الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والانتهاء عما نهى عنه، وهو يحب صلاح المأمور به وإقامة الحجة عليه قاصداً أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فلا يغضب على من خالفه مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ولا يرضى عمن كان جاهلاً سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد، بل بحمدً من حمده الله ورسوله، ويذم من ذمه الله ورسوله، وتصير موالاته ومعاداته على دين الله ورسوله، لا على هوى النفس، وأصل الدين الذي لا فتنة فيه أن يكون الحب لله والبغض لله، والموالاة لله والمعاداة لله، والعبادة لله والاستعانة بالله، والاتكال على الله، والخوف من الله والرجاء لله، والإعطاء لله والمنع لله، وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله، وصاحب الهوى يعميه هواه ويصمه، فلا يستحضر في قوله وعقيدته ما لله ورسوله في ذلك، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه هواه، ويغضب لما يغضب له هواه، فلم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قوله وعقيدته وحميته مجرد هوى، وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً جانبوا قوله تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} فكانوا ممن قال الله فيهم: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وميل نفس وهوى، وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا بمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت والله أعلم.
بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}
وأما قولكم وقوله تعالى {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} وما ذكر فيه من الرواية عن عبد الله بن عباس أنهما آدم وحواء وأن الشيطان أتاهما ولم يزل بهما حتى سمَّيا ولدهما عبد الحرث
…
الخ ما قال. فنقول هذه الرواية وما أشبهها لا أصل
لها رأساً بل لا يلتفت إليها في حق الأنبياء المعصومين عن أمثال هذه الأمور بل الواجب على كل مؤمن أن يحكم بكذبها ويحمل قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} على أن الخطاب في خلقكم لقريش وحدهم لا لبني آدم كلهم والنفس الواحدة قضى وجعل منها زوجها أي جعلها عربية قرشية من جنسه لأنه خلقها منه وإشراكهما بتسميتهما إبنيهما عبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي والضمير في يشركون لهما ولا عقابهما، وعلى هذا فليس الضمير في جعلا لآدم وحواء وهذا الذي عليه أكثر المفسرين وإن صح أنه لآدم وزوجته فأين الدليل على الشرك في ألوهيته، ولعله أي الشرك المذكور في الآية هو الميل إلى طاعة الشيطان، وقبول وسوسته مع الرجوع إلى الله تعالى بلا مطاوعة للشيطان وذلك الميل المتفرع على الوسوسة غير داخل تحت الاختيار فلا يكون معصية وذنباً، ولعله كان قبل، وان أبيت عن هذا كله فهو على تقدير المضاف أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما وكيف لمن في قلبه ذرة من إيمان أن يصدق بهذه الحكاية مع أن الآية التي تتلوها تنادي على كذبهما وهي قوله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهم الأصنام كما عليه المفسرون، مع أن الأصنام لم تعبد من دون الله إلَاّ قريباً من زمن نوح) .
الجواب عما هذى به الخصم في هدا المقام
فنقول هذا مما يؤيد ما قلناه في صاحب المقدمة من أنه يرد من تلقاء نفسه بلا تحقيق ولا تحقق فيما قاله الأئمة الأعلام من أولي العلم والفهم وما نقلته الرواة وتلقته بالقبول الجهابذة الثقات، فإنه قد فهم من معنى الشرك المذكور في هذه الآية شرك الألوهية في آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام فلذلك أوجب نفي رجوع الضمير الذي في الآية عنهما جعل من لازم جواز ثبوته إليهما شركهما في الألوهية، ونسبنا إلى تكفير الأنبياء والصالحين وما ذاك إلَاّ لعدم فهمه ومعرفته معنى الشركة التي في الآية مع ما نقله السلف من صحة رجوع الضمير إليهما، بل في معرفة معنى الشرك من حيث هو وأقسامه والجهل فينا وفي عقيدتنا وفيما قلناه وعنينا وذلك من وجوه.
(الوجه الأول) ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره" وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن عبد الصمد بن عبد الوارث ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد مرفوعاً. وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلَاّ من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً، وقال هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الحاكم أيضاً وصححه عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه المتقدم، ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعاً، ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث هلال بن فياض قال الحافظ ابن كثير وشاذ لقب لهلال وعمر بن إبراهيم هو البصري قد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي لا يحتج به لكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة وقد روى الحديث عنه مرفوعاً وموقوفاً.
(الثاني) ما قاله أهل التفسير قاطبة عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء ثم انتشر الناس منهما كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
…
} الآية فكلهم قد فسروا قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها الآية بآدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، وأسندوا بيان النفي الواحدة المخلوق منها سائر البشر وبيان الزوج المجعول منها إلى سائر الآيات المعني بها آدم وزوجته حواء والتثنية التي في قوله فلما آتاهما صالحاً جعلا له راجعة لهما.
(الثالث) ما أجمع عليه المفسرون وقالوا بعبارات متفقة المعنى مختلفة اللفظ عن ابن عباس من طريقين أو ثلاثة:
الأول منهما: ما قاله محمد ابن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن
عكرمة عن ابن عباس قال كانت حواء تلد لآدم عليهما الصلاة والسلام أولاداً فيعبدهم لله نحو عبد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت، فأتى إبليس آدم وحواء فقال إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه أولاً لعاش فولدت له غلاماً فسمياه عبد الحرث ففيه أنزل الله هو الذي خلقكم من نفس واحدة.. إلى آخر الآية.
الثاني: ما قاله العوفي عن ابن عباس أيضاً في قوله تعالى هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى قوله فمرت به فشكت أحملت أم لا لخفته، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين، فأتاهما الشيطان فقال هل تدريان ما يكون بهيمة أم لا وزين لهما الباطل إنه غوي مبين وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما إنكما إن لم تسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث لم يخرج سوياً ومات كالأول فسمياه عبد الحرث فذلك قول الله:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} .
الثالث: ما قاله عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما يعني آدم وحواء أتاهما إبليس وقد حملت حواء فقال إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني ايل فيخرج من بطنك فيشقه أو لأفعلن وأفعلن فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت الثانية فأتاهما أيضاً فقال أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت لتفعلن وتطيعاني أو لأفعلن يخوفهما فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت الثالثة فأتاها فذكر لهما ما قاله أولاً فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحرث فذلك قول الله فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما. رواه ابن أبي حاتم في مستدركه.
وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض، وقد تلقى الأثر الوارد في خدع إبليس لآدم وحواء جماعة من السلف كمجاهد وعكرمة وسعيد ابن جبير، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والسدي، وجماعة آخرون من السلف والخلف، ومن المفسرين المتأخرين جماعة لا تحصى كثرتهم إلَاّ ما ذهب إليه الحسن
البصري رحمه الله تعالى من أنه ليس المراد من سياق الآية آدم وحواء بل المراد من ذلك المشركون من ذريتهما ولهذا قال تعالى {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وذكره تعالى آدم وحواء في أول الآية كالتوطئة لما بعدها من الوالدين وهو كالاسترداد من ذكر الشخص إلى الجنس كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم المزين بها ليست هي التي يرجم بها وإنما هو استطراد من شخص المصابيح أي جنسها وهذا له نظائر في القرآن كثيرة. قال الإمام أبو الحسين بن مسعود البغوي وهذا القول حسن لولا قول السلف مثل عبد الله بن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين أنه آدم وحواء، ومعنى ما تأوله الحسن وعكرمة أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهما بقرينة قوله أيشركون بالجمع فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أقام الأبناء مقام الآباء في إضافة الفعل إلى الأبناء والفاعل إنما هو الآباء كقوله تعالى مخاطباً اليهود الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْل} وقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} وأمثال ذلك.
(الرابع) ما قاله ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد مناف وعبد شمس وعبد اللات وعبد مناة.
(الخامس) قولنا وعقيدتنا ما قاله السلف واعتقدوه في قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهما يعني في طاعته ولم يكن شركهما في عبادته فإن كل اسم معبد لغير الله كعبد الحرث وعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حرام لا يجوز التسمية به باتفاق من يعتد به من أهل العلم، وتحرم طاعة الآمر بذلك فلا يحل التسمية بعبد علي ولا عبد الحسين ولا عبد الكعبة، فكيف بكلب علي وعبد الحرث الذي هو الشيطان، وقد روي ابن أبي شيبة من حديث هانىء بن شريح قال:"قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلاً عبد الحجر فقال: "ما اسمك" قال عبد الحجر فقال رسول الله إنما أنت عبد الله" وقد تقدم حديث عبد الصمد بن عبد الوارث وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان
وأمره" رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الترمذي في تفسير الآية، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه، ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث هلال بن فياض، والشرك في طاعته هو امتثال أمره وقبول قوله، وليس ذلك شركاً في العبادة كما قلناه وقررناه، ولكنهما زعما أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أمه فلذلك أضافا ولدهما إليه، لا على جهة أن الحرث مالكه ومعبوده، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوكه، كما يستعمل اسم الرب مضافاً إلى من لا يراد أنه معبوده، وكمن نزل به ضيف يسمي نفسه عبد الضيف على جهة الكرم والتواضع لا على أن الضيف ربه ومعبوده، قال يوسف صلى الله على محمد وعليه وسلم لعزيز مصر إنه ربي، ولم يرد أنه معبوده، فكذلك هنا ولكن المناسب لهما عدم طاعته وعدم قبول قوله وامتثال أمره إذ هو الذي قد غرهما وخدعهما فأخرجهما وفرق بينهما للعداوة الأزلية لهما ولذريتهما أبد الآبدين ودهر الداهرين وبعد يوم الدين.
واتفقوا على عصمة الأنبياء من تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده، وتنازعوا هل تقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها أو لا تقع بحال، فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلة وبعض أهل الحديث من أهل السنة منهم ابن السبكي وغيره لا تقع منهم الصغيرة بحال ولا قبل النبوة ولا بعدها زادت الشيعة لا يمكن وقوعها منهم خطأ ولا عمداً، والصحيح عند السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير لا تقع الصغائر منهم عمداً. واتفقوا على وقوعها منهم سهواً وخطأً. كما نقله السعد التفتازاني في حاشية الكشاف إلَاّ ما يدل على الخسة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة فلا يجوز عليهم، واشترط جمع من المحققين أن ينبهوا على ما فعلوه سهواً فينتهوا عنه، وقال قوم من علماء أهل السنة من أهل الحديث من أصحاب الأشعري وغيرهم وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه علهم أجمعين تقع منهم بعض الصغائر مع التوبة منها والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإذا ابتلي بعض الأكابر بما يتوب منه فذلك لكمال النهاية لا لنقص البداية، كما قال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وفي الأثر أن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وأن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، يعني أن السيئة يذكرها ويتوب منها فيدخله ذلك الجنة، والحسنة يعجب بها ويستكبر فيدخله ذلك النار.
وأيضاً فالحسنات والسيئات متنوع بحسب المقامات، كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمن فهم ما تمحوه التوبة وترفع صاجها إليه من الدرجات وما تفاوت الناس فيه من الحسنات والسيئات زالت عنهم الشبه في هذا الباب، وأقر الكتاب والسنة على ما فيهما من الهدى والصواب، وقد اتفق الأمة على أن من سوى الأنبياء ليس بمعصوم لا من الخطأ ولا من الصواب، سواء كان صديقاً أو لا، وعلى أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى، فإن مقصود الرسالة لا يتم إلَاّ بذلك، وكل ما دل على أنه رسول الله من معجزة فهو يدل على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإني لا أكذب على الله" واتفقوا أيضاً على أنه لا يقر على الخطأ كما أنه لا ينطق عن الهوى وعلى أنه صلى الله عليه وسلم أخوف الأمة لمولاه وأشدهم خشية منه وتضرعاً إليه ورغبة فيما لديه. فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه ويعترف له بذنبه كما في قوله: "اللهم أنت الملك لا إله إلَاّ أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً فإنه لا يغفر الذنوب إلَاّ أنت
…
" الحديث وأمثاله إظهاراً للعبودية، وافتقاراً للصمدية، وتشريعاً للأمة، وبياناً لشكر النعمة، قال الأئمة كل يؤخذ من قوله ويترك إلَاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه الذي أوجب الله على أهل الأرض الإيمان به وطاعته بحيث يجب عليهم أن يصدقوه بكل ما أخبر ويطيعوه في كل ما أمر، فقد ذكر الله طاعته واتباعه في قريب من أربعين موضعاً في القرآن، قال عز من قائل:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
…
} الآية وقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً..} إلى قوله
…
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ
…
} الآية. وطاعة الله والرسول هي عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس، فهي غايتهم التي يحبها الله ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاهد من بعضهم ما هو خلاف ذلك وخلقهم له فتلك غاية شاءها وقدرها وهذه غاية يحبها ويأمر بها ويرضاها. والعبادة لله أن تجمع غاية الحب له بغاية الذل له والانقياد إليه
فكل خير وكمال ومقام وما يقرب إليه مما يحمد من العباد ويطلب منهم شرعاً ويرضاه لهم فهو داخل في طاعة الله ورسوله ومستلزم ذلك والنص في وجوب الطاعة قاض في عصمة صاحب الرسالة.
(فإن قيل) قد اتفقوا على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين معصومون من تعمد الكبائر قبل الوحي وبعده كما قلتم به وقاعدتكم في الشرك الأصغر أن حكمه من اكبر الكبائر عندكم وذلك مناف لجعل الضمير في قوله تعالى جعلا له شركاء فيما آتاهم عائداً إلى آدم وحواء صلى الله عليهما وسلم إذا كان آدم نبياً معصوماً عن الكبائر أن يفعلها هو بنفسه فكيف يوافق حواء على الشرك بالله.
(الجواب) أن آدم وحواء عليهما السلام لم يعتقدا أن ذلك الاسم معصية لله ولم يقصدا به مضارة نهيه تعالى أو عدم فعل أمره بل إنما طاوعا اللعين فيما قاله لهما مكافأة لشره وخوفاً على ولدهما من ضره بتوعده لهما فيه وهما لم يطاوعاه أولاً لعلمهما بعداوته وأنه الذي أخرجهما مما كانا فيه من النعيم، ثم أدركتهما شفقة الولد فطاوعاه في التسمية فبذلك أشركا في طاعته لا في عبادته وكذلك قوله تعالى فعصى آدم ربه فغوى مع قوله فدلاهما بغرور، فإن اللعين غرهما بالقسم لهما أنه ناصح في قوله لهما {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} فخدعهما لظنهما أن لا أحد يحلف بالله كاذباً فأكلا ولم يقصدا المعصية لأنهما لم يعتقدا أن النهي راجع إلَاّ لما قال لهما وأقسم لهما فيه فتعين نفي تعمد الكبائر على الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام وقوله تعالى فعصى آدم ربه فغوى باعتبار الأكل من الشجرة المنهي عنها بمطاوعة الغار.
(فإن قيل) كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميلة تعس عبد القطيفة" وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ودخل عليه رجل وهو جالس بين أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقالوا هذا وأشاروا إليه.
(الجواب) أن قوله تعس عبد الدينار الحديث لم يرد به الاسم وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه الدينار والدرهم واختارهما على عبودية ربه تبارك وتعالى، وقوله أنا ابن عبد المطلب ليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي يميز به المسمى دون غيره والاخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسمون بني عبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن باب الاخبار واسع يجوز فيه ما لا يجوز في الإنشاء فتحرم التسمية أيضاً بملك الملوك وسلطان السلاطين وشاه شاه لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك" وفي رواية اخنى بدل اخنغ وفي رواية لمسلم أبغض رجل عند الله يوم القيامة وأخسه رجل كان يسمى بملك الأملاك لا مالك إلَاّ الله ومعنى أخنع وأخنى: أوضع.
وأما الأسماء المكروهة، فمنها ما رواه مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسمين غلامك يساراً ولا حرباً ولا نجاحاً ولا أفلح فإنك تقول أثم فلان فيقال لا" قال ابن القيم والمذكور في الحديث إنما هن أربع لا يزدن عليها، وهذه الجملة الأخيرة ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هي من كلام الراوي، وقال أيضاً قلت وفي معنى هذا مبارك ومفلح وخير وسرور ونعمة، وما أشبه ذلك لوجود المعنى الذي كرهت تلك الأمور الأربعة لأجله فإنه يقال أعندك خير أعندك سرور أعندك نعمة فيقول لا فتشمئز القلوب من ذلك وتستطير منه. ومنه التسمية بأسماء الشياطين، كخنزب والولهان، وأسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون وهامان والأسماء التي تكرهها النفوس ولا تلائمها كحرب ومرة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشق عليه الاسم القبيح ويكرهه جداً من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال حتى أنه مر في مسير له بين جبلين فسأل عن اسمهما فقيل فاضح ومخز، فعدل عنهما ولم يمر بينهما، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الاعتناء بذلك، ومن تأمل السنة وجد معاني الأسماء مرتبطاً بها حتى كأن معانيها مأخوذة منها وكأن الأسماء مشتقة من معانيها فتأمل قوله صلى الله عليه وسلم:" أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله" وقوله لما جاء سهيل بن عمرو يوم الصلح: "سهل أمركم" وتأمل تغييره الأسماء غير المناسبة كما في
الصحيحين أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى بالمنذر بن أسيد حين ولد فوضعه على فخذه فأقاموه فقال: " أين الصبي" قال أبوه أسيد قلبناه يا رسول الله قال ما اسمه قال فلان قال "ولكن اسمه المنذر"، وفي سنن أبي داود من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما اسمك قال حزن، قال: "أنت سهل" قال لا السهل يؤطا ويمتهن قال سعيد فظننت أن سيصيبنا بعد حزونة، قال أبو داود وغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم العاص والعتلة وشيطان والحكم وغراب وشهاب وخباب فسماه هاشماً وسمى حرباً سلماً، وسمى المضطجع المنبعث، وأرضا يقال لها عفرة خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزنية سماهم بنو الرشدة، وسمى بنى معاوية بني رشدة، قال أبو داود وتركت أسانيدها للاختصار، وتأمل أيضاً حثه على تحسين الاسم كما في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماكم" رواه أبو داو بإسناد حسن وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن" رواه مسلم في صحيحه. وقوله أن الأصنام لم تعبد من دون الله إلَاّ قريباً من زمن نوح قد ذكر المفسرون عند قوله تعالى كان الناس أمة واحدة، عن قتادة عق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال وكذلك في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث محمد بن بشار ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا رواه أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرأها كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في الآية قال كانوا على الهدى جميعاً فاختلفوا فبعث الله النبيين فكان أول من بعث نوح، وهكذا قال مجاهد كما قال ابن عباس أولاً، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله أمة واحدة يقول كفار فبعث الله النبيين، قال الحافظ ابن كثير والأول عن ابن عباس أصح إسناداً ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام فكان أول رسول إلى أهل الأرض. ولهذا ذكر سبحانه في سورة يونس ما كان الناس إلَاّ أمة واحدة فاختلفوا فذمهم على الاختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أن ما كانوا عليه حق والله أعلم.