الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان، ان تابوا سقطت عقوبتهم، وان ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله عفا عنهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة، فكل هذه الدلائل تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم ان هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثيراً، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهراً وجب الجمع بينهما، وقد وردا ههنا فيجب الجمع وقد جمعنا، وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلاً مع علمه بورود الشرع بتحريمه، وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري: معناه ينزع اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين، ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ان معناه ينزع منه نور الإيمان وقال المهذب تنزع منه بصيرته في طاعة الله وفيه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان" رواه الترمذي وأبو داود.
حكم الفاسق:
(وقد انقسم الناس) في الفاسق من أهل الملة كالسارق والزاني والشارب ونحوهم على ثلاثة أقسام طرفين ووسط.
(أحد الطرفين) أنه ليس بمؤمن بوجه من الوجوه ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان، ثم من هؤلاء من يقول هو كافر كاليهودي والنصراني، وهو قول الخوارج وفيهم من يقول ننزله منزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق وليس هو بمؤمن ولا كافر وهم المعتزلة، وهؤلاء يقولون أن أهل الكبائر يخلدون في النار وان أحداً منهم لا يخرج منها وهذا من مقالات أهل البدع التي دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان على خلافه، قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فسماهم الله مؤمنين وجعلهم إخوة مع
الاقتتال وبغي بعضهم على بعض وقال تعالى في بيان الكفارة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولو أعتق مذنباً أجزأه عتقه بإجماع العلماء ولهذا يقول العلماء السلف في المقدمات الاعتقادية لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، وقد ثبت الزنا والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحكم فيهم حكم من كفر ولا قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين بل جلد هذا وقطع هذا ورجم هذا وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول:" لا تكونوا أعوان الشياطين على أخيكم" وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل.
(الطرف الثاني) قول من يقول إيمانهم باق كما كان لم ينقص، بناء على ان الإيمان هو مجرد التصديق والاعتقاد الجازم وهو لم يتغير وإنما نقصت شرائع الإسلام، وهذا قول المرجئة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وهو أيضاً قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السابقين والتابعين لهم بإحسان قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} والآيات في ذلك والأحاديث كثيرة جداً كما تقدمت وقد تقدم أيضاً إجماع السلف على ان (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ومدين ذلك أنه قول القلب وعمله، وثم قول اللسان وعمل الجوارح، فأما قول القلب فهو التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر، ويدخل في ذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه في معنى الإيمان برسالته (ثم الناس) في هذا على أقسام:
منهم من صدق به جلة ولم يعرف التفصيل.
ومنهم من صدق به إجمالاً وتفصيلاً.
ثم منهم من يدوم استحضاره فيه بما قذف الله في قلبه من النور والآيات.
ومنهم من جزم به لدليل قد تعترضه منه شبهة أو لتقليد جازم، وهذا التصديق يتبعه عمل القلب وهو حب الله ورسله وتعظيم الله ورسله وتعزير الرسول وتوقيره وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.
فهذه الأعمال القلبية كلها من الآيات، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة للمعلول ويتبع الاعتقاد قول اللسان ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك، وعند هذا فالقول الوسط الذي هو قول
السنة والجماعة أنهم لا يسلبون اسم الإيمان على الإطلاق ولا يثبتونه على الإطلاق، بل يقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويقال ليس بمؤمن حقاً، أو ليس بصادق الإيمان، وكل كلام أطلق في الكتاب والسنة فلا بد أن يدين المراد منه، والأحكام منها ما يترتب على أصله وفرعه كاستحقاق الحمد والثواب وغفران السيئات ونحو ذلك. إذا علمت هذه القاعدة فالذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا تنتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن" والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة وهي مفسرة للرواية المشهورة، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود:"إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان" دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط، وأحسن ما قيل في معنى هذا الحديث أن نفس التصديق الفارق بينه وبين الكافر لم يعدمه لكن هذا التصديق لو بقي على حاله لكان صاحبه مصدقاً بأن الله حرم هذه الكبيرة وأنه تعالى توعد عليها بالعقوبة العظيمة، وأنه تعالى يرى الفاعل ويشاهده، وهو تعالى مع عظمته وجلاله وكبريائه يمقت هذا الفاعل فلو تصور هذا التصور لامتنع صدور الفعل منه متى فعل هذه الخطيئة فلا بد من أحد ثلاثة أمور:
وإما اضطراب العقيدة بأن يعتقدان ان الوعيد ظاهره ليس كباطنه، وإنما المقصود منه الزجر كما قالته المرجئة أونما يحرم هذا على العامة دون الخاصة كما قالته الإباحية وغير ذلك من العقائد المكفرة التي تخرج عن الملة.
وإما الغفلة والذهول عن التحريم وعظمة الرب تعالى وتقدس وشدة بأسه فيغتر بسعة رحمته وغفرانه ويقتحم هذا الذنب الكبير ولا يبالي.
وإما فرط الشهوة بحيث تقهر مقتضى الإيمان وتمنع موجبه فيصير الاعتقاد مغموراً مقهوراً كالعقل في النائم والسكران وكالروح في النائم ومعلوم أن الإيمان الذي يسمى إيماناً ليس باقياً كما كان إذ ليس مستقراً في القلب ظاهراً، واسم الإيمان عند الإطلاق إنما ينصرف إلى من يكون إيمانه باقياً على حاله عاملاً عمله وهو يشبه من بعض الوجوه روح النائم فان الله سبحانه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها