الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلَاّ شفعهم الله فيه" رواه مسلم فهذا مقصود الصلاة على الميت، وهو الدعاء له والاستغفار له، ومعلوم أنه في قبره أشد حاجة منه وهو على نعشه، فإنه حينئذ معرض للسؤال وغيره، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن فيقول:"اسئلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" فعلم بهذا أن الميت أحوج إلى الدعاء بعد الدفن فإذا قام المسلمون على جنازته ودعوا له، لا دعوا به وشفعوا له لا استشفعوا به، فعند الدفن أولى وأحرى، فبدل أهل الشرك والبدع قولاً غير الذي قيل لهم بدلوا الدعاء له بدعائه، والاستغفار له باستغفاره، والشفاعة له بالاستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت وإحساناً إلى الزائر وتذكيراً بالآخرة سؤال الميت نفسه، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة وحضور القلب عندها وخشوعه أعظم منه في الصلاة والمساجد ووقت الأسحار.
الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة
(ومن المحال) أن يكون دعاء الموتى والدعاء بهم والدعاء عندهم وسيلة مشروعة وعملاً صالحاً مأموراً به، وتصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرزقه الخلف الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعاً وعشرين سنة حتى توفاه الله إليه واختار له ما لديه، وهذه سنة الخلفاء الراشدين المهديين وهذه طريقتهم وجميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، هل يمكن بشراً على وجه الأرض أن يأتي عن أحدهم بنقل صحيح أو حسن أو ضعيف أو منقطع أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلاً أن يصلوا عندها أو يسألوها حوائجهم، أو يسألوا الله بأصحابها، فليوقفنا على أثر واحد أو حرف واحد في ذلك، بل يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم من المتبعين أهواءهم بكثير من المختلقات والحكايات المخترعات والكذبات والتمويهات، وكلما تأخر الزمان وطال العهد كان ذلك
أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات زور وبهتان ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين المهديين، ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين لهم بإحسان حرف واحد من ذلك بلى فيها ضد الإسلام وخلافه شيء كثير كما تقدم من قولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وأمثال ما هو منافض لما بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب.
(وأما زيارة قبر نبينا محمد) صلى الله عليه وسلم أو سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال العلماء لا يثبت قبر معروف لنبي إلَاّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغير إنما هي ظنون لا يمكن تعيينه في مكان معلوم وان علمت البقعة المدفون فيها كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بقبر موسى عند الكثيب الأحمر عن القدس رمية حجر، قال:" فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" رواه البخاري، وإلا قبري صاحبيه رضي الله عنهما.
وزيارة قبره الشريف فيها تفصيل لائق ينبغي طلبه، قد فصلها الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون، وقسموها إلى قسمين مشروع وغير مشروع.
فأما المشروع منها فهو ما قاله الإمام مالك، وأحمد بن حنبل والشافعي، وأبو حنيفة، وغيرهم من المجتهدين كلهم قالوا ان من كان حاضراً في المدينة فيشرع في حقه أن يأتي إلى القبر فيصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما قالوا ولا يكثر من المجيء عليه ولا يكرره في اليوم مرات احتراماً له، ولأنه لم يفعله الصحابة ولا التابعون، وان من قدم من سفر أو خرج إليه فيقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلى ويسلم عليه، وعلى صاحبيه بعد أن يصلي لله في المسجد ركعتين. وروى ابن بطة في الإبانة بإسناد صحيح عن معاذ بن معاذ قال حدثنا ابن عوف قال سأل رجل نافعاً فقال هل كان ابن عمر يسلم على القبر فقال نعم لقد رأيته مائة مرة أو أكثر منها كان يأتي إلى القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد محتجاً بها ثم ينصرف، وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ وكره غيره من العلماء أن كقول زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر
بعضهم أنه علله بلعنه زوارات القبور. قال القاضي عياض والأولى أن يقال إنما كرهه مالك لإضافة الزيارة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو قال زرنا النبي لم يكره لقوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فلا تضاف الزيارة إلى القبر للتشبه بأولئك، واتفقوا على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل القبر وإنما يستقبل القبلة، وتنازعوا في الاستقبال عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهم يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وبعضهم يعزوه إليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بل يستقبل القبلة ويسلم عليه هكذا في كتب أصحابه عنه، وقال مالك فيما ذكر إسماعيل بن اسحق في المبسوط، والقاضي عياض في الشفاء والمشارق وغيرهما من أصحاب مالك، وعنه لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو ولكن يسلم ويمضي، وقال أيضاً في المبسوط عن مالك لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه ويدعو له ولأبي بكر، فقيل له ان أناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلَاّ وهم يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر يأتون عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا لا من الصحابة ولا غيرهم، ولا يصلح هذه الأمة إلَاّ ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه أمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكررون المجيء إلى القبر، بل كانوا يكرهونه إلَاّ لمن جاء من سفر أو أراده، ولا يختلف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه عنه أن المسلم لا يستقل القبر عند الدعاء، وقد نص أنه لا يقف عند الدعاء مطلقاً ذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة ويوالي القبر ظهره وقيل لا يوليه ظهره فاتفقوا في استقبال القبلة وقت الدعاء، وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت دعائه للنبي صلى الله عليه وسلم. وسبب هذا التنازع والله أعلم أن مالكاً رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له فاختلفت الرواية عنه في ذلك هل هو وفت السلام عليه والدعاء له يستقبل القبر أو يليه ظهره. وإنما اختلفت الرواية عنه لأن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يسمى دعاء. ولهذا ذهب أبو حنيفة، ومن وافقه من فقهاء العراق إلى أن المسلم يستقبل القبلة. والصحيح المشهور عن مالك استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم، وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم
يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده. وما ذكره القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك لي هذا المسجد فإن الله أدب قوماً فقال {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي} الآية، ومدح قوماً فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} وذم قوماً فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} الآية، وان حرمته ميتاً كحرمته حياً فاستكان لها أبو جعفر وقال مالك يا أبا عبد الله استقبل القبلة وادعوا ثم لم يستقبل رسول الله بعد فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبل واستشفع به فيشفعه الله قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
…
} الآية. فهذا ضعيف لا يصح عنه فإنه من أشد الناس إنكاراً على من يأتي إلى القبر ليدعو عنده أو يستشفع به، فان ثبت فلا بد أن يحمل على مذهبه وعدم المخالفة له فقد تقدم قوله ان المسلم يدنو من القبر ويصلي ويسلم ويدعو له، ومعلوم أن الصلاة عليه، والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال في الحديث الصحيح عنه عليه السلام:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلَاّ لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" فقول مالك ان ثبت معناه أنك إذا استقبلته وصليت وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فان الأمم يوم القيامة يتوسلون بشفاعته، واستشفاع العبد به في الدنيا إنما هو فعل ما هو سبب لحصول شفاعته له يوم القيامة، كإتباعه فيما جاء به وسؤال الله له الوسيلة والصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله لا فعل ما ليس من شرعه مما نهى هو وأصحابه عنه. وكذلك ما نقل عن مالك في رواية ابن وهب إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم مني الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كما تقدم موضحاً عنه. فهذا هو الدعاء المشروع هناك، كالدعاء عند زيارة قبور صائر المؤمنين وهو الدعاء لهم، فإنه صلى الله عليه وسلم أحق الناس بأن يصلي ويسلم عليه ويدعى له. وبهذا يتفق قول مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه
وذكر أنه بدعة. ونقل تلاوة هذه الآية عن مالك باطل وان ثبت أصل ما نقله عياض تقديراً فإن كلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا ولم يذكره أحد من الأئمة الأربعة فيما فعله ولا ذكر أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بعد الموت لا استغفاراً ولا غيره، وإنما يعرف مثل هذا فيما ذكره طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين:
أبيات الأعرابي عند المرقد النبوي
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وقد ذكر ذلك صاحب المواهب اللدنية أيضاً. ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء استغفار الله في حضرة القبر وتلاوة هذه الآية عنده محتجين بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لاسيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون أعلم به وأولى بالعمل من غيرهم، فان العبادات مبناها التوقيف، ولاسيما إذا نسب أمر إلى هديه وشرعه وسنته، والعقل لا مدخل لاستحسانه واستقباحه في الدين، وليس كل من قضيت حاجته بسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعاً مأموراً به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلاً، وتكون المسألة محرمة في حق السائل، حتى قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها ناراً" قالوا: يا رسول الله فلم تعطهم قال: "يأبون إلَاّ أن يسألوا ويأبى الله لي البخل" ومعلوم أن مالكاً من أعلم الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة، وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف على القبر للدعاء ويوبخ فاعله، ويذكر أنه لم يفعله السلف فكيف ينهى عن
ذلك ثم كأمر به، وهذا أمر توقيف لا اجتهاد فيه، وقد أجدب الناس على عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فاستسقى بالعباس، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك "أن عمر رضي الله عنهما استسقى بالعباس وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فهم يتوسلون بدعائه لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأموم من غير أن يقسموا على الله بمخلوق، ولا كانوا يأتون القبر فيدعون عنده بل كانوا يستسقون بأهل الصلاح الأحياء، لأن المقصود دعاؤهم لا ذاتهم، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل. ولهذا حكى البخاري رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول صلى الله عليه وسلم فيستسقي على المنبر فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يستقي الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
إذا علم ذلك فإن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى حضور قلب وأدب، ومنه وقوفه عن القبر مقدار أربعة أذرع والصحيح قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة مطرقاً رأسه غاض البصر كأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه. ويقول السلام عليك يا رسول الله، كان ابن عمر لا يزيد على ذلك. وكان بعض الصحابة يزيد النطق بالشهادتين والصلاة عليه ويقول أشهد أنك بلغت رسالة ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك كثيراً كما يحب ربنا ويرضى، وان قال اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته فحسن، ثم إذا فرغ يتقدم قليلاً من مقام سلامه نحو ذراع عن يمينه ويقول السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتيه وضجيعيه، اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيراً سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. ثم ينصرف مستقبل القبلة.
(وإما غير المشروع) فهو قصده للدعاء واتخاذه عيداً بالاجتماع عنده والسفر