المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق

[محمد بن علي بن غريب]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ ما ورد إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسائل:

- ‌سبب تأليف الرسالة:

- ‌ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر من أخذ عنه العلم:

- ‌تعصب الراوي وكبره:

- ‌ما ذكره الراوي في شأن رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونقد الراوي لها:

- ‌رد الشيخ على قول الخصم:

- ‌تعريف المرتد:

- ‌حكم التوسل بالأعمال الصالحة وبأسماء الله وصفاته:

- ‌تعريف الدليل لغة واصطلاحاً:

- ‌قصائد في مدح الشيخ من علماء الأقطار:

- ‌رد قول الخصم أن الشيخ أخذ علمه من كتب ابن تيمية:

- ‌تعريف التقليد:

- ‌تعريف الإجماع:

- ‌رجوع إسماعيل بن اسحق الأشعري عن معتقداته:

- ‌تعريف السلف

- ‌حدوث العالم وأنه لا خالق سوى الله:

- ‌المعاد الجسماني والمجازاة:

- ‌جواز العفو عن المذنبين:

- ‌شفاعة الرسل:

- ‌إنكار الخوارج والمعتزلة للشفاعة:

- ‌عقيدة السلف الصالح في الشفاعة:

- ‌بعثة الرسل بالمعجزات حق:

- ‌أهل الشجرة وأهل بدر من أهل الجنة:

- ‌وجوب نصب الإمام على المكلفين:

- ‌الإمام الحق بعد الرسول أبو بكر ورد قول الرافضة:

- ‌الأفضلية على ترتيب الخلافة

- ‌عدم تكفير أحد من أهل القبلة:

- ‌التوحيد وما يتعلق به:

- ‌الاعتقاد المكفر أقسام:

- ‌تارك الصلاة كافر، وإقامة الدليل عليه:

- ‌الأدلة على كفر تارك الصلاة:

- ‌الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة:

- ‌مسائل الإيمان والإسلام والفرق الضالة:

- ‌حكم الفاسق:

- ‌كفر دون كفر:

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله كفر عملي:

- ‌الجمع بين حديثي "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " وبين حديث " لا يزني الزاني

- ‌النفاق نفاقان

- ‌حكم ما يفعله العوام من الدعاء والهتف

- ‌حمل نصوص القرآن وغيرها على ظواهرها

- ‌تعريف العبادة

- ‌حمل المؤمن عل الصلاح

- ‌وجوب الاستغفار والترضي لمن سلف

- ‌زيارة القبور الشرعية وما ورد في ذلك

- ‌الشفاعة الثابتة والمنفية والمنهي عنها

- ‌الدعاء عند الموتى أو بهم ليس من الوسائل المشروعة

- ‌مسألة شد الرحال إلى زيارة القبور

- ‌حكم المتهاون بصلاته

- ‌المسابقة مع الإمام يبطل الصلاة وكلام الإمام أحد فيها

- ‌لبس الخلقة والخيط لدفع البلاء أو رفعه من الشرك

- ‌حكم التبرك بالشجر والحجر

- ‌الدلائل القائمة على ألوهية الخالق

- ‌تعريف النذر لغة وشرعاً وحكم النذر لغير الله

- ‌الاستعاذة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌نداء غير الله هو الدعاء الذي هو العبادة

- ‌الاستغاثة بغير الله وتفصيل الكلام فيها

- ‌من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

- ‌قول البوصيري يا أكرم الخلق وحديث بن مظعون وتزكية الناس ورد قول الخصم فيما يتعلق بقول البوصيري

- ‌بحث قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

- ‌الكلام في العبادة والعبودية

- ‌قول الخصم لا يلزم من دعاء الغير أن يكون شركاً في العبادة والجواب عنه

- ‌قول الخصم كيف يقال طلب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إشراك والجواب عنه

- ‌الشفاعة ومعناها ورد قول المخالف

- ‌الاعتصام بالكتاب والسنة

الفصل: وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

‌تعريف العبادة

و (العبادة) هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. كالتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين، والبهائم، وكذلك الدعاء والذكر، والقراءة، وحب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك من العبادة التي شرعها الله لعباده وأمرهم بفعلها خالصة لوجهه، وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة لله، والمرضية له. التي خلق الخلق لها كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة المحكمة إلى يوم القيامة.

وأما الآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، فهي المبينات المفصلات سميت بذلك لظهورها ووضوح معناها المراد منها.

وأما الآيات المتشابهات فقال محمد بن إسحاق بن يسار هن ما تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحمل أشياء أخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. فالمتشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم

ص: 191

في الحلال والحرام لا يصرفن إلى الباطل ولا يخرجن عن الحق ولهذا قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} أي الذين في قلوبهم ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة لاحتمال لفظه إلى ما يصرفونه إليه.

فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، ولا سبيل لهم إليه، لأنه دافع لهم وحجة عليهم، ولهذا قال ابتغاء الفتنة التي هي الشرك والإضلال بالبدع وسائر المحظورات.

ومنها أيضاً ما استأثر الله بعلمه فلا سبيل لأحد إلى علمه، نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، ونزول المطر، والرحمة، والعذاب والشدة، والراسخ في العلم يقول في متشابه التنزيل آمنا به كل من عند ربنا، فان وجد ما ظاهره يخالف المكم رد الفرع إلى أصله وعرف حقيقة قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، وان المتشابهات لا يخالفن المحكمات في التوحيد ولا في الأمر والنهي والوعد والوعيد، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " فيفسر المشابه بأم الكتاب فان بعض الآيات تظهر للجاهل معنى غير مراد فيعجزه عن فهم معناها المراد ويحملها على ما تميل إليه نفسه من الهوى والعناد فرده الراسخ إلى أم الكتاب، فمن ذلك قوله تعالى أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فهذه الآية يشعر ظاهرها الأمر بالفسق، ويفسرها قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وقوله {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} ، فمثل هذه الآيات المحكمات هن أم الكتاب ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ربما فهم منه تقرير هذه الملل ما لم يرده إلى محكمه. وهو قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} والله سبحانه ذكر أهل الكتاب وما ارتكبوا من قبائح الذنوب الموبقة ثم قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من قوم أي رسول لم يؤمن برسوله قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ومن آمن برسوله آمن بكل رسول كما أمر

ص: 192

الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ

الآية} وقد رد الصديق الأكبر رضي الله عنه فهم من قال في معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} انه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وهذا من المتشابه يرجع فيه إلى محكمه وهو قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ويكون معنى لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أمرتم ونهيتم فلم يسمع لأن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا أدى الذي عليه فلا ضرر عليه من ضلال من لا يأتمر أو ينتهي، وكذا قوله:{لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} يفهم منه أنه تعالى يزيغ القلب بلا سبب فيفسر بمحكمه وهو قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فقيد المحكم الذي هو أم الكتاب قيد للمطلق وهو واسع النطاق من تأمل وحقق تحقق، ومن زاغ قلبه بعدم القبول أمحق واسحق، والله قد اتبع قوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وبقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وفيه نوع من الاشتباه يرجع فيه إلى قوله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وإذا وقف العبد إنتبه عن إتباع ما فيه نوع تشابه كما في هذه الآية وفتح له باب في الفصل والوصل نفعه خصوصاً في الجمل المعترضة. وحاصله كل ما في الكتاب من آية يستشكلها العقل لاحتمالها معنيين فصاعداً أو بعض تلك المعاني المفهومة بها أو فيها أو عنها فاقض لآيات من الكتاب أو آيات فتلك من المتشابهات تفسرها الآيات المحكمات لأن القرآن كله لا يتناقض بل هو نور وحجج واضحات. قال ابن كيسان المحكمات حججها واضحة ودلائلها لائحة لا حاجة لمن سمعها إلى طلب معانيها، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل انتهى، ومنه قوله سبحانه:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} فان من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة على قصده الفاسد وميل هواه الذي له قائد ويزعم أنه مهتد فيضل بهذا والله يقول: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ

} الآية وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} فمن زاغ قلبه جعل الأمر آنفاً ونفى تقدم علم الله بما هو

ص: 193

كائن، ومن كان على نور من ربه فسر القرآن بالقرآن، وأعاد هذا إلى قوله:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ} .

وأول من تكلم بالقدر وان الأمر أنف، معبد الجهني، الذي في البصرة، قاله يحيى بن يعمر قال فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله معبد فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنه فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إليّ فقلت أبا عبد الرحمن أنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر انما الأمر أنف، قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني برآء، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم ساق حديث جبريل الذي رواه عمر بن لخطاب رضي الله عنه، ومما يتخيل ويشبه أن يكون من المتشابه قوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ليسوا من عباده تعالى وقد قال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} ومحكم هذا وأمه قوله إلا عبادك منهم المخلصين فهم المقيد بم هذا الإطلاق، وهذا واسع في كلام الخلاق، ويشبه في الآية ان المخلص لا سبيل للشيطان إليه البتة وليس كذلك إنما ليس له سلطان ان يتمكن من المخلص فيرتكب ذنباً لا يغفر، محكمه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} وقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} وقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} وهؤلاء هم عباد الله المخلصون وهذا واسع في كلام رب العالمين، ومنه قوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} يفهم منه عموم الاستغفار فيرد إلى محكمه وهو قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا....} الآية فإنه لم يأذن الله للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين والله لا يغفر أن يشرك به، وهذا تفسير القرآن بالقرآن فانه التبيان، ومنه قوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} من قصر فهمه خيل أن التمام الانقضاء والانتهاء فيرد إلى محكمه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} فهذه الآية تدل من لا زيغ في قلبه ان قوله وتمت كلمة ربك معناه قوله الحق الكامل بكل مقصد

ص: 194

محكم، وقد أتبعه بقوله لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم، فالقرآن مصون عن النسخ جملة والتبديل محفوظ عما وقع في التوراة والإنجيل لقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والآيات في المعنى كثيرة جداً ومن قرع باب التحصيل وفق للحصول والمحصول، فالقرآن العزيز كله محكم باعتبار تفسير ما تشابه منه مما ذكر بالمحكم، وعن رسخ ولم يزغ قلبه قال رب زدني علماً كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب زيادة العلم، وكما أن القرآن كله محكم بأخبار من أنزل كذلك كله متشابه يشبه بعضه بعضاً قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} وهذه الآية الشريفة عرفت الناظر المراد بالمتشابه فيها بقوله مثاني تكرار الآيات والقصص والحسن والوقع في عدة مواضع فيشبه بعضه بعضاً في قصصه ومعانيه وألفاظه ومبانيه وحسنه ووقعه والصدق، بعضه يصدق بعضاً وهذا بحر زاخر ليس له ساحل وان تخيل من تخيل انه بلغ ما يروم فخياله باطل قاصر وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فالقرآن تبيان كل شيء منزل بتوحيد الله، وإفراده سبحانه بعبادته ومعاملته لا شريك له، هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق به لا يخفى عليه شاذة ولا فاذة مما أشكل على الأمة ونشأ عنه الخلاف بينهم من اشتراك الألفاظ والمعاني، فانه نشأ عن الاشتراك مما يعرفه أرباب الإدراك، وكذا الحقيقة والمجاز فانه نشأ عنهما في فنون شتى ما يحتاج أقله إلى أطناب ولا يجدي فيه إلا الايجاز، ولا يختلف عليه صلى الله عليه وسلم ما يختلف على الراسخين في العلم من الفرد والتركيب التي يعرف فيها المخطىء من المصيب، ولا يعزب عنه معرفة العموم والخصوص، إذ هو السند المنصوص ولا يختلج عليه الرواية والنقل، فلا ينطق عن الهوى ولا بما يحسنه العقل ولا يتوقف فكره في الاجتهاد فيما لا نص فيه كما يقع لكل تحرير فيما يظهره ويخفيه ولا يقر على الخطأ مجتهداً فيما قاله بفيه، وهو صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بالناسخ والمنسوخ على الإطلاق، وعنه عرفت الإباحة والتوسيع في كل الآفاق، وهذه الثمانية الأمور المذكورة نشأ عنها الخلاف والاختلاف بين الرفاق إلا في العبادة بأنواعها فإنها لله وحده لا شريك له لم يجز فيها اختلاف بين المسلمين إنما جعلها لغيره من خلقه غيرهم من المشركين، والله تعالى يقول:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضاً لا محكمه ولا متشابهه، وكذلك كلام الني صلى الله عليه وسلم وأحاديثه لا تخالف فيها ولا تناقض، ولا يخالف كلام الله ولا يناقضه بل يحمل مطلقه على مقيده ومتشابهه على محكمه، وكما أن في القرآن آيات متشابهات استأثر

ص: 195