحم عبيده حتى يجعله الواسطة يرحمهم، أولاً يكفي وحده أن يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثيره به من القلة وتعزيزه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه، كما هو حال ملوك الدنيا. وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم، حتى يرفع الوسائط إليه ذلك، أو يظن أن للمخلوق عليه حقاً، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا تمكنهم مخالفته. وكل هذا نقص للربوبية، وهضم في الألوهية، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله وخوفه، ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه من قلب المشرك، بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به، فينقص أو يضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه، فالشرك ملزوم لنقص الرب سبحانه، والتنقيص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى. ولهذا اقتضى حمده تعالى وربوبيته أن لا يغفره وأن يخلد صاحبه في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وان زعم أنه يعظمه بذلك كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول، وان زعم أنه معظم له بتلك البدعة فانه يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، ويزعم أنها هي السنة ان كان جاهلاً مقلداً وان كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله، فالمنتقصون هم المنقصون عند الله ورسوله. وأولياؤهم أهل الشرك والبدعة ولاسيما من بنى دينه على أن كلام الله ورسوله دلالة لفظية لا تفيد اليقين ولا تغني من العلم واليقين شيئاً، فيالله العجب أي شيء أسعد هذا من إيجاده التنقيص، فأهل الشرك والبدعة من أعظم الناس تنقيصاً ونقصاً لبس عليهم إبليس حتى ظنوا أن تنقصهم هو عين الكمال، وان لم يلاحظوه، ولهذا

ص: 186

كانت البدعة قرينة الشرك في كتاب الله سبحانه، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فالإثم والبغي قرينان، والشرك والبدعة قرينان، وان افترقا في المعنى والحكم، فليس الموحد إلا من شاهد المخلوقات بأمرها قائمة بأمر الله مدبرة بأمره، وشهد كثرتها بوحدانية الله سبحانه وتعالى وأنه رب المصنوعات، وإلهها، وما لكها، ومدبرها مع اجتماع قلبه على الله إخلاصاً له سبحانه وتعالى في معنى ألوهيته من محبته وخوفه، ورجائه والاستعانة به والتوكل عليه وحصر الدعاء بالذي لا يقدر على وجوده أو دفعه إلا الله عليه وحده، والموالاة والمعاداة فيه، وأمثال هذا ناظر إلى الفرق بين حق الخالق والمخلوق. وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، وفي حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته، فهذا هو تحقيق شهادته لا اله إلا الله، فان قائل هذه الشهادة ينفي عن قلبه ألوهية كل ما سوى الله كل ما سوى ألوهيته بحق، وثبت ألوهية الله الملك المعبود بالحق، فيكون نافياً لألوهية جميع المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب الأرض والسموات، وذلك بتضمن اجتماع القلب على الله، ومفارقته ما سواه، فيكون مفرقاً في علمه وقصده لله شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً بالله ذاكراً له، عارفاً به وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم وحده بعبادته وأفعاله، وصفاته عنهم فيكون محباً له لا معه، معظماً له لا معه، عابداً له لا معه، راجياً له لا معه، خائفاً منه لا معه، محباً فيه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به لا بغيره، متوكلاً عليه لا على غيره، ممتنعاً عن عبادة غيره، فلا يجعل حقه تعالى لغيره. وهذا المقام هو المعنى في إياك نعبد وإياك نستعين، وهو من خصائص الألوهية المشهود بها، كما أن رحمته تعالى لعبيده وهدايتهم من خصائص الربوبية وشهادته بهذه الألوهية مع العمل بها يضمن الشهادة بالربوبية، وهو أنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره، فحينئذ يكون موحداً داعياً الله وحده بما لا يقدر عليه إلا هو عابده به متأله فيه فلا يدعو غيره بما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه عبادته مختص بجلاله. قال سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فسماه عبادة وأضافها إلى نفسه. وروى النعمان بن بشير قال قال رسول

ص: 187

الله صلى الله عليه وسلم: "ان الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} رواه أبو داود والترمذي. وقال حديث حسن صحيح. فوجود العمل والعلم بالشهادة شرط لصحة قولها. فإذا صحت كانت أفضل العبادات لوجود ما تضمنته من معناها المراد منها يبين ذلك أن أفضل الذكر لا اله إلا الله كما رواه الترمذي، وابن حبان وغيرهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله تعالى قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه أي جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه، فهم يتخذون أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله. ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين، فان قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعاً كالشمس والقمر والكواكب. والخليل بين أن الآفل ينيب عن عابده وتحجبه عنه الحواجب فلا يرى عابده، ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه، ولا يضره بتسبب، ولا غيره. فأي وجه لعبادة من يأفل، كلما حقق العبد الإخلاص في قوله لا اله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه، ويصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين. وهؤلاء هم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . وقال الشيطان فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا اله إلا الله مخلصاً من قلبه حرمه الله عليه النار" فان الإخلاص ينفي أسباب دخوله النار، فمن دخل النار من القائلين لا اله إلا الله لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل. ولهذا كان العبد مأموراً في كل

ص: 188

صلاة أن يقول إياك نعبد وإياك نستعين، والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك فلا تزال النفس تلتفت إلى غير الله إما خوفاً منه، وإما رجاء له. فلا يزال العبد مفتقراً إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار، فلما رأت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً") فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من الله له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه فصار فيه شرك يمنعه من الاستغفار، وأما من حقق التوحيد والاستغفار فلا بد أن يرفع عنه الشر. فلهذا قال ذو النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ولهذا يقرن بين التوحيد والاستغفار في غير موضع. كقوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى قوله: {واسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} وقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} وخاتمة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ان كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه وان كان مجلس لغيره كانت كفارة له. وقد روى أيضاً فقال في آخر الوضوء بعد أن يقال أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار فان صدره الشهادتان اللتان هما أصلا الدين وجماعه، فان جميع الدين داخل في الشهادتين إذ مضمونهما أن لا نعبد إلا الله، وأن نطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا في عبادة الله بطاعة الله ورسوله، وكل ما يجب ويستحب داخل في عبادة الله وطاعة رسوله. وقد عقد البخاري باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله عز وجل. فاعلم أنه لا اله إلا الله، فالموحدون هم المخلصون وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق علموه فاتبعوه ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين بل أخلصوا دينهم لله وأسلموا وجوههم وأنابوا إلى ربهم فأحبوه ورجوه وخافوه، ورغبوا إليه، وفوّضوا أمورهم إليه، وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم

ص: 189